الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۭ بِإِمَٰمِهِمۡۖ فَمَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَقۡرَءُونَ كِتَٰبَهُمۡ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلٗا} (71)

قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على الظرف ، والعاملُ " فَضَّلْناهم " ، أي : فَضَّلْناهم بالثوابِ يوم نَدْعُو . قال ابن عطية في تقريره : " وذلك أنَّ فَضْلَ البشرِ على سائرِ الحيوان يوم القيامةِ بيِّنٌ ؛ إذ هم المُكَلَّفون المُنَعَّمون المحاسَبون الذين لهم القَدْرُ . إلا أنَّ هذا يَرُدُّه أن الكفار [ يومئذٍ ] أَخْسَرُ مِنْ كلِّ حيوان ، لقولِهم : { يلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] .

الثاني : أنه منصوبٌ على الظرف ، والعاملُ فيه اذكر ، قاله الحوفيُّ وابنُ عطية . قلت : وهذا سهوٌ ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً ؟ بل هو مفعولٌ .

الثالث : أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وإنما بُنِيَ لإِضافتِهِ إلى الجملةِ الفعلية ، والخبرُ الجملةُ بعده . قال ابنُ عطية في تقريره : " ويَصِحُّ أَنْ يكونَ " يوم " منصوباً على البناء لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكِّن ، ويكون موضعُه رفعاً بالابتداء ، وخبرُه في التقسيم الذي أتى بعدَه في قوله { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } إلى قوله { وَمَن كَانَ } . قال الشيخ : " قوله منصوبٌ على البناء " كان ينبغي أن يقول : مبنيَّاً على الفتح ، وقوله " لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكن " ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ المتمكِّنَ وغيرَ المتمكِّنِ إنما يكون في الأسماءِ لا في الأفعالِ ، وهذا أُضيفَ إلى فعلٍ مضارع ، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ ، والكوفيون يُجيزون بناءَه . وقوله : " والخبر في التقسيم " إلى آخره ، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملةَ التقسيم بالابتداء " . قلت : الرابطُ محذوفٌ للعلمِ به ، أي : فَمَنْ أُوتي كتابَه فيه .

الرابع : أنه منصوبٌ بقولِه " ثم لا تجدوا " قاله الزجَّاج . الخامس : أنه منصوبٌ ب " يُعيدكم " مضمرةً ، أي : يُعيدكم يومَ نَدْعو . السادس : أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه { وَلاَ يُظْلَمُونَ } بعده ، أي : ولا يُظْلَمون يوم ندعو ، قاله ابن عطية وأبو البقاء . السابع : أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه { مَتَى هُوَ }

[ الإِسراء : 51 ] . الثامن : أنه منصوبٌ بما تقدَّمه مِنْ قولِه تعالى : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [ الإِسراء : 52 ] . التاسع : أنه بدلٌ مِنْ { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ }

[ الإِسراء : 52 ] . وهذان القولان ضعيفان جداً لكثرة الفواصل . العاشر : أنه مفعولٌ به بإضمار " اذكر " ، وهذا -وإن كان أسهلَ التقاديرِ- أظهرُ ممَّا تقدم ؛ إذ لا بُعْدَ فيه ولا إضمارَ كثيرٌ .

وقرأ العامَّة " نَدْعو " بنون العظمة ، ومجاهدٌ " يَدْعُو " بياء الغيبة ، أي : الله تعالى أو المَلَك . و " كلَّ " نصبٌ مفعولاً به على القراءتين .

وقرأ الحسن فيما نقله الدانيُّ عنه " يُدْعَى " مبنياً للمفعول ، " كلُّ " مرفوعٌ لقيامِه الفاعلِ ، وفيما نقله عنه غيرُه " يُدْعَو " بضمِّ الياء وفتح العين ، بعدها واوٌ . وخُرِّجَتْ على وجهين ، أحدُهما : أن الأصلَ : يُدْعَوْن فَحُذِفت نونُ الرفعِ كما حُذِفَتْ في قولِه عليه السلام : " لا تَدْخُلوا الجنة حتى تُؤْمنوا ، ولا تُؤْمنوا حتى تحابُّوا "

وقوله :

أَبَيْتُ أَسْرِيْ وتَبِْيْتي تَدْلُكِيْ *** وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكي

و " كلٌّ " مرفوعٌ بالبدلِ من الواوِ التي هي ضميرٌ ، أو بالفاعليةِ والواوُ علامةٌ على لغةِ " يتعاقبون فيكمْ ملائكةٌ " .

والتخريجُ الثاني : أنَّ الأصلَ " يُدْعَى " كما نَقَله عنه الدانيُّ ، إلا أنه قَلَبَ الألفَ واواً وَقْفاً ، وهي لغةٌ لقومٍ ، يقولون : هذه أفْعَوْ وعَصَوْ ، يريدون : أَفْعى وعَصا ، ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ . و " كلُّ " مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعلِ على هذا ليس إلا .

قوله : " بإمامِهم " يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ متعلقةٌ بالدعاء ، أي : باسمِ إمامهم ، وأن تكونَ للحالِ فيتعلَّقَ بمحذوف ، أي : نَدْعُوهم مصاحبين لكتابهم . والإِمام : مَنْ يُقْتَدَى به . وقال الزمخشري " " ومن بِدَع التفاسير : أن الإِمامَ جمع " أُمّ " وأنَّ الناسَ يُدْعَوْنَ يومَ القيامة بأمهاتهم دونَ آبائهم ، وأن الحكمةَ فيه رِعايةُ حقِّ عيسى ، وإظهارِ شرفِ الحسن والحسين ، وأن لا يُفْضَحَ أولادُ الزِّنى " قال : " وليت شعري أيهما أَبْدَعُ : أصحةُ لفظِه أم بَهاءُ معناه ؟ " .

قلت : وهو معذورٌ لأن " أُمّ " لا يُجْمع على " إمام " ، وهذا قولُ مَنْ لا يَعْرف الصناعةَ ولا لغةَ العربِ ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى فإنَّ الله تعالى نادى عيسى باسمِه مضافاً لأمِّه في عدةِ مواضعَ من قوله { يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } [ المائدة : 110 ] ، وأَخْبرعنه كذلك نحو : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } [ الصف : 6 ] ، وفي ذلك غَضاضةٌ من أميرِالمؤمنين عليّ رضي الله عنه وكرَّم وجهَه .

قوله : { فَمَنْ أُوتِيَ } يجوز أن تكونَ شرطيةً ، وأن تكونَ موصولةً ، والفاءُ لشَبَهه بالشرط . وحُمِل على اللفظِ أولاً في قوله { أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } فَأُفْرِد ، وعلى المعنى ثانياً في قولِه : " فأولئك " فَجُمِع .