فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَٰمِهِمۡۖ فَمَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَقۡرَءُونَ كِتَٰبَهُمۡ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا} (71)

{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ( 71 ) }

{ يَوْمَ } أي أذكر يوم { نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } قال الزجاج : يعني يوم القيامة وقرئ يدعو بالتحتية ، ويدعى على المجهول ، والأناس فعال بضم الفاء ويجوز حذف الهمزة تخففا على غير قياس فيبقى ناس ووزنه عال والباء للإلصاق كما تقول أدعوك باسمك .

ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال والتقدير ندعو كل أناس متلبسين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب الأمير بجنوده والأول أولى ، والإمام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدم في الدين أو الكتاب .

وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي يدعى كل أناس به فقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك : أنه كتاب كل إنسان الذي فيه علمه أي يدعى كل إنسان بكتاب عمله ، ويؤيد هذا قوله : { فأما من أوتي كتابه } الآية .

وقال ابن زيد : الإمام هو الكتاب المنزل عليهم فيدعى أهل التوراة بالتوراة وأهل الإنجيل بالإنجيل وأهل القرآن بالقرآن ، فيقال : يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل ، يا أهل القرآن .

وقال مجاهد وقتادة : إمامهم نبيهم . وعن أنس مثله فيقال : هاتوا متبعي إبراهيم ، هاتوا متبعي موسى ، هاتوا متبعي عيسى ، هاتوا متبعي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم وبه قال الزجاج ، وروي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا فلينظر في سنده .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المراد بالإمام إمام عصرهم فيدعى أهل كل عصر بإمامهم الذي كانوا يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه . وقال الحسن وأبو هريرة وأبو العالية : المراد بإمامهم أعمالهم ؛ فيقال مثلا : أين المجاهدون أين الصابرون أين الصائمون أين المصلون ونحو ذلك .

وقال أبو عبيدة : المراد إمامهم صاحب مذهبهم ، فيقال مثلا : أين التابعون للعالم فلان بن فلان ، وهذا من البعد بمكان ، وأبعد منه ما قال محمد ابن كعب : بإمامهم بأمهاتهم ، على أن إماما جمع أم كخف وخفاف .

وأيضا في هذا القول نظر فإن في الحديث الصحيح عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة رفع لكل غادر لواء ، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان ) أخرجه البخاري ومسلم{[1082]} .

وهذا دليل على أن الناس يدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ويرد على من قال إنما يدعون بأسماء آبائهم وبأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم ، ولذا قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم وأنهم يدعون بأمهاتهم دون آبائهم ، وأن الحكمة فيه رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا .

قال القرطبي : قيل بمذاهبهم فيدعون بما كانوا يأتمون به في الدنيا ويقلدونه ، فيقال : يا حنفي ، يا شافعي ، يا معتزلي ، يا قدري ، ونحو ذلك .

وهذا كالأول بل أبعد منه ، وقيل كل خلق حسن يظهر من الإنسان كالعلم والكرم والشجاعة أو قبيح كأضدادها ، فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن هو كالإمام ، ذكره الرازي في تفسيره . وعن ابن عباس قال : بإمامهم إمام هدى وإمام ضلالة ، وعنه أيضا بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم وقيل بمعبودهم . وأخرج الترمذي وحسنه البزار وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية أنه قال : ( يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ستين ذراعا ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا .

وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ستين ذراعا على صورة آدم ويلبس تاجا من نار فيراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا ، اللهم لا تأتنا بهذا . قال فيأتيهم فيقولون اللهم أخره ، فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ) {[1083]} قال البزار : بعد إخراجه لا يروى إلا من هذا الوجه .

{ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } من أولئك المدعوين وهو السعداء أولو البصائر وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف والتبشير { فَأُوْلَئِكَ } إشارة إلى من باعتبار معناه . قيل وجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الإنفراد { يَقْرَأونَ كِتَابَهُمْ } الذي أوتوه { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل وهو القشرة التي في شق النواة أو هو عبارة عن أقل شيء ، وفي النواة أمور ثلاثة : فتيل وهو الخيط الذي في الحز الكائن فيها طولا ، والقطمير وهو قشرة النواة ، والنقير وهو الخيط الذي في النقرة التي في ظهرها .


[1082]:مسلم 1735 – البخاري 1505.
[1083]:المستدرك كتاب التفسير 2 / 243.