قوله تعالى : { ولأضلنهم } يعني : عن الحق ، أي : لأغوينهم ، يقوله إبليس ، وأراد به التزيين ، وإلا فليس إليه من الإضلال شيء ، كما قال : { لأزينن لهم في الأرض } [ الحجر :39 ] .
قوله تعالى : { ولأمنينهم } ، قيل : أمنينهم ركوب الأهواء ، وقيل : أمنينهم أن لا جنة ولا نار ، ولا بعث ، وقيل : أمنينهم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي .
قوله تعالى : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام فليغرن خلق الله } . قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن المسيب ، والضحاك : يعني دين الله ، نظيره قوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } [ الروم :30 ] أي : لدين الله ، يريد وضع الله في الدين بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال . وقال عكرمة وجماعة من المفسرين : فليغيرن خلق الله بالخصاء ، والوشم ، وقطع الآذان ، حتى حرم بعضهم الخصاء ، وجوزه بعضهم في البهائم ، لأن فيه غرضاً ظاهراً ، وقيل : تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق الأنعام للركوب والأكل ، فحرموها ، وخلق الشمس والقمر والأحجار لمنفعة العباد فعبدوها من دون الله .
قوله تعالى : { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله } أي : رباً يطيعه .
أما الأمر الثانى والثالث اللذان توعد الشيطان بهما بنى آدم فقد حكاهما - سبحانه - فى قوله { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } أى : ولأضلنهم عن طريق الحق فأجعلهم يسيرون فى طريق الباطل إلى نهايته ، ولأمنينهم الأمانى الفارغة . بأن أجعلهم يجرون وراء الأحلام الكاذبة ، والأوهام الفاسدة . والأطماع التى تسيطر على نفوسهم وعقولهم ، وبذلك يكونون من جندى ، ويخضعون لأمرى .
أما الأمر الرابع الذى توعد الشيطان به بنى آم فقد حكاه - سبحانه - فى قوله { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام } .
قال الراغب : البتك يقارب البت لكن البتك يستعمل فى قطع الاعضاء والشعر . يقال بتلك شعره وأذنه - أى قطعها أو شقها - ومنه سيق باتك أى قاطع للأعضاء . وأما البت فيقال فى قطع الحبل .
وكانوا فى الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا قطعوا أذنها أو شقوها شقا واسعا علامة على أنهم حرموا على أنفسهم الانتفاع بها وجعلوها للطواغيت وسموها بحيرة أى المشقوقة الأذن .
والمراد : أنه يأمرهم بعبادة غير الله وبالأمانى الباطلة . وبتقطيع آذان الأنعام تقربا للطواغيت والأوثان فيسارعون إلى إجابته ، وينقادون لوسوسته .
أما الأمر الخامس الذى توعد الشيطان به بنى آدم فقد حكاه - سبحانه - فى قوله { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله } .
قال ابن كثير : أى دين الله . وهذا كقوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } على قول من جعل ذلك أمرا أى : لا تبدلوا فطرة الله ، ودعوا الناس على قطرتهم . كما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء . هل تجدون بها من جدعاء ؟ " .
وفى صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله - تعالى - : " إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وقال بعضهم : المراد بتغيير خلق الصور التى خلق الله عليها مخلوقاته ، كمفقأ عين فحل الإِبل فى بعض الأحوال ، وقطع الآذان ، والوشم ، وما يشبه ذلك مما كانوا يفعلونه فى جاهليتهم اتباع للشيطان .
وقد رجح ابن جرير أن المراد بتغيير خلق الله : تغيير دين الله فقال ما ملخصه : " وأولى الأقوال بالصواب فى تأويل ذلك قول من قال : معناه : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ، قال : دين الله . وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه وهى قوله : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدين القيم } وإذا كان ذلك معناه ، دخل فى ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه ، ووشم ما نهى عن وشمه ، وغير ذلك من المعاصى .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد حكى للناس ما قاله الشيطان بلسان حاله أو مقاله حتى يحذروه ويتخذوه عدوا لهم ، لينالوا رضا الله ومثوبته .
وقد أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله : { وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } .
أى : ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ، بأن يتبع الشيطان ويواليه ويسير خلف وسوسته ، ويرتك طريق الحق والهدى ، من يفعل ذلك يكن بفعله هذا قد خسر خسرانا واضحا بينا ، لأن الشيطان لا يسوق الإِنسان إلا إلى ما يهلكه ويخزيه فى الدنيا والآخرة ، وسيقول لأتباعه يوم ينزل بهم العقاب فى الآخرة { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ }
{ وَلأضِلَّنَّهُمْ } أي : عن الحق { وَلأمَنِّيَنَّهُمْ } أي : أزين لهم ترك التوبة ، وأعدهم الأماني ، وآمرهم بالتسويف والتأخير ، وأغرهم من أنفسهم .
وقوله : { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ } قال قتادة والسدي وغيرهما : يعني تشقيقها{[8345]} وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة .
{ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } قال ابن عباس : يعني بذلك خصاء{[8346]} الدواب . وكذا روى عن ابن عمر ، وأنس ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، وأبي عياض ، وأبي صالح ، وقتادة ، والثوري . وقد وَرَدَ في حديث النهي عن ذلك{[8347]} .
وقال الحسن ابن أبي الحسن البصري : يعني بذلك الوَشْم . وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه{[8348]} وفي لفظٍ : " لعن{[8349]} الله من فعل ذلك " . وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشِمات ، والنامصات والمُتَنَمِّصَاتِ ، والمُتَفَلِّجات للحُسْن المغيّرات خَلْقَ الله ، عز وجل ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ، عز وجل ، يعني قوله : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ]{[8350]} .
وقال ابن عباس في رواية عنه ، ومجاهد ، وعكرمة أيضا وإبراهيم النخَعي ، والحسن ، وقتادة ، والحكم ، والسدّي ، والضحاك ، وعطاء الخُراساني في قوله : { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } يعني : دين الله ، عز وجل . وهذا كقوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] على قول من جعل ذلك أمرا ، أي : لا تبدلوا فطرة الله ، ودعوا الناس على فطرتهم ، كما ثبت في الصحيحين{[8351]} عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفِطْرَة ، فأبواه يُهَوِّدانه ، ويُنَصِّرَانه ، ويُمَجِّسَانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعاء ، هل يَحُسّون فيها من جدعاء ؟ " وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حِمَار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : إني خلقتُ عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فْاجْتَالَتْهُم عن دينهم ، وحَرّمت عليهم ما أحللت{[8352]} لهم " {[8353]} .
وقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } أي : فقد خسر الدنيا والآخرة ، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها .
قوله : { ولأضلنهم } معناه أصرفهم عن طريق الهدى ، { ولأمنينهم } لأسولن لهم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وهذا لا ينحصر إلى نوع واحد من الأمنية ، لأن كل واحد في نفسه إنما تمنيه بقدر نصبته وقرائن حاله ، ومنه قوله عليه السلام : «إن الشيطان يقول لمن يركب ولا يذكر الله : تغن ، فإن لم يحسن قاله له تمن »{[4283]} ، واللامات كلها للقسم .
«والبتك » : القطع{[4284]} ، وكثر الفعل إذ القطع كثير على أنحاء مختلفة ، وإنما كنى عز وجل عن البحيرة والسائبة ونحوه مما كانوا يثبتون فيه حكماً ، بسبب آلهتهم وبغير ذلك{[4285]} ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء { ولآمرنهم } بغير ألف ، وقرأ أبيّ «وأضلهم وأمنيهم وآمرهم » .
واختلف في معنى «تغيير خلق الله » ، فقال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم : أراد : يغيرون دين الله وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى : { فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله }{[4286]} أي لدين الله ، والتبديل يقع موضعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه ، وقالت فرقة : «تغيير خلق الله » هو أن الله تعالى خلق الشمس والنار والحجارة وغيرها من المخلوقات ليعتبر بها وينتفع بها ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة ، وقال ابن عباس أيضاً وأنس وعكرمة وأبو صالح : من تغيير خلق الله الإخصاء ، والآية إشارة إلى إخصاء البهائم وما شاكله ، فهي عندهم أشياء ممنوعة ، ورخص في إحصار البهائم جماعة إذا قصدت به المنفعة ، إما السمن أو غيره ، ورخصها عمر بن عبد العزيز في الخيل ، وقال ابن مسعود والحسن : هي إشارة إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن ، فمن ذلك الحديث : «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات والموشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله »{[4287]} ومنه قوله عليه السلام ، «لعن الله الواصلة والمستوصلة »{[4288]} وملاك تفسير هذه الآية : أن كل تغيير ضار فهو في الآية ، وكل تغيير نافع فهو مباح ، ولما ذكر الله تعالى عتو الشيطان وما توعد به من بث مكره ، حذره تبارك وتعالى عباده ، بأن شرط لمن يتخذه ولياً جزاء الخسران ، وتصور الخسران إنما هو بأن أخذ هذا المتخذ حظ الشيطان ، فكأنه أعطى حظ الله تبارك وتعالى فيه وتركه من أجله .