قوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض } أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها .
قوله تعالى : { ذهباً } نصب على التفسير كقولهم عشرون درهماً .
قوله تعالى : { ولو افتدى به } قيل : معناه لو افتدى به ، والواو زائدة مقحمة .
قوله تعالى : { أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا محمد بن بشار ، أخبرنا شعبة عن أبي عمران قال : سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة ، أرأيت لو أن لك ما في الأرض جميعا من شيء أكنت تفدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقول : أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم ، أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي " .
ثم صرح - سبحانه - ببيان عاقبة الذين يموتون على الكفر فقال - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } أى استمروا على كفرهم وضلالهم حتى ماتوا على هذا الكفر والضلال فكأن الآيات الكريمة قد ذكرت لنا ثلاث أصناف من الكافرين : قسم كان كافرا ثم تاب عن كفره توبة صادقة بأن آمن وعمل صالحا فقبل الله توبته . وهذا القسم هو الذى استثناه الله بقوله { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقسم كان كافراً ثم تاب عن كفره توبة ليست صادقة ، فلم يقبلها الله - تعالى - منه .
وهو الذى قال الله فى شأنه فى الآية السابقة { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } .
وقسم كان كافراً واستمر على كفره حتى مات عليه دون أن تحدث منه أية توبة ، وهو الذى أخبر عنه - سبحانه - فى هذه الآية بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } أى ماتوا على كفرهم دون أن يتوبوا منه . وقد بين الله - تعالى - سوء مصيرهم بقوله : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } أى أن هؤلاء الذين ماتوا على الكفر دون أن يتوبوا منه . لن يقبل الله - تعالى - من أحدهم ما كان قد أنفقه فى الدنيا ولو كان هذا المنفق ملء الأرض ذهبا ، لأن كفره قد أحبط أعماله وأفسدها كما قال - تعالى - { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وكذلك لن يقبل الله - تعالى - عن أحدهم فدية عن عقابه الشديد له بسبب موته على الكفر . ولو كان ما يفتدى به نفسه ملء الأرض ذهباً ، لأن الله - تعالى - غنى عنه وعن فديته - مهما عظمت - وسيعاقبه على كفره بما يستحق من عقاب .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } .
أى من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة كما سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان - وكان يقرى الضيف ، ويفك العانى ، ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك ؟ فقال : " لا ، إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " وكذلك لو افتدى - نفسه فى الآخرة - بملء الأرض ايضاً ذهباً ما قبل منه ، كما قال - تعالى -
{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } وقال - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم قال : وروى الشيخان والإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شىء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول نعم ، فيقول الله له ، قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك فى ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بى شيئا فأبيت إلا أن تشرك " .
وفى رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أى رب ، خير منزل . فيقول الله - تعالى - له : سل وتمن ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردنى إلى الدنيا فأقتل فى سبيلك عشر مرارا - لما يرى من فضل الشهادة - ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أى رب ! شر منزل ، فيقول له : أتفتدى منه بطلاع الأرض ذهبا ؟ فيقول أى رب ! نعم فيقول : كذبت ! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار " .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم قيل فى الآية السابقة { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } بغير فاء . وقيل هنا { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم } بوجود الفاء - ؟ قلت : قد أوذن بالفاء أن الكلام بنى على الشرط والجزاء ، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وبترك الفاء أن الكلام متبدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب ، كما تقول : الذى جاءنى له درهم ، لم تجعل المجىء سببا فى استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك : فله درهم " .
وقوله { ذَهَباً } منصوب على أنه تمييز .
وعبر بالذهب لأنه أنفس الأشياء وأعزها على النفس .
وقوله { وَلَوِ افتدى بِهِ } جملة حالية ، والواو للحال . أى لا يقبل من الذى مات على كفره هذا الفداء ولو فى حال افتراض تحقق هذا الفداء فى يده وتقديمه إياه لكى يدفعه لخالقه وينجو من العقوبة الى توعده بها .
أى أن العذاب الأليم نازل قطعا على هذا الذى مات على كفره ، حتى ولو فرضنا أنه تصدق فى الدنيا بملء الأرض ذهبا . وحتى لو فرضنا أنه ملك هذا المقدار النفيس الكثير من الأموال فى الآخرة وقدمه فدية لنفسه من العذاب ، فإن كل ذلك غير مقبول منه ، ولا بد من نزول العذاب به .
وقد أشار ابن المنير إلى هذا المعنى بقوله : " قبول الفدية التى هى ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال : منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية من نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول . ومنها أن يقول المفتدى فى التقدير : أفدى نفسى بكذا وقد لا يفعل . ومنها أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذى يفدى به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا ، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته . وإذا تعددت الأحوال فالمراد من الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدى بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ومع ذلك لا يقبل منه ، فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجرى هذا المجرى بطريق الأولى . فيكون دخول الواو والحالة المذكورة . وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من العذاب ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس فى ذلك اليوم ، ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلى فى يدى هذه " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } .
أى أولئك الذين ماتوا على كفرهم لهم عذاب أليم ، وما لهم من ناصرين ينصرونهم بدفع العذاب عنهم ، أو تخفيف وقعه عليهم .
ومن مزيدة لاستغراق النفى وتأكيده ، أى لا يوجد أحد كائناً من كان ينقذهم من عذاب الله ، أو يجيرهم من أليم عقابه .
وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد توعدتا الكافرين بأشد ألوان العذاب ، وأقسى أنواع العقاب ، حتى يقلعوا عن كفرهم ، ويثوبوا إلى رشدهم .
وبعد هذا الحديث المشتمل على أشد صنوف الترهيب من الكفر ، وعلى بيان سوء عاقبة الكافرين ، أتبعه بالحديث عن الطريق الذى يوصل المؤمنين إلى رضا الله وحسن مثوبته فقال - تعالى - : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } .
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا ابن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن قوما أسلموا ثم ارتدوا ، ثم أسلموا ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } هكذا رواه ، وإسناده جيد{[5285]} .
ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } أي : من مات على الكفر فلن يقبل منه خير{[5286]} أبدًا ، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قُرْبة ، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جُدْعان - وكان يُقْرِي الضيفَ ، ويَفُكُّ العاني ، ويُطعم الطعام - : هل ينفعه ذلك ؟ فقال :{[5287]} لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ : رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ{[5288]} .
وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه ، كما قال تعالى : { وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] ، [ وقال { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } ] {[5289]} [ البقرة : 254 ] وقال : { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } [ إبراهيم : 31 ] وقال { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } فعطف { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } على الأول ، فدل على أنه غيره ، وما ذكرناه أحسن من أن يقال : إن الواو زائدة ، والله أعلم . ويقتضي ذلك ألا ينقذه من عذاب الله شيء ، ولو كان قد أنفق مثل{[5290]} الأرض ذهبا ، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا ، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمَالها وسَهْلها ووعْرِها وبَرِّها وبَحْرِها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجَّاج ، حدثني شُعْبَة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ ؟ قَالَ : فَيَقُولُ : نَعَمْ . قَالَ : فَيَقُولُ : قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ أبيك آدَمَ ألا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا ، فَأَبَيْتَ إِلا أَنْ تُشْرِكَ " . وهكذا أخرجاه{[5291]} البخاري ، ومسلم{[5292]} .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا حَمَّاد ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، خَيْرُ مَنزلٍ . فَيَقُولُ : سَلْ وَتَمَنَّ . فَيَقُولُ : مَا أَسْأَلُ وَلا أَتَمَنَّى إِلا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرَار - لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ . وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : يا{[5293]} رَبِّ شَرُّ مَنزلٍ . فَيَقُولُ لَهُ : تَفْتَدِي{[5294]} مِني بِطِلاعِ الأرْضِ ذَهَبًا ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، نَعَمْ . فَيَقُولُ : كَذَبْتَ ، قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ ، فيُرَد{[5295]} إلى النَّارِ " {[5296]} .
ولهذا قال : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي : وما لهم من أحد يُنْقِذهم من عذاب الله ، ولا يجيرهم من أليم عقابه .
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَىَ بِهِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { إنّ الذينَ كفرُوا } أي جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يصدّقوا به ، وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم . { وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ } يعني : وماتوا على ذلك من جحود نبوّته ، وجحود ما جاء به . { فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرض ذَهَبا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } يقول : فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جزاء ولا رشوة على ترك عقوبته على كفره ، ولا جعل على العفو عنه ، ولو كان له من الذهب قدر ما يملأ الأرض من مشرقها إلى مغربها ، فَرَشَا وجزى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضا مما الله محلّ به من عذابه ، لأن الرّشا إنما يقبلها من كان ذا حاجة إلى ما رُشي ، فأما من له الدنيا والآخرة ، فكيف يقبل الفدية ، وهو خلاق كل فدية افتدى بها مفتد عن نفسه أو غيره ؟ وقد بينا أن معنى الفدية¹ العوض والجزاء من المفتدى منه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ثم أخبر عزّ وجلّ عما لهم عنده ، فقال : { أولَئِكَ } يعني : هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار ، { لهم عَذَابٌ ألِيمٌ } يقول : لهم عند الله في الآخرة عذاب موجع ، { وما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } يعني : وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره ، فيستنقذه من الله ومن عذابه ، كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذاه ومكروهه . وقد :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يُجاءُ بالكافر يَوْمَ القِيامَةِ فيُقالُ لَهُ : أرأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا ، أكُنْتَ مُفْتَدِيا بِهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ ، قال : فَيُقالُ لَقَدْ سُئِلْتَ ما هُوَ أيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ » ، فذلك قوله : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقَبْلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن ، قوله : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا } قال : هو كل كافر .
ونصب قوله «ذهبا » على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منه ، وهو قوله : «ملء الأرض » ، كقول القائل : عندي قدر زقّ سمنا وقدر رطل عسلاً ، فالعسل مبين به ما ذكر من المقدار ، وهو نكرة منصوبة على التفسير للمقدار والخروج منه .
وأما نحويو البصرة ، فإنهم زعموا أنه نصب الذهب لاشتغال الملء بالأرض ، ومجيء الذهب بعدهما ، فصار نصبها نظير نصب الحال ، وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شغل بفاعله فينصب ، كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شغل بفاعله ، قالوا : ونظير قوله : { مِلْءُ الأرْض ذَهَبا } في نصب الذهب في الكلام : لي مثلك رجلاً ، بمعنى : لي مثلك من الرجال . وزعموا أن نصب الرجل لاشتغال الإضافة بالاسم ، فنصب كما ينصب المفعول به لاشتغال الفعل بالفاعل ، وأدخلت الواو في قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } لمحذوف من الكلام بعده دلّ عليه دخول الواو ، كالواو في قوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ } . وتأويل الكلام : وليكون من الموقنين ، أريناه ملكوت السموات والأرض ، فكذلك ذلك في قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } ، ولو لم يكن في الكلام واو ، لكان الكلام صحيحا ، ولم يكن هنالك متروك وكان : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به .
استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم ، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرّر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدَناً . وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفراً الذين ماتوا على الكفر ، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى أعيدت ليبنى عليها قوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } . وأياً مّا كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرّف بلام الاستغراق .
والفاء في قوله : { فلن يقبل } مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أنّ الصلة هي علة عدم قبول التوبة ، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم } [ آل عمران : 90 ] لأنّهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم ، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرّح به ، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر ( إن ) وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة { فلن يقبل من أحدهم } إلى آخرها معترضة بين اسم ( إنّ ) وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] وتكون جملة { أولئك لهم عذاب أليم } خبر ( إنّ ) .
ومعنى { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا ؛ ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتُوا وهم كفار . والمِلْء بكسر الميم ما يملأ وعاءً ، ومِلء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذّرة ، لأنّ الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدّرة ، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء ، وعدد الحصى ، ومُيز هذا المقدار بذَهباً لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري :
* وقارنتْ نَجْحَ المساعي خَطْرتُه *
وقوله : { ولو افتدى به } جملة في موقع الحال ، والواو واو الحال ، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به ، وحرف ( لو ) للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب ، ولكثرته قال كثير من النحاة : إنّ لو وإن الشرطيتين في مثله مجرّدتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلاّ المبالغة ، ولَقبوهُما بالوصليتين : أي أنّهما لِمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد . وتردّدوا أيضاً في إعراب الجملة الواقعة هذَا الموقع ، وفي الواو المقترنة بها ، والمحققون على أنّها واو الحال وإليه مَال الزمخشري ، وابنُ جنّي ، والمرزوقي . ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضدّ الشرط المذكور : كقوله تعالى : { كونوا قوّامين بالقسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم } [ النساء : 135 ] . ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف ، ذكره الرضي رادّاً عليه ، وليس حقيقاً بالردّ : فإنّ للاستئناف البياني موقعاً مع هذه الواو .
هذا وإنّ مواقع هذه الواو تؤذن بأنّ الشرط الذي بعدها شرط مفروضٌ هو غاية ما يتوقّع معه انتفاء الحكم الذي قبلها ، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب :
لَيْسَ الجمالُ بمِئْزَرٍ *** فاعْلَمْ وإنْ رُدِّيتَ بُرْدا
ولذلك جرت عادة النحاة أن يقدّروا قبلها شرطاً هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله : وإنْ رُدّيت بُردا إنْ لم تُرَدَّ بُردا بل وإن رُدِّيتَ بردا وكذا قول النابغة "
سأكْعَمُ كَلبي أَن يَريبَك نبحُه *** ولو كنْتُ أرْعى مُسْحلانِ فَحَامِرا
ولأجل ذلك ، ورد إشكال على هذه الآية : لأنّ ما بعد { ولو } فيها هو عين ما قبلها ، إذ الافتداء هو عين بَذل مِلْءِ الأرض ذهباً ، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولَو افتدى به ، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية : فقال الزجّاج المعنى لن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهباً ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة ، أي لا يفديهم شيء من العذاب ، وهذا الوجه بعيد ، إذ لا يقدر أنّ في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه ، وقال قوم : الواو زائدة ، وقال في « الكشاف » : هو محمول على المعنى كأنه قيل : فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى مِلء الأرض ذهباً ، يريد أنّ كلمة بمِلء الأرض في قوة كلمة فدية واختُصر بعد ذلك بالضمير ، قال ويجوز أن يقدر كلمة ( مثل ) قبل الضمير المجرور : أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفَه كقوله : { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به } [ الزمر : 47 ] .
وعندي أنّ موقع هذا الشرط في الآية جارٍ على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ، محقّق أو مقدّر ، يتوهمه المتكلم من المخاطَب فيريد تقريره ، فلا يقتضي أنّ شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله ، بل قد يكون كذلك ، وقد يكون السؤال مجرّد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمّنه الحكم تثبيتاً على المتكلم على حدّ قولهم : « ادْرِ ما تقول » فيجيب المتكلم بإعادة السوال تقريراً له وإيذاناً بأنه تكلم عن بينة ، نعم إنّ الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة ، وهو من شواهد هذا :
قالت بناتُ العَمِّ يا سلمَى وإنْ *** كَان فَقيراً مُعْدِمَا قالتْ وإنْ
وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير :
لا تأخُذَنِّي بأقوال الوُشاة ولم *** أذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فيّ الأقاويل
وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أوَ لَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } [ الزمر : 43 ] فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك .
فقوله : { ولو افتدى به } جواب سؤالِ متعجِّبٍ من الحكم وهو قوله : { فلن يقبل من أحدهم } فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حدّ بيت كعب . فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرّد التأكيد .
ويجوز أن يكون الشرط عطفاً على محذوف دلّ عليه افتدى : أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً يجعله رَهينة . ولو بذلُه فدية ، لأنّ من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رَهناً إلى أن يقع الصلح أو العفو ، وكذلك في الديون ، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رَهائن منهم كما قال الحارث :
واذْكروا حِلْف ذي المَجاز وما قُدِّ *** م فيه العُهُودُ والكُفَلاء
ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أنّ مُحمد بن مَسلمة قال لأبي رافع : « نرهنك السلاح واللاّمة » .
وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } فذلكة للمراد من قوله : { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم } [ آل عمران : 90 ] الآيتين .
وقوله : { وما لهم من ناصرين } تكميل لنفي أحوال الغَناء عنهم وذلك أنّ المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال ، وقد يكفُله من يوثق بكفالتهم ، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة ، وكلٌّ من الكفيل والشفيع ناصر .