معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم } . أي يموتون وتتوفى آجالهم ، وتوفى واستوفى بمعنى واحد ، ومعنى التوفي أخذ الشيء وافياً .

قوله تعالى : { ويذرون أزواجاً } . يتركون أزواجاً .

قوله تعالى : { يتربصن } . ينتظرن .

قوله تعالى : { بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } . أي يعتددن بترك الزينة والطيب والنقلة ، على فراق أزواجهن هذه المدة ، إلا أن يكن حوامل فعدتهن بوضع الحمل ، وكانت عدة الوفاة في الابتداء حولاً كاملاً لقوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج ) ثم نسخت بأربعة أشهر وعشرا . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كانت هذه العدة يعني أربعة أشهر وعشراً ، واجبة عند أهل زوجها ، فأنزل الله تعالى : { متاعاً إلى الحول } فجعل لها تمام السنة ، سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت وإن شاءت خرجت وهو قول الله عز وجل : { غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن } فالعدة كما هي واجبة عليها . وقال عطاء : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نسخت هذه الآية عدتها عند أهله وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ويجب عليها الإحداد في عدة الوفاة ، وهي أن تمتنع من الزينة والطيب فلا يجوز لها تدهين رأسها بأي دهن ، سواء كان فيه طيب أو لم يكن ، ولها تدهين جسدها بدهن لا طيب فيه ، فإن كان فيه طيب فلا يجوز ، ولا يجوز لها أن تكتحل بكحل فيه طيب أو فيه زينة كالكحل الأسود ولا بأس بالكحل الفارسي الذي لا زينة فيه ، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فرخص فيه كثير من أهل العلم ، منهم سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وعطاء والنخعي ، وبه قال مالك وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي رحمه الله : تكتحل به ليلا ، وتمسحه بالنهار . قالت أم سلمة : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبراً فقال : إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار " . ولا يجوز لها الخضاب ولا لبس الوشي والديباج والحلي ، ويجوز لها لبس البيض من الثياب ولبس الصوف والوبر ، ولا تلبس الثوب المصبوغ للزينة ، كالأحمر والأخضر الناضر والأصفر ، ويجوز ما صبغ لغير زينة كالسواد والكحلي وقال سفيان : لا تلبس المصبوغ بحال .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب ، عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت زينب : " دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى أبوها أبو سفيان بن حرب ، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة ، خلوق أو غيره ، فدهنت به جارية ، ثم مست بطنها ، ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : لا يحل لامرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " . وقالت زينب : " ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها عبد الله ، فدعت بطيب ، فمست به ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " قالت زينب : وسمعت أمي أم سلمة تقول : " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، ثم قال : هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول " قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبا ، ولا شيئا ، حتى يمر بها سنة ، ثم تؤتي بدابة ، حمارا أو شاة أو طيرا ، فتفض به ، فقلما تفتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج ، فتعطي بعرة فترمي بها ، ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب أو غيره .

وقال مالك : تفتض أي تنسلخ جلدها . وقال سعيد بن المسيب : الحكمة في هذه المدة أن فيها ينفخ الروح في الولد ، ويقال إن الولد يرتكض أي يتحرك في البطن لنصف مدة الحمل ، أربعة أشهر وعشراً ، قريباً من نصف مدة الحمل ، وإنما قال عشراً بلفظ المؤنث ، لأنه أراد الليالي ، لأن العرب إذا أبهمت العدد بين الليالي والأيام غلبت عليها الليالي ، فيقولون : صمنا عشراً ، والصوم لا يكون إلا بالنهار . وقال المبرد : إنما أنث العشر لأنه أراد المدة ، أي عشر مدد ، كل مدة يوم وليلة ، وإذا كانت المتوفى عنها زوجها حاملاً فعدتها بوضع الحمل عند أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم .

وروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أنها تنتظر آخر الأجلين ، من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشراً ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى ، أراد بالقصرى سورة الطلاق ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) نزلت بعد قوله تعالى : ( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) ، في سورة البقرة فحمله على النسخ ، وعامة الفقهاء خصوا الآية بحديث سبيعة وهو : ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن سبيعة نفست بعد وفاة زوجها بليال فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت .

قوله تعالى : { فإذا بلغن أجلهن } . أي انقضت عدتهن .

قوله تعالى : { فلا جناح عليكم } . خطاب للأولياء .

قوله تعالى : { فيما فعلن في أنفسهن } . أي من اختيار الأزواج دون العقد فإن العقد إلى الولي ، وقيل فيما فعلن من التزين للرجال زينة لا ينكرها الشرع .

قوله تعالى : { بالمعروف والله بما تعملون خبير } . والإحداد واجب على المرأة في عدة الوفاة ، أما المعتدة عن الطلاق نظر ، فإن كانت رجعية فلا إحداد عليها في العدة ، لأن لها أن تضع ما يشوق قلب الزوج إليها ليراجعها ، وفي البائنة بالخلع والطلقات الثلاثة قولان : أحدهما : الإحداد كالمتوفى عنها زوجها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال أبو حنيفة ، والثاني : لا إحداد عليها ، وهو قول عطاء ، وبه قال مالك .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

ثم بين - سبحانه - عدة المرأة إذا توفي عنها زوجها ، وما يجب عليها من آداب فقال - تعالى - :

{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً . . . }

قوله : { يُتَوَفَّوْنَ } - بالبناء للمجهول - أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض . يقال : توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي قبضته وأخذته . قال - تعالى - : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } أي يقبض الأنفس ويأخذها إليه بالموت حين انتهاء آجالها .

والمعنى : والذين يتوفاهم الله - تعالى - منكم - أيها المسلمون - ويتركون من خلفهم أزواجاً . فعلى هؤلاء الأزواج اللائي ارتبطن برجالهم ارتباطاً قوياً متيناً ثم فرق الموت بينهم وبينهن ، عليهن أن { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } أي : عليهن أن ينتظرن انقضاء عدتهن فيحبسن أنفسهن عن الزواج وعن التزين وعن التعرض للخطاب مدة أربعة أشهر وعشر ليلا ، وفاء لحق الزوج المتوفي ، واستبراء للرحم .

قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : هذا أمر من الله - تعالى - للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال . وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بالإِجماع ، ومستند هذا الإِجماع في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة ، وهذا الحديث الذي رواه الإِمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها فقال : أقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان . والله - تعالى - ورسوله بريئان منه : لها الصداق كاملا .

وفي لفظ : لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث . فقام معقل بن يسار فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بَرَوعَ بنت واشق . ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً . لا ويخرج من ذلك إلا المتوفي عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل لعموم قوله - تعالى- : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع أو أربعة أشهر وعشرة أيام للجمع بين الآيتين .

وقوله : { والذين } اسم موصول مبتدأ . { يُتَوَفَّوْنَ } صلته ، و { مِنكُمْ } في موضع النصب على الحال من الواو في { يُتَوَفَّوْنَ } و { يَتَرَبَّصْنَ } وما بعده خبر عن الذين والرابط محذوف والتقدير : يتربصن بعدهم أربعة أشهر وعشرا .

والتعبير بقوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } تعبير دقيق حكيم أي : عليهن أن يمنعن أنفسهن عن النكاح وعن التزين وعن الخروج من منزل الزوجية - إلأا إذا كانت هناك ضرورة لهذا الخروج - مدة أربعة أشهر وعشرة أيام ، وذلك لأن المرأة المؤمنة الوفية يأبى عليها دينها ووفاؤها لزوجها المتوفي عنها ، أن تعرض نفسها على غيره بعد فترة قصيرة من وفاته ، فإن هذا أمر مستهجن في شرع الله وفثي عرف العقلاء من الناس . إذ هذه المدة التي جاءت في الآية التي حددها الله - تعالى - لمعرفة براءة الرحم من الحمل ، وهي التي تخف فيها مرارة الفراق بين زوجين ربط الله بينهما برابطة المودة والرحمة .

ولقد ألغي الإِسلام بهذا التشريع عادات جاهلية ظالمة للمرأة فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها تغلق على نفسها مكاناً ضيقاً في بيتها وتقضى فيه عاماً كاملاً على زوجها فأبطل الإِسلام ذلك ، ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة وزينب بنت جحش - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " .

والإِحداد هو ترك الزينة ، وعدم التعرض للخطاب ، وعدم الخروج من منزل الزوجية إلا لضرورة . وفي الصحيحين أيضاً عن أم سلمة " أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكتحل ؟ فقال : لا - مرتين أو ثلاثاً - ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت أحداكن في الجاهلية تمكث سنة " .

قال ابن كثير بعد أن ساق هذين الحديثين : قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً - أي مكانا ضيقاً من البيت ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر سنة " .

وقال بعض العلماء : وقد حد الشارع للمتوفي عنها زوجها عدة هي في جملتها أكثر من عدة المطلقات ، لأن تلك ثلاثة قروء تجئ عادة في نحو ثلاثة أشهر . وهنا يرد سؤالان :

أولهما : لماذا كانت العدة في المتوفي عنها زوجها بالأشهر دون الحيض فلم تجعل أربع حيضات بدل ثلاث ؟ ولماذا كانت الزيادة ؟ ولم نجد أحدا

ً تصدى لبيان الحكمة في جعلها بالأشهر ، ويبدو لنا أن الحكمة التي تدركها عقولنا - وإن كانت الحكمة السامية قد تعلو على مداركنا - : هي أن عدة الوفاة تكون للمدخول بها وغير المدخول بها وللصغيرة والكبيرة ، والأساس فيها هو الحداد على الزواج السابق الذي انتهى بوفاة أحد ركنيه ، فلزم أن يكون بأمر يشترك فيه الجميع ما دام السبب واحداً في الجميع . وفوق ذلك أن العدة في الوفاة لو قدرت بالحيض وهو أمر لا يعلم إلا من جهة المرأة ، فربما تدفعها الرغبة في الزواج إلى الكذب فتدعيه وهو لم يقع ، وفي المطلقات العدة حق للمطلق فيستطيع أن ينكر عليها أما في حال الوفاة فصاحب الحق الأول قد مات وصار الحق لله خالصاً . فحد ذلك الحق بالأشهر والأيام حتى لا يكون مساغا للكذب وإدعاء ما لم يحصل ، لأن الأيام والأشهر تعرف بالكتاب والحساب وليست أمراً يعرف من جهتها فقط .

أما الجواب عن الأمر الثاني وهو لماذا كانت العدة بالوفاة أكثر في الجملة من العدة الناشئة عن الطلاق ؟ فيبدو بادي الرأي من الفرق بين حال الطلاق وحال الوفاة أن الطلاق نتيجة شقاق . فالحداد على الزوج الذي ينشئه ليس قوياً ، ومعنى براءة الرحم وإعطاء الزوج فرصة للرجعة يكون أوضح في معنى العدة ، ويكفى لذلك نحو ثلاثة أشهر . أما حال الموت فمرارة الفراق وغير المدخول بها ، وإن الشارع قد جعلها لذلك أطول من عدة الطلاق .

وقد يرد سؤال ثالث وهو : لماذا حددت العدة بأربعة أشهر وعشر ؟ وإن تقدير سؤال ثالث وهو : لماذا حددت العدة بأربعةأشهر وعشر ؟ وإن تقدير الأعداد كما يقرر الفقهاء أمر توقيفي خالص لا يجري فيه القياس ولكن ليس معنى ذلك أنه لا حكمة فيه ، وأن الحكمة يقررها العلماء في أمرين :

أولهما : أن ألأشهر الأربعة هي التي يظهر فيها الحمل ويستبين ، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط .

وثانيهما : أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قررها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال . ولذلك جعل الإِيلاء مجته أربعة أشهر . فكان من التنسيق بين الأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الزواج في حدود هذه المدة ومقاربة لها في الجملة " .

وقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف } بيان لما يترتب على انتهاء المدة التي حددها الشرع للمرأة التي مات عنها زوجها . أي : فإذا انتهت المدة التي حددها الشرع للمرأة التي مات عنها زوجها لتتجنب فيها التزين والتعرض للنكاح . فلا حرج عليكم بعد ذلك أيها المسلمون أو أيها الأولياء - في ترك هؤلاء الزوجات الأرامل يفعلن في أنفسهن ما تفعله المرأة الراغبة في الزواج من التزين والتجمل ولكن بالطريقة التي يقرها الشرع ، وترضاها العقول السليمة ، والأخلاق المستقيمة .

وقوله : { بالمعروف } متعلق بفعلن ، أو حال من النون أي حالة كونهن متلبسات بالمعروف .

ومفهومه أنهن لو خرجن عن المعروف شرعاً بأن تبرجن وأظهرن ما أمر الله بستره فإنه في هذه الحالة يجب على أوليائهن أن يمنعوهن من ذلك .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي أنه محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه منها شيء فإذا وقفتم أنتم ونساؤكم عند حدوده أسعدكم في الدنيا وأجزل مثوبتكم في الآخرة . وإن تجاورتم حدوده عاقبكم بما تستحقون { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ . إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وبذلك نرى الآية الكريمة قد رسمت للناس أفضل وسائل الحياة الشريفة ، فأرشدت المرأة التي مات عنها زوجها إلى ما يحفظ لها كرامتها ، ويدفع عنها ما يتنافى مع العفة والشرف والوفاء .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } أي أزواج الذين ، أو والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم ، كقولهم السمن منوان بدرهم . وقرئ { يتوفون } بفتح الياء أي يستوفون آجالهم ، وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام ، ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قط ذهابا إلى الأيام حتى إنهم يقولون صمت عشرا ويشهد له قوله تعالى : { إن لبثتم إلا عشرا } ثم { إن لبثتم إلا يوما } ولعل المقتضى لهذا التقدير أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ، ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين ، وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها ، وعموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية فيه ، كما قاله الشافعي والحرة والأمة كما قاله الأصم ، والحامل وغيرها ، لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة ، والإجماع خص الحامل منه لقوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وعن علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا . { فإذا بلغن أجلهن } أي انقضت عدتهن . { فلا جناح عليكم } أيها الأئمة أو المسلمون جميعا . { فيما فعلن في أنفسهن } من التعرض للخطاب وسائر ما حرم عليهن للعدة . { بالمعروف } بالوجه الذي لا ينكره الشرع ، ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفوهن ، فإن قصروا فعليهم الجناح . { والله بما تعملون خبير } فيجازيكم عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

قوله عز وجل : { وَالذَّيِنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجاً يَتَرَبَّصْنَ بأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }

قال بعض نحاه الكوفيين : الخبر عن { الذين } متروك( {[2222]} ) والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن ، ومذهب نحاة البصرة أن خبر { الذين } مترتب بالمعنى( {[2223]} ) ، وذلك أن الكلام إنما تقديره يتربص أزواجهم ، وإن شئت قدرته . وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز ، وإعرابها مترتب على هذا المعنى المالك لها المتقرر فيها ، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون ، ولا أعرف هذا الذي حكاه لأن ذلك إنما يتجه إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد . مثل قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] ، وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظة( {[2224]} ) . فيحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر ، وحسن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله : { فلا جناح عليكم } ، إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها الرجال الذين منهم الحكام والنظار ، وعبارة المبرد والأخفش ما ذكرناه ، وهذه الآية هي في عدة المتوفى عنها زوجها ، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها( {[2225]} ) ، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله : { وأولات الأحمال }( {[2226]} ) [ الطلاق : 4 ] ، وعدة الحامل وضع حملها عند جمهور العلماء ، وروي عن علي بن ابي طالب وابن عباس وغيرهما أن تمام عدتها آخر الأجلين( {[2227]} ) ، والتربص الصبر والتأني بالشخص في مكان أو حال ، وقد بين تعالى ذلك بقوله : { بأنفسهن } ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : متظاهرة أن التربص بإحداد وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه ، والتزام المبيت مسكنها حيث كانت وقت وفاة الزوج . وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك وأصحابه . وقال ابن عباس وأبو حنيفة فيما روت عنه وغيرهما : ليس المبيت بمراعى ، تبيت حيث شاءت . وقال الحسن بن أبي الحسن : «ليس الإحداد بشيء ، إنما تتربص عن الزواج ، ولها أن تتزين وتتطيب » .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( {[2228]} ) . وقرأ جمهور الناس «يُتوفون » بضم الياء ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «يَتوفون » بفتح الياء ، وكذلك روى المفضل عن عاصم ، ومعناه يستوفون آجالهم( {[2229]} ) ، وجعل الله الأربعة الأشهر والعشر عبادة في العدة فيها استبراء للحمل ، إذ فيها تكمل الأربعون والأربعون والأربعون ، حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره( {[2230]} ) ثم ينفخ الروح ، وجعل الله تعالى العشر تكملة إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين وذلك لنقص الشهور أو كمالها ولسرعة حركة الجنين أو إبطائها ، قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما ، وقال تعالى : { عشراً } ، ولم يقل عشرة تغليباً لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها ، وعشر أخف في اللفظ( {[2231]} ) ، قال جمهور أهل العلم : ويدخل في ذلك اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي ، وحكى منذر بن سعيد - وروي أيضاً عن الأوزاعي - : أن اليوم العاشر ليس من العدة بل انقضت بتمام عشر ليالٍ ، قال المهدوي : «وقيل المعنى وعشر مدد كل مدة من يوم وليلة » ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أربعة أشهر وعشر ليال » .

قوله عز وجل :

{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن ، والمخاطبة بقوله { فلا جناح عليكم } عامة لجميع الناس ، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء اللاصقين( {[2232]} ) والنساء المعتدات ، وقوله عز وجل { فيما فعلن } يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد . قال مجاهد وابن شهاب وغيرهما : أراد بما فعلن النكاح لمن أحببن إذا كان معروفاً غير منكر( {[2233]} ) .

قال القاضي أبو محمد : ووجوه المنكر في هذا كثيرة ، وقال بعض المفسرين : { بالمعروف } معناه بالإشهاد ، وقوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } وعيد يتضمن التحذير ، و { خبير } اسم فاعل من خبر إذا تقصى علم الشيء .


[2222]:- أي غير موجود، لأن القصد الإخبار عن الأزواج لا عن الرجال الذين يتوفون.
[2223]:- مراده أن الخبر موجود بالمعنى لا باللفظ، والذي يصحح ذلك أحد أميرين – إما التقدير في أول الكلام – «وأزواج الذين يتوفون» – أو التقدير في آخره - «فالزوجات يتربصن أو يتربص أزواجهن بعدهن».
[2224]:- فقوله تعالى: [يتربّصن] خبر معناه الأمر وحاصله أن ما حكاه المهدوي من الإعراب إنما هو فيما فيه لفظ الأمر لا فيما فيه معناه. وقوله تعالى (والسارق) من الآية (38) من سورة (المائدة).
[2225]:- يعني أن الآية لم تتعرض للمرتابة لندرتها وكثرة السلامة من الريبة.
[2226]:- من الآية (4) من سورة (الطلاق).
[2227]:- هو مسلك حسن، لما فيه من الجمع بين الدلائل، إلا أن السنة جاءت بخلاف ذلك.
[2228]:- لأنه خلاف السنة الصحيحة، ففي البخاري ومسلم عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار). يعني لا تمس طيبا إلا نبذة. أي قطعة صغيرة من قسط وأظفار إذا طهرت من الحيض أو النفاس. وثوب العصب نوع من البرود الخشنة، والقسط والأظفار نوعان من البخور، وكان الحسن البصري – رحمه الله – تعلق بحديث أسماء بنت عُمَيس أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد على جعفر بن أبي طالب –وهي زوجة- فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها أن تطهّري واكتحلي. وهو حديث شاذ كما قاله الإمام أحمد رحمه الله.
[2229]:- قراءة شاذة، وهي على حذف المفعول به، وحذفه كثير في القرآن.
[2230]:- فأربعون ثلاث مرات: هي أربعة أشهر كاملة – وحديث ابن مسعود في تكوين الجنين معروف ومشهور.
[2231]:- يعني إنما أُنث لأن المراد: «وعشر مدد»، واليوم والليلة مدة معلومة من الزمان.
[2232]:- أي الأقربين.
[2233]:- أي إذا كان يعرف شرعاً ولا ينكر، كاختيار الزوج، وتقدير الصداق، وما إلى ذلك مما يرجع إلى مصلحة نفسها، وأما العقد فلا تتولاه – بل هو للأولياء اللاصقين بها، وأما ما كان منكراً من القول أو الفعل كالتبرج والتَّشَوُّف إلى الرجال في العدة فللأولياء اعتراضه وإنكاره، ووجوه المنكر في هذا كثيرة كما قال ابن عطية رحمه الله.