معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (52)

قوله عز وجل :{ وقالوا آمنا به } حين عاينوا العذاب ، قيل : عند اليأس . وقيل : عند البعث . { وأنى } من أين ، { لهم التناوش } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : التناوش بالمد والهمزة ، وقرأ الآخرون بواو صافية من غير مد ولا همز ، ومعناه التناول ، أي : كيف لهم تناول ما بعد عنهم ، وهو الإيمان والتوبة ، وقد كان قريباً في الدنيا فضيعوه ، ومن همز قيل : معناه هذا أيضاً . وقيل التناؤش بالهمزة من النيش وهو حركة في إبطاء ، يقال : جاء نبشاً أي : مبطئاً متأخراً ، والمعنى من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه ، وعن ابن عباس قال : يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وأنى لهم الرد إلى الدنيا . { من مكان بعيد } أي : من الآخرة إلى الدنيا .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (52)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ آمَنّا بِهِ وَأَنّىَ لَهُمُ التّنَاوُشُ مِن مّكَانِ بَعِيدٍ } .

يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله آمنا به ، يعني : آمنا بالله وبكتابه ورسوله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ قالوا : آمنا بالله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالُوا آمَنّا بِهِ عند ذلك ، يعني : حين عاينوا عذاب الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ بعد القتل وقوله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ يقول : ومن أيّ وجه لهم التناوش .

واختلفت قرّاء الأمصار في ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة التّناوُشُ بغير همز ، بمعنى : التناول وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة : «التّناؤُشُ » بالهمز ، بمعنى : التنؤّش ، وهو الإبطاء ، يقال منه : تناءشت الشيء : أخذته من بعيد ، ونشته : أخذته من قريب ومن التنؤّش قول الشاعر :

تَمَنّى نَئِيشا أنْ يكُونَ أطاعَنِي *** وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأمُورِ أمُورُ

ومن النّوْش قول الراجز :

فَهْيَ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشا مِنْ عَلا *** نَوْشا بِهِ تَقْطَعُ أجْوَازَ الفَلا

ويقال للقوم في الحرب ، إذا دنا بعضهم إلى بعض بالرماح ولم يتلاقوا : قد تناوش القوم .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، وذلك أن معنى ذلك : وقالوا آمنا بالله ، في حين لا ينفعهم قيل ذلك ، فقال الله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ أي وأين لهم التوبة والرجعة : أي قد بعدت عنهم ، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها وإنما وصفت ذلك الموضع بالبعيد ، لأنهم قالوا ذلك في القيامة ، فقال الله : أني لهم بالتوبة المقبولة ، والتوبة المقبولة إنما كانت في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدا من الاَخرة ، فبأية القراءتين اللتين ذكرت قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك .

وقد يجوز أن يكون الذين قرؤوا ذلك بالهمز همزوا ، وهم يريدون معنى من لم يهمز ، ولكنهم همزوه لانضمام الواو فقلبوها ، كما قيل : وَإذَا الرّسُلُ أُقّتَتْ فجعلت الواو من وُقتت ، إذا كانت مضمومة همزوه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله : وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : يسألون الردّ ، وليس بحين ردّ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس نحوه .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ يقول : فكيف لهم بالردّ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : الردّ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : التناول مِنْ مَكانٍ بَعيد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقالُوا آمَنّا بِهِ وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال : هؤلاء قتلى أهل بدر من قتل منهم ، وقرأ : وَلَوْ تَرَى إذْ فَزِعُوا فَد فَوْتَ وأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنّا بِهِ . . . الاَية ، قال : التناوش : التناول ، وأنّى لهم تناول التوبة من مكان بعيد ، وقد تركوها في الدنيا ، قال : وهذا بعد الموت في الاَخرة .

قال : وقال ابن زيد في قوله وَقالُوا آمَنّا بِهِ بعد القتل وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ وقرأ : وَلا الّذِينَ يَمُوتونَ وَهُمْ كُفّارٌ قال : ليس لهم توبة ، وقال : عرض الله عليهم أن يتوبوا مرّة واحدة ، فيقبلها الله منهم ، فأبوا ، أو يعرضون التوبة بعد الموت ، قال : فهم يعرضونها في الاَخرة خمس عرضات ، فيأبى الله أن يقبلها منهم قال : والتائب عند الموت ليست له توبة وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا على النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا . . . الاَية ، وقرأ : رَبّنا أبْصَرْنا وَسمعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صَالِحا إنّا مُوقِنُونَ .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان ، عن جُويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ قال : وأنى لهم الرجعة .

وقوله : مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يقول : من آخرتهم إلى الدنيا ، كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من الاَخرة إلى الدنيا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (52)

{ وقالوا آمنا به } بمحمد عليه الصلاة والسلام ، وقد مر ذكره في قوله : { ما بصاحبكم } . { وأنى لهم التناوش } ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا . { من مكان بعيد } فإنه في حيز التكليف وقد بعد عنهم ، وهو تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعدما فات عنهم أوانه وبعد عنهم ، بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة ، وقرأ أبو عمرو والكوفيون غير حفص بالهمز على قلب الواو لضمتها . أو أنه من نأشت الشيء إذا طلبته قال رؤبة :

أقحمني جار أبي الجاموش *** إليك نأش القدر التؤوش

أو من نأشت إذا تأخرت ومنه قوله :

تمنى نشيشا أن يكون أطاعني*** وقد حدثت بعد الأمور أمور

فيكون بمعنى التناول من بعد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (52)

الضمير في { به } عائد على الله تعالى ، وقيل على محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه والقرآن ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وعامة القراء «التناوُش » بضم الواو دون همز ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم أيضاً «التناؤش » بالهمز ، والأولى معناها التناول من قولهم ناش ينوش إذا تناول وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضاً بالسلاح ، ومنه قول الراجز : [ الرجز ]

فهي تنوش الحوض نوشاً من علا . . . نوشاً به تقطع أجواز الفلا{[9678]}

فكأنه قال وأنى لهم تناول مرادهم وقد بعدوا عن مكان إمكان ذلك ، وأما التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناؤش الذي تقدم تفسيره وهمزت الواو لما كانت مضمونة وكانت ضمتها لازمة ، كما قالوا أقتت وغير ذلك{[9679]} ، ويحتمل أن يكون من الطلب ، تقول " تناءشت الشيء " {[9680]} إذا طلبته من بعد ، وقال ابن عباس تناؤش الشيء رجوعه حكاه عنه ابن الأنباري وأنشد : [ الوافر ]

تمنى أن تؤوب إليك ميّ . . . وليس إلى تناوشها سبيل{[9681]}


[9678]:هذان البيتان من الرجز المشطور، ذكرهما صاحب التاج، وصاحب اللسان مرتين، مرة في (علا) شاهدا على أن قوله:(من علا) معناه: من أعلى، ومرة في (نوش) شاهدا على أن التناوش معناه: التناول، وقال في التاج: هو لأبي النجم الراجز، أو لغيلان ابن حريث، أما في اللسان فقد نسبه إلى أبي النجم في (علا)، وإلى غيلان في (نوش).وذكرهما الجوهري في الصحاح ولكنه لم ينسبهما، وقال: المعنى أنها تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر. وذكرهما كذلك الفراء في (معاني القرآن)، وأبو عبيدة في (مجاز القرآن). وهذا الضمير في (فَهْيَ) يعود على الإبل، وتنوش الحوض: تتناول منه الماء، من علا: من فوق، وأجواز: جمع جوز وهو الوسط، أي: وسط الصحراء الواسعة، يصف الإبل بأنها عالية الأجسام طويلة الأعناق، ولذلك فهي تتناول الماء من الحوض من فوق وتشرب كثيرا، فيساعدها ذلك على قطع الفلاة بدون أن تحتاج إلى ماء آخر.
[9679]:قال أبو حيان الأندلسي تعقيبا على ذلك:"ليس على إطلاقه، بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كانت مدغمة فيها".
[9680]:في الأصل:"اتناءشت الشر"، وهو خطأ، والصواب ما ذكرناه، ونعتقد أن هذا الخطأ نشأ عن تحريف من النساخ.
[9681]:هذا شاهد على أن التناوش يكون بمعنى الرجوع، ويروى البيت:"تمنى أن تؤوب إلي"، وآب معناها: رجع، وفي الكتاب العزيز:{وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}، وفي الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أقبل من سفر قال:(آيبون تائبون، لربنا حامدون)، وعلى هذا يكون معنى البيت: يتمنى رجوع ميّ ولكن ليس إلى رجوعها من سبيل، ويكون المعنى في الآية: يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا وهيهات لهم ذلك.