قوله تعالى :{ إذ دخلوا على داود ففزع منهم } خاف منهما حين هجما عليه في محرابه بغير إذنه ، فقال : ما أدخلكما علي ؟ { قالوا لا تخف خصمان } أي نحن خصمان ، { بغى بعضنا على بعض } جئناك لتقضي بيننا ، فإن قيل : كيف قال : ( ( بغى بعضنا على بعض ) ) وهما ملكان لا يبغيان ؟ قيل : معناه : أرأيت خصمين بغى أحدهما على الآخر ، وهذا من معاريض الكلام لا على تحقيق البغي من أحدهما . { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } أي لا تجر ، يقال : شط الرجل شططاً وأشط إشطاطاً إذا جار في حكمه ، ومعناه مجاوزة الحد ، وأصل الكلمة من شطت الدار وأشطت ، إذا بعدت . { واهدنا إلى سواء الصراط } أرشدنا إلى طريق الصواب والعدل ، فقال داود لهما : تكلما .
وقوله : { إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ . . . } بدل مما قبله . والفزع : انقباض فى النفس يحدث للإِنسان عند توقع مكروه .
أى : أن هؤلاء الخصوم بعد أن تسوروا المحراب ، دخلوا على داود ، فخاف منهم ، لأنهم أتوه من غير الطريق المعتاد للإِتيان وهو الباب ، ولأنهم أتوه فى غير الوقت الذى حدده للقاء الناس وللحجكم بينهم ، وإنما أتوه فى وقت عبادته .
ومن شأن النفس البشرية أن تفزع عندما تفاجأ بحالة كهذه الحالة .
قال القرطبى : فإن قيل : لم فزع داودو وهو نبى ، وقد قويت نفسه بالنبوة واطمأنت بالوحى ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة فى غاية المكانة ؟
قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذية ، ومنهما كان يخاف .
ألا ترى إلى موسى وهارون - عليهما السلام - كيف قالا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } - أى : فرعون - ، فقال الله لهما : { لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } ثم بين - سبحانه - ما قاله أولئك الخصوم لداود عندما شاهدوا عليه أمارات الوجل والفزع ، فقال : { قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط } . .
والبغى : الجور والظلم . . وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إليه الفساد .
والشطط : مجاوزة الحد فى كل شئ . يقال : شط فلان على فلان فى الحكم واشتط . . إذى ظلم وتجاوز الحق إلى الباطل .
وقوله : { خَصْمَانِ } خبر لمبتدأ محذوف أى : نحن خصمان . والجملة استئناف معلل للنهى فى قولهم : { لاَ تَخَفْ } أى : قالوا لداود : لا تخف ، نحن خصمان بغى بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا بالحكم الحق ، ولا تتجاوزه إلى غيره ، { واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط } أى : وأرشدنا إلى الطريق الوسط ، وهو طريق الحق والعدل .
وقوله تعالى : { ففزع منهم } يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه ، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان ، وقيل إن ذلك كان ليلاً ، ذكره الثعلبي ، ويحتمل أن يكون فزعه من أين يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان ، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين . ويحتمل قولهم : { لا تخف } أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه .
وهنا قصص طول الناس فيها ، واختلفت الروايات به ، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام ، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها ، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته ، ولما شعر وفهم المراد ، خر وأناب واستغفر ، وأما نازلته التي وقع فيها ، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله ، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة ، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما : جرباني يوماً ، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروهاً . وقال السدي : كان داود قد قسم دهره : يوماً يقضي فيه بين الناس ، ويوماً لعبادته ، ويوماً لشأن نفسه ، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا ، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله . قال ابن عباس ما معناه : أنه أخذ داود يوماً في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة ، فوقع بين يديه ، فروي أنه كان طائراً حسن الهيئة : حمامة ، فمد داود يده ليأخذه فزل مطمعاً له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه ، فتنحى له الطائر ، فتطلع داود عليه السلام ، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة ، فرأى منظراً جميلاً فتنه ، ثم إنها شعرت به ، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به ، فزاده ولوعاً بها ، ثم إنه انصرف وسأل عنها ، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له : أوريا وإنه في بعث كذا وكذا ، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلاناً يقاتل عند التابوت ، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد ، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك .
ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال ، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب ، حتى قتل في الثالثة من نهضاته ، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة ، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه ، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع ، فلما سمي الرجل قال : كتب الموت على كل نفس ، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها ، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه الخصم ليفتي بأن هذا ظلم . وقالت فرقة : إن هذا كله هم به داود ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك . وقال آخرون : إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ، إذ كان عنده أمر المرأة .
قال القاضي أبو محمد والرواة على الأول أكثر ، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق . وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله .
وقوله : { خصمان } تقديره : نحن خصمان ، وهذا كقول الشاعر : [ الطويل ]
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر*** وجاوزتما الحيين نهداً وخثعما
نزيعان من جرم ابن زبان إنهم***أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما
ونحوه قال العرب في مثل : " محسنة فهيلي " ، التقدير : أنت محسنة ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «آيبون تائبون »
و : { بغى } معناه : اعتدى واستطال ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
ولكن الفتى حمل بن بدر*** بغى والبغي مرتعه وخيم
وقوله : { فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } إغلاظ على الحاكم واستدعاء بعدله ، وليس هذا بارتياب منه ، ومنه قول الرجل للنبي عليه السلام : فاحكم بيننا بكتاب الله .
وقرأ جمهور الناس : «ولا تُشطِط » بضم التاء وكسر الطاء الأولى ، معناه : ولا تتعد في حكمك . وقرأ أبو رجاء وقتادة : «تَشطُط » بفتح التاء وضم الطاء ، وهي قراءة الحسن والجحدري ، ومعناه : ولا تبعد ، يقال : شط إذا بعد ، وأشط إذا أبعد غيره .
وقرأ زر بن حبيش «تُشاطط » بضم التاء وبالألف . و : { سواء الصراط } معناه : وسط الطريق ولا حبه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.