قوله عز وجل :{ ولما ورد ماء مدين } وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم ، { وجد عليه أمةً } جماعة { من الناس يسقون } مواشيهم ، { ووجد من دونهم } يعني : سوى الجماعة ، { امرأتين تذودان } يعني : تحبسان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس وتخلو لهما البئر ، قال الحسن : تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس ، وقال قتادة : تكفان الناس عن أغنامهما . وقيل : تمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب . والقول الأول أصوبها ، لما بعده ، وهو قوله : { قال } يعني : موسى للمرأتين ، { ما خطبكما } ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس ؟ { قالتا لا نسقي } أغنامنا ، { حتى يصدر الرعاء } قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن عامر : يصدر بفتح الياء وضم الدال على اللزوم ، أي : حتى يرجع الرعاء عن الماء ، وقرأ الآخرون : بضم الياء وكسر الدال ، أي : حتى يصرفوا هم مواشيهم عن الماء ، والرعاء جمع راع ، مثل : تاجر وتجار . ومعنى الآية : لا نسقي مواشينا حتى يصدر الرعاء ، لأنا امرأتان لا نطيق أن نستسقي ، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض . { وأبونا شيخ كبير } لا يقدر أن يسقي مواشيه ، فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم . واختلفوا في اسم أبيهما ، فقال مجاهد ، والضحاك ، والسدي والحسن : هو شعيب النبي عليه السلام . وقال وهب بن منبه ، وسعيد بن جبير : هو يثرون بن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره ، فدفن بين المقام وزمزم . وقيل : رجل ممن آمن بشعيب . قالوا : فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس . وقال ابن إسحاق : إن موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر ، فسقى غنم المرأتين . ويروى : أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر ، فجاء موسى ورفع الحجر وحده ، وسقى غنم المرأتين . ويقال : إنه نزع ذنوباً واحداً ودعا فيه بالبركة ، فروى منه جميع الغنم . فذلك قوله :{ فسقى لهما ثم تولى إلى الظل }
وأجاب الله - تعالى - دعاءه ، ووصل موسى بعد رحلة شاقة مضنية إلى أرض مدين ، ويقص علينا القرآن ما حدث له بعد وصوله إليها فيقول : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ } .
قال القرطبى : ووروده الماء : معناه بلغه ، لا أنه دخل فيه . ولفظه الورود قد تكون بمعنى الدخول فى المورود ، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل ، فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه . .
وقوله - تعالى - : { تَذُودَانِ } من الذود بمعنى الطرد والدفع والحبس . يقال : ذاد فلان إبله عن الحوض ، ذودا وذيادا إذا حبسها ومنعها من الوصول إليه .
والمعنى وحين وصل موسى - عليه السلام - إلى الماء الذى تستقى منه قبيلة مدين { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً } أى جماعة كثيرة { مِّنَ الناس يَسْقُونَ } أى : يسقون إبلهم وغنمهم ، ودوابهم المختلفة .
{ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أى : ووجد بالقرب منهم . أو فى جهة غير جهتهم .
{ امرأتين تَذُودَانِ } أى : امرأتين تطردان وتمنعان أغنامهما أو مواشيهما عن الماء ، حتى ينتهى الناس من السقى ، ثم بعد ذلك هما تسقيان دوابهما ، لأنهما لا قدوة لهما على مزاحمة الرجال .
وهنا قال لهما موسى - صاحب الهمة العالية ، والمروءة السامية ، والنفس الوثابة نحو نصرة المحتاج - قال لهما بما يشبه التعجب : { مَا خَطْبُكُمَا } ؟ أى : ما شأنكما ؟ وما الدافع لكما إلى منع غنمكما من الشرب من هذا الماء ، مع أن الناس يسقون منه ؟
وهنا قالتا له على سبيل الاعتذار وبيان سبب منعهما لمواشيهما عن الشرب : { لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } .
ويصدر : من أصدر - والصدر عن الشىء : الرجوع عنه ، وهو ضد الورود . يقال : صدر فلان عن الشىء . إذا رجع عنه .
قال الشوكانى : قرأ الجمهور " يصدر " بضم الياء وكسر الدال - مضارع أصدر المتعدى بالهمزة ، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو " يصدر " بفتح الياء وضم الدال - من صدر يصدر اللازم ، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف . أى : يرجعون مواشيهم . . . و { الرعآء } جمع الراعى ، مأخوذ من الرعى بمعنى الحفظ .
أى : قالتا لموسى - عليه السلام - : إن من عادتنا أن لا نسقى . مواشينا حتى يصرف الرعاء دوابهم عن الماء ، ويصبح الماء خاليا لنا ، لأننا لا قدرة لنا على المزاحمة ، وليس عندنا رجل يقوم بهذه المهمة ، وأبونا شيخ كبير فى السن لا يقدر - أيضا - على القيام بمهمة الرعى والمزاحمة على السقى .
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } أي : ولما وصل إلى مدين وورد ماءها ، وكان لها بئر تَرده رعاء الشاء { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ } أي : جماعة { يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ } أي : تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يُؤذَيا . فلما رآهما موسى ، عليه السلام ، رق لهما ورحمهما ، { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي : ما خبركما لا تردان مع هؤلاء ؟ { قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } أي : لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء ، { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي : فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى .
{ ولما ورد ماء مدين } وصل إليه وهو بئر كانوا يسقون منها . { وجد عليه } وجد فوق شفيرها . { أمة من الناس } جماعة كثيرة مختلفين . { يسقون } مواشيهم . { ووجد من دونهم } في مكان أسفل من مكانهم . { امرأتين تذودان } تمنعان أغنامهما عن الماء لئلا تختلط بأغنامهم . { قال ما خطبكما } ما شأنكما تذودان . { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء } تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء حذرا عن مزاحمة الرجال ، وحذف المفعول لأن الغرض هو بيان ما يدل على عفتهما ويدعوه إلى السقي لهما ثم دونه . وقرأ أبو عمرو وابن عامر " يصدر " أي ينصرف . وقرئ " الرعاء " بالضم وهو اسم جمع كالرخال . { وأبونا شيخ كبير } كبير السن لا يستطيع أن يخرج للسقي فيرسلنا اضطرارا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين}... وكان الماء لمدين فنسب إليه، ثم قال: {وجد عليه أمة} يقول: وجد موسى على الماء جماعة {من الناس يسقون} أغنامهم، {ووجد من دونهم امرأتين تذودان} يعني حابستين الغنم لتسقي فضل ماء الرعاء... {قال} لهما موسى: {ما خطبكما} يعني: ما أمركما، {قالتا لا نسقي} الغنم {حتى يصدر الرعاء} بالغنم راجعة من الماء إلى الرعي، فنسقي فضلتهم {وأبونا شيخ كبير} لا يستطيع أن يسقي الغنم من الكبر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ولَمّا وَرَدَ" موسى "مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً "يعني جماعة "مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ" نَعَمهم ومواشيهم...
وقوله: "وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ" يقول: ووجد من دون أمة الناس الذين هم على الماء، امرأتين تذودان، يعني بقوله: "تَذُودَان": تَحبِسان غنمهما...
واختلف أهل التأويل في الذي كانت عنه تذود هاتان المرأتان؛ فقال بعضهم: كانتا تذودان غنمهما عن الماء، حتى يَصْدُر عنه مواشي الناس، ثم تسقيان ماشيتهما لضعفهما...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تذودان الناس عن غنمهما...
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال معناه: تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا من سقي مواشيهم.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لدلالة قوله: "ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ" على أن ذلك كذلك، وذلك أنهما شكتا أنهما لا تسقيان حتى يصدر الرعاء، إذ سألهما موسى عن ذَوْدِهما، ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس، كان لا شكّ أنهما كانتا تخبران عن سبب ذودهما عنها الناس، لا عن سبب تأخر سقيهما إلى أن يُصْدِر الرعاء.
وقوله: "قالَ ما خَطْبُكُما" يقول تعالى ذكره: قال موسى للمرأتين ما شأنكما وأمركما تذودان ماشيتكما عن الناس، هلا تسقونها مع مواشي الناس والعرب، تقول للرجل: ما خَطْبُك: بمعنى ما أمرك وحالك؟... عن ابن إسحاق، قال: وجد لهما رحمة، ودخلته فيهما خشية، لما رأى من ضعفهما، وغَلَبةِ الناس على الماء دونهما، فقال لهما: ما خطبكما: أي ما شأنكما؟.
وقوله: "قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ" يقول جلّ ثناؤه: قالت المرأتان لموسى: لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء مواشِيَهم، لأنا لا نطيق أن نسقي، وإنما نسقي مواشينا ما أفضلَتْ مواشي الرعاء في الحوض، والرّعاء: جمع راع، والراعي جمعه رعاء ورُعاة ورعيان... عن ابن إسحاق "قالَتا لا نَسْقِي حتى يُصْدرَ الرّعاءُ"، امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال "وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ" لا يقدر أن يمسّ ذلك من نفسه، ولا يسِقي ماشيته، فنحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا...
وقوله: "وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ" يقولان: لا يستطيع من الكبر والضعف أن يسقي ماشيته.
وقوله: "فَسَقى لَهُما" ذُكِرَ أنه عليه السلام فتح لهما عن رأس بئر كان عليها حَجَر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس، ثم استسقى فسقى لهما ماشيتهما منه... عن ابن إسحاق، قال: أخذ دلوهُما موسى، ثم تقدّم إلى السقاء بفضل قوّته، فزاحم القوم على الماء حتى أخّرهم عنه، ثم سقى لهما.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وفي قولهما ذلك وجهان: أحدهما: أنهما قالتا ذلك اعتذاراً إلى موسى عن معاناتهما سقي الغنم بأنفسهما. الثاني: قالتا ذلك ترقيقاً لموسى ليعاونهما.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فمشى عليه السلام حتى ورد {مدين} أي بلغها، و «وروده الماء» معناه بلغه لا أنه دخل فيه، ولفظ «الورود» قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون الإطلال عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل فيه فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه، وهذه الوجوه في اللفظة تتأول في قوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71].
{قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير} وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه؛
أحدها: أن العادة في السقي للرجال، والنساء يضعفن عن ذلك.
وثانيها: ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير.
وثالثها: قولهما حتى يصدر الرعاء.
ورابعها: انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء.
وخامسها: قولهما: {وأبونا شيخ كبير} ودلالة ذلك على أنه لو كان قويا حضر ولو حضر لم يتأخر السقي، فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فوصل إلى المدينة، بنى عليه قوله: {ولما ورد} أي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب {ماء مدين} أي الذي يستقي منها الرعاء {وجد عليه} أي على الماء {أمة} أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصَدوا، فلذلك هم عالون غالبون على الماء؛ ثم بين نوعهم بقوله: {من الناس} وبين عملهم أيضاً بقوله: {يسقون} أي مواشيهم، وحذف المفعول لأنه غير مراد، والمراد الفعل، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنماً بل لمطلق الذياد وترك السقي {ووجد من دونهم} أي وجداناً مبتدئاً من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء {امرأتين} عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها {تذودان} أي توجدان الذود، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف الضررين، فتكفان أغنامهما إذا نزعت من العطش إلى الملأ لئلا تخلط بغنم الناس.
ولما كان هذا حالاً موجباً للسؤال عنه، كان كأنه قيل: فما قال لهما؟ قيل: {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام رحمة لهما: {ما خطبكما} أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما، وهو كالتعبير بالشأن عن المشؤون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمة، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي؛ قال أبو حيان: والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد.
ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة {قالتا} أي اعتذاراً عن حالهما ذلك؛ وتلويحاً باحتياجهما إلى المساعدة: {لا} أي خبرنا أنا لا {نسقي} أي مواشينا، وحذفه للعلم به {حتى يصدر} أي ينصرف ويرجع {الرعاء} أي عن الماء لئلا يخالطهم...
ولما كان التقدير: لأنا من النساء، وكان المقام يقتضي لصغر سنهما أن لهما أباً، وأن لا إخوة لهما وإلا لكفوهما ذلك، عطفتا على هذا المقدر قولهما: {وأبونا شيخ كبير} أي لا يستطيع لكبره أن يسقي، فاضطررنا إلى ما ترى، وهذا اعتذار أيضاً عن كون أبيهما أرسلهما لذلك...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{ووجد من دونهم} أي: في مكان سواهم أسفل من مكانهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى -عليه السلام- وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما...
ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود، ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف. بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب:... فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يدل قوله {لما ورد ماء مدين} أنه بلغ أرض مدين، وذلك حين ورد ماءهم. والورود هنا معناه الوصول والبلوغ كقوله تعالى {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71]. والمراد بالماء موضع الماء. وماء القوم هو الذي تعرف به ديارهم لأن القبائل كانت تقطن عند المياه وكانوا يكنون عن أرض القبيلة بماء بني فلان، فالمعنى: ولما ورد، أي عندما بلغ بلاد مدين. ويناسب الغريب إذا جاء ديار قوم أن يقصد الماء لأنه مجتمع الناس فهنالك يتعرف لمن يصاحبه ويضيفه...
والأمة: الجماعة الكثيرة العدد، وتقدم في قوله تعالى {كان الناس أمة واحدة} في [البقرة: 213]. وحذف مفعول {يسقون} لتعميم ما شأنه أن يسقى وهو الماشية والناس، ولأن الغرض لا يتعلق بمعرفة المسقي ولكن بما بعده من انزواء المرأتين عن السقي...
ومعنى {من دونهم} في مكان غير المكان الذي حول الماء، أي في جانب مباعد للأمة من الناس لأن حقيقة كلمة (دون) أنها وصف للشيء الأسفل من غيره. وتتفرع من ذلك معان مجازية مختلفة العلاقات، ومنها ما وقع في هذه الآية. ف (دون) بمعنى جهة يصل إليها المرء بعد المكان الذي فيه الساقون. شُبّه المكان الذي يبلغ إليه الماشي بعد مكان آخر بالمكان الأسفل من الآخر كأنه ينزل إليه الماشي لأن المشي يشبه بالصعود وبالهبوط باختلاف الاعتبار... والمعنى: ووجد امرأتين في جهة مبتعدة عن جهة الساقين.
و {تذودان} تطرُدان. وحقيقة الذود طرد الأنعام عن الماء ولذلك سموا القطيع من الإبل الذود فلا يقال: ذدت الناس، إلا مجازاً مرسلاً، ومنه قوله في الحديث "فَلَيذادن أقوام عن حوضي "الحديث.
والمعنى في الآية: تمنعان إبلاً عن الماء... والمقصود من حضور الماء بالأنعام سقيها. فلما رأى موسى المرأتين تمنعان أنعامهما من الشرب سألهما: ما خطبكما؟ وهو سؤال عن قصتهما وشأنهما إذ حضرا الماء ولم يقتحما عليه لسقي غنمهما...
والخطب: الشأن والحدث المهم، وتقدم عند قوله تعالى {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} [يوسف: 51]، فأجابتا بأنهما كرهتا أن تسقيا في حين اكتظاظ المكان بالرعاء وأنهما تستمران على عدم السقي كما اقتضاه التعبير بالمضارع إلى أن ينصرف الرعاء.
والإصدار: الإرجاع عن السقي، أي حتى يسقي الرعاء ويصدروا مواشيهم، فالإصدار جعل الغير صادراً، أي حتى يذهب رعاء الإبل بأنعامهم فلا يبقى الزحام. وصدهما عن المزاحمة عادتهما لأنهما كانتا ذواتي مروءة وتربية زكية...
وكان قولهما {وأبونا شيخ كبير} اعتذاراً عن حضورهما للسقي مع الرجال لعدم وجدانهما رجلاً يستقي لهما لأن الرجل الوحيد لهما هو أبوهما وهو شيخ كبير لا يستطيع ورود الماء لضعفه عن المزاحمة.