معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

قوله تعالى : { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } أرض مكة ، نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ، ولكنا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة . وهو معنى قوله : { نتخطف من أرضنا } والاختطاف : الانتزاع بسرعة . قال الله تعالى : { أولم نمكن لهم حرما آمنا } وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضاً ، وأهل مكة آمنون حيث كانوا ، لحرمة الحرم ، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة ، { يجبى } قرأ أهل المدينة ويعقوب : تجبى بالتاء لأجل الثمرات ، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ، أي : يجلب ويجمع ، { إليه } يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته ، قال مقاتل : يحمل إلى الحرم ، { ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن ما يقوله حق .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

ثم حكى - سبحانه - جانبا من الاعتذارات الواهية التى تذرع بها المشركون فى عدم الدخول فى الإسلام .

فقال - تعالى - : { وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } والتخطف : الانتزاع بسرعة . يقال : فلان اختطفه الموت . إذا أخذه بغتة بدون إمهال .

وقد ذكروا فى سبب نزولها ، أن بعض المشركين أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له : يا محمد ، نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخشى إن اتبعناك ، وخالفنا العرب ، أن يتخطفونا من أرضنا ، وإنما نحن أكلة رأس - أى : قليلون لا نستطيع مقاومة العرب .

وقد رد الله - تعالى - على تعللهم هذا بقوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .

وقوله : { يجبى إِلَيْهِ } أى : يحمل إليه ، يقال جبى فلان الماء فى الحوض إذا جمعه فيه ، وحمله إليه .

والاستفهام لتقريعهم على قولهم هذا الذى يخالف الحقيقة .

أى : كيف قالوا ذلك ، مع أننا قد جعلنا لهم حرما ذا أمان يعيشون من حوله ، وتأتيهم خيرات الأرض من كل مكان ، وقد فعلنا ذلك معهم وهم مشركون ، فكيف نعرضهم للخطف وهم مؤمنون .

قال صاحب الكشاف : وكانت العرب فى الجاهلية حولهم - أى حول أهل مكة - يتغاورون ويتناحرون وهم آمنون مطمئنون فى حرمهم ، وبحرمة البيت هم قارون بواد غير ذى زرع ، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل مكان ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها ، وهم كفرة عبدة أصنام ، فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخطف والخوف ، ويسلبهم الأمن ، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة ، الإسلام . . .

والتعبير بقوله - سبحانه - : { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً } للإشعار بكثرة الخيرات والثمرات ، التى تأتى إلى أهل مكة من كل جانب من جوانب الأرض ، ومن كل نوع من أنواع ثمارها . والجملة الكريمة صفة من صفات الحرم .

وقوله - تعالى - : { مِّن لَّدُنَّا } أى : من جهتنا ومن عندنا وليس من عند غيرنا الذين تخشون غضبهم أو تخطفهم لكم ، إن اتبعتم الرسول صلى الله عليه وسلم .

فالمقصود بهذه الجملة الكريمة بيان سعة فضل الله - تعالى - ، وأنه هو القادر على كل شىء .

وقوله - تعالى - : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } متعلق بقوله { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } .

أى : لقد جعلنا لهم حرما ذا أمن ، وأفضنا عليهم من خيرات الأرض ، ولكن أكثرهم يجهلون هذه الحقيقة ، ويجهلون أن اتباعهم للدين الحق ، يؤدى إلى سعادتهم فى حياتهم وبعد مماتهم .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ }

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

هذه بعض معاذيرهم قالها فريق منهم ممن غلبه الحياء على أن يكابر ويجاهر بالتكذيب ، وغلبه إلف ما هو عليه من حال الكفر على الاعتراف بالحق ، فاعتذروا بهذه المعذرة ، فروي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وناساً من قريش جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحارث « إنا لنعلم أن قولك حق ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بهم وإنما نحن أكلة رأس » ( أي أن جمعنا يشبعه الرأس الواحد من الإبل وهذه الكلمة كناية عن القلة ) فهؤلاء اعترفوا في ظاهر الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى .

والتخطف : مبالغة في الخطف ، وهو انتزاع شيء بسرعة ، وتقدم في قوله تعالى { تخافون أن يتخطفكم الناس } في سورة الأنفال ( 26 ) . والمراد : يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم ، فرد الله عليهم بأن قريشاً مع قلتهم عدّاً وعدة أتاح الله لهم بلداً هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب واشتغالهم بالغارة على جيرتهم وجبى إليهم ثمرات كثيرة قروناً طويلة ، فلو اعتبروا لعلموا أن لهم منعة ربانية وأن الله الذي أمنهم في القرون الخالية يؤمنهم إن استجابوا لله ورسوله .

والتمكين : الجعل في مكان ، وتقدم في قوله تعالى { مكّنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم } في سورة الأنعام ( 6 ) ، وقوله في أول هذه السورة ( 6 ) { ونمكن لهم في الأرض } واستعمل هنا مجازاً في الإعداد والتيسير .

والجبي : الجمع والجلب ومنه جباية الخراج .

والاستفهام إنكار أن يكون الله لم يمكن لهم حرماً . ووجه الإنكار أنهم نزلوا منزلة من ينفي أن ذلك الحرم من تمكين الله فاستفهموا على هذا النفي استفهام إنكار .

وهذا الإنكار يقتضي توبيخاً على هذه الحالة التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرماً .

والواو عطفت جملة الاستفهام على جملة { وقالوا } . والتقدير : ونحن مكنا لهم حرماً .

و { كل شيء } عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي ، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل { كل } في معنى الكثرة .

و { رزقاً } حال من { ثمرات } وهو مصدر بمعنى المفعول .

ومعنى { من لدنا } من عندنا ، والعندية مجاز في التكريم والبركة ، أي رزقاً قدرناه لهم إكراماً فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص بالله تعالى .

وقد حصل في خلال الرد لقولهم إدماج للامتنان عليهم بهذه النعمة ليحصل لهم وازعان عن الكفر بالمنعم : وازع إبطال معذرتهم عن الكفر ، ووازع التذكير بنعمة المكفور به .

وموقع الاستدراك في قوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنه متعلق بالكلام المسوق مساق الرد على قولهم { إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } إذ التقدير : أن تلك نعمة ربانية ولكن أكثرهم لا علم لهم فلذلك لم يتفطنوا إلى كُنه هذه النعمة فحسبوا أن الإسلام مفضضٍ إلى اعتداء العرب عليهم ظنّاً بأن حرمتهم بين العرب مزيّة ونعمة أسداها إليهم قبائل العرب .

وفعل { لا يعلمون } منزَّل منزلة اللازم فلا يقدَّر له مفعول ، أي ليسوا ذوي علم ونظر بل هم جهلة لا يتدبّرون الأحوال . ونُفِي العلم عن أكثرهم لأن بعضهم أصحاب رأي فلو نظروا وتدبروا لما قالوا مقالتهم تلك .

ولو قدر لفعل { يعلمون } مفعول دل عليه الكلام ، أي لا يعلمون تمكين الحرم لهم وأن جلب الثمرات إليهم من فضلنا لما استقام إسناد نفي العلم إلى أكثرهم بل كان يسند إلى جميعهم لإطباق كلمتهم على مقالة { إن نتبع الهُدى معك نُتَخطَّف من أرضنا } .

وقرأ نافع وأبو جعفر ورويس عن يعقوب { تُجْبَى } بالمثناة الفوقية . وقرأ الباقون بالياء التحتية مراعاة للمضاف إليه وهو { كل شيء } فأكسب المضاف تأنيثاً .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالُوٓاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلۡهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفۡ مِنۡ أَرۡضِنَآۚ أَوَلَمۡ نُمَكِّن لَّهُمۡ حَرَمًا ءَامِنٗا يُجۡبَىٰٓ إِلَيۡهِ ثَمَرَٰتُ كُلِّ شَيۡءٖ رِّزۡقٗا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (57)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف القرشي، وذلك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن الذي تقول حق؛ ولكنا يمنعنا أن نتبع الهدى معك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا- يعنى مكة- فإنما نحن أكلة رأس العرب، ولا طاقة لنا بهم، يقول الله تعالى: {أولم نمكن لهم حرما ءامنا يجبى إليه} يحمل إلى الحرم {ثمرات كل شيء} يعني: بكل شيء من ألوان الثمار {رزقا من لدنا} يعني: من عندنا، {ولكن أكثرهم} يعني: أهل مكة {لا يعلمون} يقول: هم يأكلون رزقي ويعبدون غيري؛ وهم آمنون في الحرم من القتل والسبي. فكيف يخافون لو أسلموا أن لا يكون ذلك لهم؟ نجعل لهم الحرم آمنا مع الشرك ونخوفهم في الإسلام! فإنا لا نفعل ذلك بهم لو أسلموا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وقالت كفار قريش: إن نتبع الحقّ الذي جئتنا به معك، ونتبرأ من الأنداد والآلهة، يتخطفنا الناس من أرضنا بإجماع جميعهم على خلافنا وحربنا، يقول الله لنبيه: فقل "أوَ لَمْ نُمَكّنْ لَهُمْ حَرَما "يقول: أو لم نوطئ لهم بلدا حرّمنا على الناس سفك الدماء فيه، ومنعناهم من أن يتناولوا سكانه فيه بسوء، وأمنا على أهله من أن يصيبهم بها غارة، أو قتل، أو سباء... قال ابن زيد، في قوله ويُتَخَطف الناس من حولهم: قال: كان يغير بعضهم على بعض...

وقوله: "يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْءٍ" يقول يجمع إليه، وهو من قولهم: جبيت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه، وإنما أريد بذلك: يحمل إليه ثمرات كلّ بلد... وقوله: "رِزْقا مَنْ لَدنّا" يقول: ورزقا رزقناهم من لدنا، يعني: من عندنا "وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: ولكن أكثر هؤلاء المشركين القائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ نَتّبِعِ الهُدَى مَعكَ نُتَخَطّفْ مِنْ أرْضِنا" لا يعلمون أنا نحن الذين مكّنا لهم حرما آمنا، ورزقناهم فيه، وجعلنا الثمرات من كلّ أرض تجبى إليهم، فهم بجهلهم بمن فعل ذلك بهم يكفرون، لا يشكرون من أنعم عليهم بذلك.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} دل قولهم: {إن نتبع الهدى معك} على أنهم عرفوا ما جاء به رسول الله، ويدعوهم إليه، هو الهدى حين قالوا: {إن نتبع الهدى معك}.

وقوله تعالى: {نتخطف من أرضنا}: أي نهلك، ونفنى جوعا، إذا خالفنا أهل الآفاق في الدين، لأن أرزاقهم وما به قوام أبدانهم إنما يحمل، ويمار من الآفاق. فأجابهم الله فقال: {أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا} يقول، والله أعلم: إنا جعلناهم في الحرم آمنين، وما يمتار إليهم من أنواع الثمرات باللطف، لا بموافقة الدين.

وقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} أي من كل جنس ونوع من الثمرات يجبى إليه. وظاهره أن يجبى إليه من كل شيء أرفعه وأنفعه؛ وذلك ثمره... يقال: ثمرة الشيء كذا، وثمرة هذا الكلام كذا، أي ما ينتفع من هذا هذا، والله أعلم. وقوله تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي ولكن أكثرهم لا يعلمون أن أي ما يحمل إليهم من الآفاق، ويجبى إليهم من الثمرات والأطعمة إنما هو باللطف لا بموافقة الدين. وكذلك لا يعلمون أن أمنهم فيه باللطف لا بموافقة الدين، والله أعلم.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

قال الله سبحانه: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} وذلك أنّ العرب في الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فيقتل بعضهم بعضاً، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ومعنى الكلية: الكثرة، كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شيء} [النمل: 23]. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} متعلق بقوله {مِّن لَّدُنَّا} أي قليل منهم يقرون بأنّ ذلك رزق من عند الله، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{كل شيء}، يريد مما به صلاح حالهم وقوام أمرهم، وليس العموم فيه على الإطلاق.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر شبههم وأجاب عنها بالأجوبة الواضحة، وبين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله تعالى، حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}...واعلم أنه تعالى إنما بين أن تلك الأرزاق ما وصلت إليهم إلا من الله تعالى، لأجل أنهم متى علموا ذلك صاروا بحيث لا يخافون أحدا سوى الله تعالى ولا يرجون أحدا غير الله تعالى، فيبقى نظرهم منقطعا عن الخلق متعلقا بالخالق، وذلك يوجب كمال الإيمان والإعراض بالكلية عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله تعالى.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان مجموع ما رزقهم في هذا الحرم من الأمن بأسبابه من الإسراع بإصابة من آذى فيه بأنواع العقوبات، وجباية هذه الثمرات، في غاية الغرابة في تلك الأراضي اليابسة الشديدة الحر، المحفوفة من الناس بمن لا يدين ديناً، ولا يخشى عاقبة، ولا له ملك قاهر من الناس يرده، ولا نظام من سياسة العباد يمنعه، عبر عنه سبحانه مع مظهر العظمة بلدن فقال: {رزقاً من لدنا} أي من أبطن ما عندنا وأغربه، لا صنع لأحد فيه كما تعلم ذلك كله أنت ومن اتبعك ومن فيه قابلية الهداية منهم، وكل ذلك إنما هو لأجلك بحلولك في هذا الحرم مضمراً في الأصلاب، ومظهراً في تلك الشعاب، توطئة لنبوتك، وتمهيداً لرسالتك، ومتى غبت عنهم غاب عنهم ذلك كله وسينظرون. ولما كان هذا الذي أبدوه عذراً عن تخلفهم عن الهدى يظنونه من نفائس العلم، رده تعالى نافياً عمن لم يؤمن منهم جميع العلم الذي بنفيه ينتفي أن يكون هذا الفرد علماً، فقال في أسلوب التأكيد لذلك: {ولكن أكثرهم} أي أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له {لا يعلمون} أي ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بترتيب أسبابه حتى تمكن ذلك وتم فلا قدرة لأحد على تغييره، وإنا قادرون على أن نمنعهم -إذا تابعوا أمرنا- ممن يريدهم، بل نسلطهم على كل من ناوأهم، كقدرتنا على ما مكنا لهم وهو خارج عن القياس على ما يقتضيه عقول الناس، وإنا قادرون على سلب ذلك كله عنهم لإصرارهم على الكفر، ولا بد أن نذيقهم ذلك أجمع بعد هجرتك ليعلموا أنه إنما نالهم ذلك ببركتك، ولو علموا ذلك لشكروا، ولكنهم جهلوا فكفروا، ولذلك أنذروا {ولتعلمن نبأه بعد حين}.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وهذا الكلام منهم، يدل على سوء الظن باللّه تعالى، وأنه لا ينصر دينه، ولا يعلي كلمته، بل يمكن الناس من أهل دينه، فيسومونهم سوء العذاب، وظنوا أن الباطل سيعلو على الحق.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وقالوا: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا).. فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون أن يتخطفهم الناس. وهم ينسون الله، وينسون أنه وحده الحافظ، وأنه وحده الحامي؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله؛ وأن قوى الأرض كلها لا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله. ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم، ولو خالطها لتبدلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في جوار الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هداه. وأن هذا الهدى موصول بالقوة موصول بالعزة؛ وأن هذا ليس وهما وليس قولا يقال لطمأنة القلوب. إنما هو حقيقة عميقة منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وقواه، والاستعانة بها وتسخيرها في الحياة. فالله خالق هذا الكون ومدبره وفق الناموس الذي ارتضاه له. والذي يتبع هدى الله يستمد مما في هذا الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد، في واقع الحياة...وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف؛ بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة. أمانة الخلافة في الأرض وتصريف الحياة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذه بعض معاذيرهم قالها فريق منهم ممن غلبه الحياء على أن يكابر ويجاهر بالتكذيب، وغلبه إلف ما هو عليه من حال الكفر على الاعتراف بالحق، فاعتذروا بهذه المعذرة... والاستفهام إنكار أن يكون الله لم يمكن لهم حرماً. ووجه الإنكار أنهم نزلوا منزلة من ينفي أن ذلك الحرم من تمكين الله فاستفهموا على هذا النفي استفهام إنكار. وهذا الإنكار يقتضي توبيخاً على هذه الحالة التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرماً...

و {كل شيء} عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم... ومعنى {من لدنا} من عندنا، والعندية مجاز في التكريم والبركة، أي رزقاً قدرناه لهم إكراماً فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص بالله تعالى. وقد حصل في خلال الرد لقولهم إدماج للامتنان عليهم بهذه النعمة ليحصل لهم وازعان عن الكفر بالمنعم: وازع إبطال معذرتهم عن الكفر، ووازع التذكير بنعمة المكفور به.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

ويظهر أن زعماء مكة كانوا يحسبون أن الدين الجديد الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم سيقضي فيما يقضي عليه على تقاليد الحج والأشهر الحرم وأمن حرم مكة وقدسية الكعبة التي كان جوفها وفناؤها مستقرا لأوثانهم التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشن عليها حربا شديدة، وحينئذ تزول هيبة مكة وأهلها وزعامتها الدينية اليسر والرزق والتجارة التي يتمتعون بها نتيجة لذلك ويصبحون نهبا للقبائل، ولعلهم كانوا كذلك يتخوفون من جلب عداء العرب لهم وغدوّهم في عزلة وانفراد يسهل بهما العدوان عليهم. وهكذا يمكن أن يقال: إن مسألة تقاليد مكة وحجها وكعبتها وأمنها وأشهرها الحرم وامتيازاتها ومنافعها مما شغل أفكار زعماء مكة ودفعهم إلى الموقف الذي وقفوه من الدعوة النبوية. وقد احتوت الآية تطمينا ببقاء واستمرار أمن الحرم وما ييسره من أمن وأسباب رزق ورغد مما يمكن أن يعد براعة استهلال لما أقر بقاءه القرآن فيما بعد من تلك التقاليد بعد تجريدها من شوائب الشرك والوثنية، ولاسيما أنها كانت شديدة الرسوخ، ونواة وحدة عربية عامة؛ لأن العرب كانوا مندمجين فيها على اختلاف بيئاتهم ونحلهم وكانت هذه الوحدة من الأهداف التي استهدفتها الدعوة المحمدية. وأسلوب الآية يمكن أن يدل على أن ما حكته صادر من زعماء معتدلين لا يكابرون فيما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من حق وهدى، ولكنهم كانوا يعتذرون بأعذار يرونها معقولة متصلة بمصالحهم الخاصة والعامة