قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } . قيل : أراد به العرب لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وله فيهم نسب إلا بني تغلب دليله ، قوله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ) . وقال الآخرون : أراد به جميع المؤمنين ، ومعنى قوله تعالى ( من أنفسهم ) أي بالإيمان والشفقة لا بالنسب ، دليله قوله تعالى ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) .
قوله تعالى : { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا } . وقد كانوا .
وبعد أن نزه الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم عن الغلول وعن كل نقص ، وبين أن الناس متفاوتون فى الثواب والعقاب على حسب أعمالهم .
وبعد أن بين ذلك أتبعه ببيان فضله - سبحانه - على عباده فى أن بعث فيهم رسولا منهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور فقال - تعالى - : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } .
قال الرازى : قال الواحدى : " لمن فى كلام العرب معان :
أحدها : الذى يسقط من السماء ، وهو قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } وثانيها : أن تمن بما أعطيت كما فى قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } وثالثها : القطع كما فى قوله { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } ورابعها الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه - وهو المراد هنا " .
والمعنى : لقد أنعم الله على المؤمنين ، وأحسن إليهم { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى بعث فيهم رسولا عظيم القدر ، هو من العرب أنفسهم ، وهم يعرفون حسبه ونسبه وشرفه وأمانته صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا المعنى يكون المراد بقوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أى من نفس العرب ، ويكون المراد بالمؤمنين مؤمنى العرب ، وقد بعثه الله عربيا مثلهم ، ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع بتوجيهاته .
ويصح أن يكون معنى قوله { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أنه بشر مثل سائر البشر إلا أن الله - تعالى - وهبه النبوة والرسالة ، ليخرج الناس - العربى منهم وغير العربى - من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان ، وجعل رسالته عامة فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وخص الله - تعالى - منته وفضله بالمؤمنين ، لأنهم هم الذين انتفعوا بنعمة الإسلام ، الذى لن يقبل الله دينا سواه والذى جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام .
والجملة الكريمة جواب قسم محذوف والتقدير : والله { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } .
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذه المنة والفضل ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } .
والتلاوة : هى القراءة المتتابعة المرتلة التى يكون بعضها تلو بعض .
والتزكية : هى التطهير والتنقية .
أى لقد أعطى الله - تعالى - المؤمنين من النعم ما أعطى ، لأنه قد بعث فيهم رسلا من جنسهم يقرأ عليهم آيات الله التى أنزلها لهدايتهم وسعادتهم ، { وَيُزَكِّيهِمْ } أى يطهرهم من الكفر والذنوب . أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية ، والاعتقادات الفاسدة .
{ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب } بأن يبين لهم المقاصد التى من أجلها نزل القرآن الكريم ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه التى قدى تخفى على مداركهم .
فتعليم الكتاب غير تلاوته : لأن تلاوته قراءته مرتلا مفهوما أما تعليمه فمعناه بيان أحكامه وما اشتمل عليه من تشريعات وآداب .
ويعلمهم كذلك { الحكمة } أى الفقه فى الدين ومعرفة أسراره وحكمه ومقاصده التى يكمل بها العلم بالكتاب .
وهذه الآية الكريمة قد اشتملت على عدة صفات من الصفات الجليلة التى منحها الله تعالى - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم بين - سبحانه - حال الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } .
أى : إن حال الناس وخصوصا العرب أنهم كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فى ضلال بين واضح لا يخفى أمره لعى أحد من ذوى العقول السليمة والأذواق المستقيمة .
وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام الذى جاء به صلى الله عليه وسلم من عند ربه فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، فهم من ناحية العبادة كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى ، ومن ناحية الأخلاق تفشت فيهم الرذائل حتى صارت شيئاً مألوفا ، ومن ناحية المعاملات كانوا لا يلتزمون الحق والعدل فى كثير من شئونهم .
والخلاصة أن الضلال والجهل وغير ذلك من الرذائل ، كانت قد استشرت فى العالم بصورة لا تخفى على عاقل .
فكان من رحمة الله بالناس ومنته عليهم أن أرسل فيهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .
{ لقد من الله على المؤمنين } أنعم على من آمن مع الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه وتخصيصهم مع أن نعمة البعثة عامة لزيادة انتفاعهم بها . وقرئ " لمن من الله " على أنه خبر مبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه . { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } من نسبهم ، أو من جنسهم عربيا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به . وقرئ من { أنفسهم } أي من أشرفهم لأنه عليه السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونهم . { يتلو عليهم آياته } أي القرآن بعدما كانوا جهالا لم يسمعوا الوحي . { ويزكيهم } يطهرهم من دنس الطباع وسوء الاعتقاد والأعمال . { ويعلمهم الكتاب والحكمة } أي القرآن والسنة . { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والمعنى وإن الشأن كانوا من قبل بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في ضلال ظاهر .
استئناف لتذكير رِجال يومِ أُحُد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم . ومناسبةُ ذكره هنا أنّ فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظّاً عظيماً ، إذ قد شاع تصْبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم ، وله مزيد ارتباط بقوله : { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] ، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أُحُد ناشئاً بعضها عن بعض ، متفنّنة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرصُ الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طَلْقاً في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحاً إلى مُنْبَعثه .
والمنّ هنا : إسداء المِنّة أي النِّعمة ، وليس هو تعداد النعمة على المنعم عليه مثل الَّذي في قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمَن والأذى } في سورة [ البقرة : 264 ] ، وإن كان ذكرُ هذا المنّ مَنّاً بالمعنى الآخر . والكلّ محمود من الله تعالى لأنّ المنّ إنَّما كان مذموماً لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه ، وطوْل الله ليس بمجحود .
والمراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الَّذين كانوا مع النَّبيء بقرينة السياق وهو قوله : { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } أي من أمَّتهم العربية .
و ( إذ ) ظرف ل ( مَنّ ) لأنّ الإنعام بهذه النِّعمة حصل أوقات البعث .
ومعنى { من أنفسهم } المماثلةُ لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سبباً لقوّة التواصل ، وهي هنا النسب ، واللغة ، والوطن . والعرب تقول : فلان من بني فلان من أنفسهم ، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بوَلاء أو لصق ، وكأنّه هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة ، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربياً يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه ، وكونه يتكلّم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به ، وكونه جاراً لهم وربيّا فيهم يعجّل لهم التصديق برسالته ، إذ يكونون قد خبَروا أمره ، وعلموا فضله ، وشاهدوا استقامته ومعجزاته . وعن النقاش : قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تغْلِب ، وبذلك فسّر : « قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى » . وهذه المنّة خاصّة بالعرب ومزيّة لهم ، زيادة على المنّة ببعثة محمد على جميع البشر ، فالعرب وهم الذين تلقّوا الدعوة قبل الناس كلّهم ، لأنّ الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقّوه التلقّي الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة ، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر ، فيكونوا أعواناً على عموم الدعوة ، ولمن تخلّق بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزيّة وهو معظمها ، إذ لم يَفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكمّلان لحسن التلقّي ، ولذلك كان المؤمنون مدّة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصّة بحيث إنّ تلقّيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقرّ الدين .
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال : " من دخل في الإسلام فهو من العرب " .
وقوله : { يتلوا عليهم آياتيه } أي يقرأ عليهم القرآن ، وسمّيت جمل القرآن آيات لأنّ كلّ واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى ، كما تقدّم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان .
والتزكية : التطهير ، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام .
وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرُهم بحفظ ألفاظه ، لتكون معانيه حاضرة عندهم .
والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأنّ ذلك كلّه مانع للأنفس من سوء الحال واختلال النظام ، وذلك من معنى الحكمة ، وتقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] .
وعطفُ الحكمة على الكتاب عطف الأخصّ من وجه على الأعمّ من وجه ، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } [ الحشر : 9 ] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام : " لا يُلدَغُ المؤمن من جحر مرّتين " وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فَرْض الصلاة والحجّ .
وجملة { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } حال ، وإنْ مخففة مهملة ، والجملة بعدها خبر عن ضمير الشأن محذوف ، والجملة خبره على رأي صاحب « الكشاف » ، وهو التحقيق إذ لا وجه لزوال عملها مع بقاء معناها ، ولا وجه للتفرقة بينها وبين المفتوحة إذا خففت فقد قدّروا لها اسماً هو ضمير الشأن ، بل نجد المكسورة أولى ببقاء العمل عند التخفيف لأنها أمّ الباب فلا يزول عملها بسهولة ، وقال جمهور النحاة : يبطل عملها وتكون بعدها جملة ، وعلى هذا فالمراد بإهمالها أنّها لا تنصب مفردين بل تعمل في ضمير شأن وجملة إمَّا اسمية ، أو فعلية فعلها من النواسخ غالباً .
ووصف الضلال بالمبين لأنّه لشدّته لا يلتبس على أحد بشائبة هُدى ، أو شبهة ، فكان حاله مبيّناً كونَه ضلالاً كقوله : { وقالوا هذا سحر مبين } [ النمل : 13 ] .
والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية .
ويجوز أن يشمل قوله : { على المؤمنين } المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنّه من نوع البشر . ويراد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي ، لأنّ تعليم ذلك متلقّي منه مباشرة أو بالواسطة .