قوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض } أي قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها .
قوله تعالى : { ذهباً } نصب على التفسير كقولهم عشرون درهماً .
قوله تعالى : { ولو افتدى به } قيل : معناه لو افتدى به ، والواو زائدة مقحمة .
قوله تعالى : { أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا محمد بن بشار ، أخبرنا شعبة عن أبي عمران قال : سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة ، أرأيت لو أن لك ما في الأرض جميعا من شيء أكنت تفدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقول : أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم ، أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي " .
ثم صرح - سبحانه - ببيان عاقبة الذين يموتون على الكفر فقال - تعالى - : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } أى استمروا على كفرهم وضلالهم حتى ماتوا على هذا الكفر والضلال فكأن الآيات الكريمة قد ذكرت لنا ثلاث أصناف من الكافرين : قسم كان كافرا ثم تاب عن كفره توبة صادقة بأن آمن وعمل صالحا فقبل الله توبته . وهذا القسم هو الذى استثناه الله بقوله { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقسم كان كافراً ثم تاب عن كفره توبة ليست صادقة ، فلم يقبلها الله - تعالى - منه .
وهو الذى قال الله فى شأنه فى الآية السابقة { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } .
وقسم كان كافراً واستمر على كفره حتى مات عليه دون أن تحدث منه أية توبة ، وهو الذى أخبر عنه - سبحانه - فى هذه الآية بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } أى ماتوا على كفرهم دون أن يتوبوا منه . وقد بين الله - تعالى - سوء مصيرهم بقوله : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } أى أن هؤلاء الذين ماتوا على الكفر دون أن يتوبوا منه . لن يقبل الله - تعالى - من أحدهم ما كان قد أنفقه فى الدنيا ولو كان هذا المنفق ملء الأرض ذهبا ، لأن كفره قد أحبط أعماله وأفسدها كما قال - تعالى - { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وكذلك لن يقبل الله - تعالى - عن أحدهم فدية عن عقابه الشديد له بسبب موته على الكفر . ولو كان ما يفتدى به نفسه ملء الأرض ذهباً ، لأن الله - تعالى - غنى عنه وعن فديته - مهما عظمت - وسيعاقبه على كفره بما يستحق من عقاب .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } .
أى من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة كما سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان - وكان يقرى الضيف ، ويفك العانى ، ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك ؟ فقال : " لا ، إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " وكذلك لو افتدى - نفسه فى الآخرة - بملء الأرض ايضاً ذهباً ما قبل منه ، كما قال - تعالى -
{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } وقال - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم قال : وروى الشيخان والإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شىء أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول نعم ، فيقول الله له ، قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك فى ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بى شيئا فأبيت إلا أن تشرك " .
وفى رواية للإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أى رب ، خير منزل . فيقول الله - تعالى - له : سل وتمن ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردنى إلى الدنيا فأقتل فى سبيلك عشر مرارا - لما يرى من فضل الشهادة - ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : كيف وجدت منزلك ؟ فيقول : أى رب ! شر منزل ، فيقول له : أتفتدى منه بطلاع الأرض ذهبا ؟ فيقول أى رب ! نعم فيقول : كذبت ! قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار " .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم قيل فى الآية السابقة { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } بغير فاء . وقيل هنا { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم } بوجود الفاء - ؟ قلت : قد أوذن بالفاء أن الكلام بنى على الشرط والجزاء ، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وبترك الفاء أن الكلام متبدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب ، كما تقول : الذى جاءنى له درهم ، لم تجعل المجىء سببا فى استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك : فله درهم " .
وقوله { ذَهَباً } منصوب على أنه تمييز .
وعبر بالذهب لأنه أنفس الأشياء وأعزها على النفس .
وقوله { وَلَوِ افتدى بِهِ } جملة حالية ، والواو للحال . أى لا يقبل من الذى مات على كفره هذا الفداء ولو فى حال افتراض تحقق هذا الفداء فى يده وتقديمه إياه لكى يدفعه لخالقه وينجو من العقوبة الى توعده بها .
أى أن العذاب الأليم نازل قطعا على هذا الذى مات على كفره ، حتى ولو فرضنا أنه تصدق فى الدنيا بملء الأرض ذهبا . وحتى لو فرضنا أنه ملك هذا المقدار النفيس الكثير من الأموال فى الآخرة وقدمه فدية لنفسه من العذاب ، فإن كل ذلك غير مقبول منه ، ولا بد من نزول العذاب به .
وقد أشار ابن المنير إلى هذا المعنى بقوله : " قبول الفدية التى هى ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال : منها : أن يؤخذ منه على وجه القهر فدية من نفسه كما تؤخذ الدية قهرا من مال القاتل على قول . ومنها أن يقول المفتدى فى التقدير : أفدى نفسى بكذا وقد لا يفعل . ومنها أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذى يفدى به نفسه ويجعله حاضرا عتيدا ، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته . وإذا تعددت الأحوال فالمراد من الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول ، وهو أن يفتدى بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا ومع ذلك لا يقبل منه ، فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجرى هذا المجرى بطريق الأولى . فيكون دخول الواو والحالة المذكورة . وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من العذاب ، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس فى ذلك اليوم ، ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل : لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إلى فى يدى هذه " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } .
أى أولئك الذين ماتوا على كفرهم لهم عذاب أليم ، وما لهم من ناصرين ينصرونهم بدفع العذاب عنهم ، أو تخفيف وقعه عليهم .
ومن مزيدة لاستغراق النفى وتأكيده ، أى لا يوجد أحد كائناً من كان ينقذهم من عذاب الله ، أو يجيرهم من أليم عقابه .
وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد توعدتا الكافرين بأشد ألوان العذاب ، وأقسى أنواع العقاب ، حتى يقلعوا عن كفرهم ، ويثوبوا إلى رشدهم .
وبعد هذا الحديث المشتمل على أشد صنوف الترهيب من الكفر ، وعلى بيان سوء عاقبة الكافرين ، أتبعه بالحديث عن الطريق الذى يوصل المؤمنين إلى رضا الله وحسن مثوبته فقال - تعالى - : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } .
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا ابن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن قوما أسلموا ثم ارتدوا ، ثم أسلموا ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } هكذا رواه ، وإسناده جيد{[5285]} .
ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } أي : من مات على الكفر فلن يقبل منه خير{[5286]} أبدًا ، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قُرْبة ، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جُدْعان - وكان يُقْرِي الضيفَ ، ويَفُكُّ العاني ، ويُطعم الطعام - : هل ينفعه ذلك ؟ فقال :{[5287]} لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ : رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ{[5288]} .
وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه ، كما قال تعالى : { وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] ، [ وقال { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } ] {[5289]} [ البقرة : 254 ] وقال : { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } [ إبراهيم : 31 ] وقال { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } فعطف { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } على الأول ، فدل على أنه غيره ، وما ذكرناه أحسن من أن يقال : إن الواو زائدة ، والله أعلم . ويقتضي ذلك ألا ينقذه من عذاب الله شيء ، ولو كان قد أنفق مثل{[5290]} الأرض ذهبا ، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا ، بوَزْن جِبالها وتِلالها وتُرابها ورِمَالها وسَهْلها ووعْرِها وبَرِّها وبَحْرِها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجَّاج ، حدثني شُعْبَة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأرْضِ مِنْ شَيْءٍ ، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ ؟ قَالَ : فَيَقُولُ : نَعَمْ . قَالَ : فَيَقُولُ : قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ أبيك آدَمَ ألا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا ، فَأَبَيْتَ إِلا أَنْ تُشْرِكَ " . وهكذا أخرجاه{[5291]} البخاري ، ومسلم{[5292]} .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا حَمَّاد ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، خَيْرُ مَنزلٍ . فَيَقُولُ : سَلْ وَتَمَنَّ . فَيَقُولُ : مَا أَسْأَلُ وَلا أَتَمَنَّى إِلا أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ عَشْرَ مِرَار - لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ . وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ ، كَيْفَ وَجَدْتَ مَنزلَكَ ؟ فَيَقُولُ : يا{[5293]} رَبِّ شَرُّ مَنزلٍ . فَيَقُولُ لَهُ : تَفْتَدِي{[5294]} مِني بِطِلاعِ الأرْضِ ذَهَبًا ؟ فَيَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، نَعَمْ . فَيَقُولُ : كَذَبْتَ ، قَدْ سَأَلْتُكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَرَ فَلَمْ تَفْعَلْ ، فيُرَد{[5295]} إلى النَّارِ " {[5296]} .
ولهذا قال : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي : وما لهم من أحد يُنْقِذهم من عذاب الله ، ولا يجيرهم من أليم عقابه .
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَىَ بِهِ أُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { إنّ الذينَ كفرُوا } أي جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يصدّقوا به ، وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم . { وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ } يعني : وماتوا على ذلك من جحود نبوّته ، وجحود ما جاء به . { فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرض ذَهَبا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } يقول : فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جزاء ولا رشوة على ترك عقوبته على كفره ، ولا جعل على العفو عنه ، ولو كان له من الذهب قدر ما يملأ الأرض من مشرقها إلى مغربها ، فَرَشَا وجزى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضا مما الله محلّ به من عذابه ، لأن الرّشا إنما يقبلها من كان ذا حاجة إلى ما رُشي ، فأما من له الدنيا والآخرة ، فكيف يقبل الفدية ، وهو خلاق كل فدية افتدى بها مفتد عن نفسه أو غيره ؟ وقد بينا أن معنى الفدية¹ العوض والجزاء من المفتدى منه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . ثم أخبر عزّ وجلّ عما لهم عنده ، فقال : { أولَئِكَ } يعني : هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار ، { لهم عَذَابٌ ألِيمٌ } يقول : لهم عند الله في الآخرة عذاب موجع ، { وما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } يعني : وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره ، فيستنقذه من الله ومن عذابه ، كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذاه ومكروهه . وقد :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : حدثنا أنس بن مالك ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يُجاءُ بالكافر يَوْمَ القِيامَةِ فيُقالُ لَهُ : أرأيْتَ لَوْ كانَ لَكَ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا ، أكُنْتَ مُفْتَدِيا بِهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ ، قال : فَيُقالُ لَقَدْ سُئِلْتَ ما هُوَ أيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ » ، فذلك قوله : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقَبْلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن ، قوله : { إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبا } قال : هو كل كافر .
ونصب قوله «ذهبا » على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منه ، وهو قوله : «ملء الأرض » ، كقول القائل : عندي قدر زقّ سمنا وقدر رطل عسلاً ، فالعسل مبين به ما ذكر من المقدار ، وهو نكرة منصوبة على التفسير للمقدار والخروج منه .
وأما نحويو البصرة ، فإنهم زعموا أنه نصب الذهب لاشتغال الملء بالأرض ، ومجيء الذهب بعدهما ، فصار نصبها نظير نصب الحال ، وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شغل بفاعله فينصب ، كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شغل بفاعله ، قالوا : ونظير قوله : { مِلْءُ الأرْض ذَهَبا } في نصب الذهب في الكلام : لي مثلك رجلاً ، بمعنى : لي مثلك من الرجال . وزعموا أن نصب الرجل لاشتغال الإضافة بالاسم ، فنصب كما ينصب المفعول به لاشتغال الفعل بالفاعل ، وأدخلت الواو في قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } لمحذوف من الكلام بعده دلّ عليه دخول الواو ، كالواو في قوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ } . وتأويل الكلام : وليكون من الموقنين ، أريناه ملكوت السموات والأرض ، فكذلك ذلك في قوله : { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } ، ولو لم يكن في الكلام واو ، لكان الكلام صحيحا ، ولم يكن هنالك متروك وكان : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به .
وقوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } الآية ، جزم للحكم على كل مواف على الكفر إلى يوم القيامة ، وقرأ عكرمة : «فلن نقبل » بنون العظمة «ملء الأرض » بالنصب ، و«الملء » ما شحن به الوعاء ، فهو بكسر الميم الاسم وبفتحها المصدر ، تقول ملأت الشيء أملؤه مَلأً والملء اسم ما ملأت به ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو السمال : «مل » دون همزة ، ورويت عن نافع و{ ذهباً } نصب على التمييز ، وقرأ ابن أبي عبلة : «ذهباً لو افتدى به » ، دون واو ، واختلف الناس في هذه الآية في قوله { ولو افتدى } فقال الطبري : هي متعلقة بمحذوف في آخر الكلام دل عليه دخول الواو ، كما دخلت في قوله { وليكون من الموقنين }{[3318]} لمتروك من الكلام ، تقديره ، وليكون من الموقنين أريناه ملكوت السماوات والأرض .
قال الفقيه الإمام : وفي هذا التمثيل نظر فتأمله ، وقال الزّجاج : المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا «ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ولو افتدى » أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه ، قال : فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قول حسن : وقال قوم : الواو زائدة وهذا قول مردود ، ويحتمل أن يكون المعنى نفي القبول جملة على كل الوجوه ، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول ، كما تقول : أنا لا أفعل لك كذا بوجه ، ولو رغبت إليَّ ، وباقي الآية وعيد بيّن .
استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم ، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرّر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدَناً . وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفراً الذين ماتوا على الكفر ، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى أعيدت ليبنى عليها قوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } . وأياً مّا كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرّف بلام الاستغراق .
والفاء في قوله : { فلن يقبل } مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أنّ الصلة هي علة عدم قبول التوبة ، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم } [ آل عمران : 90 ] لأنّهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم ، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرّح به ، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر ( إن ) وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة { فلن يقبل من أحدهم } إلى آخرها معترضة بين اسم ( إنّ ) وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] وتكون جملة { أولئك لهم عذاب أليم } خبر ( إنّ ) .
ومعنى { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا ؛ ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتُوا وهم كفار . والمِلْء بكسر الميم ما يملأ وعاءً ، ومِلء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذّرة ، لأنّ الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدّرة ، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء ، وعدد الحصى ، ومُيز هذا المقدار بذَهباً لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري :
* وقارنتْ نَجْحَ المساعي خَطْرتُه *
وقوله : { ولو افتدى به } جملة في موقع الحال ، والواو واو الحال ، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به ، وحرف ( لو ) للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب ، ولكثرته قال كثير من النحاة : إنّ لو وإن الشرطيتين في مثله مجرّدتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلاّ المبالغة ، ولَقبوهُما بالوصليتين : أي أنّهما لِمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد . وتردّدوا أيضاً في إعراب الجملة الواقعة هذَا الموقع ، وفي الواو المقترنة بها ، والمحققون على أنّها واو الحال وإليه مَال الزمخشري ، وابنُ جنّي ، والمرزوقي . ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضدّ الشرط المذكور : كقوله تعالى : { كونوا قوّامين بالقسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم } [ النساء : 135 ] . ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف ، ذكره الرضي رادّاً عليه ، وليس حقيقاً بالردّ : فإنّ للاستئناف البياني موقعاً مع هذه الواو .
هذا وإنّ مواقع هذه الواو تؤذن بأنّ الشرط الذي بعدها شرط مفروضٌ هو غاية ما يتوقّع معه انتفاء الحكم الذي قبلها ، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب :
لَيْسَ الجمالُ بمِئْزَرٍ *** فاعْلَمْ وإنْ رُدِّيتَ بُرْدا
ولذلك جرت عادة النحاة أن يقدّروا قبلها شرطاً هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله : وإنْ رُدّيت بُردا إنْ لم تُرَدَّ بُردا بل وإن رُدِّيتَ بردا وكذا قول النابغة "
سأكْعَمُ كَلبي أَن يَريبَك نبحُه *** ولو كنْتُ أرْعى مُسْحلانِ فَحَامِرا
ولأجل ذلك ، ورد إشكال على هذه الآية : لأنّ ما بعد { ولو } فيها هو عين ما قبلها ، إذ الافتداء هو عين بَذل مِلْءِ الأرض ذهباً ، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولَو افتدى به ، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية : فقال الزجّاج المعنى لن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهباً ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة ، أي لا يفديهم شيء من العذاب ، وهذا الوجه بعيد ، إذ لا يقدر أنّ في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه ، وقال قوم : الواو زائدة ، وقال في « الكشاف » : هو محمول على المعنى كأنه قيل : فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى مِلء الأرض ذهباً ، يريد أنّ كلمة بمِلء الأرض في قوة كلمة فدية واختُصر بعد ذلك بالضمير ، قال ويجوز أن يقدر كلمة ( مثل ) قبل الضمير المجرور : أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفَه كقوله : { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به } [ الزمر : 47 ] .
وعندي أنّ موقع هذا الشرط في الآية جارٍ على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ، محقّق أو مقدّر ، يتوهمه المتكلم من المخاطَب فيريد تقريره ، فلا يقتضي أنّ شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله ، بل قد يكون كذلك ، وقد يكون السؤال مجرّد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمّنه الحكم تثبيتاً على المتكلم على حدّ قولهم : « ادْرِ ما تقول » فيجيب المتكلم بإعادة السوال تقريراً له وإيذاناً بأنه تكلم عن بينة ، نعم إنّ الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة ، وهو من شواهد هذا :
قالت بناتُ العَمِّ يا سلمَى وإنْ *** كَان فَقيراً مُعْدِمَا قالتْ وإنْ
وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير :
لا تأخُذَنِّي بأقوال الوُشاة ولم *** أذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فيّ الأقاويل
وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أوَ لَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } [ الزمر : 43 ] فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك .
فقوله : { ولو افتدى به } جواب سؤالِ متعجِّبٍ من الحكم وهو قوله : { فلن يقبل من أحدهم } فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حدّ بيت كعب . فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرّد التأكيد .
ويجوز أن يكون الشرط عطفاً على محذوف دلّ عليه افتدى : أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً يجعله رَهينة . ولو بذلُه فدية ، لأنّ من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رَهناً إلى أن يقع الصلح أو العفو ، وكذلك في الديون ، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رَهائن منهم كما قال الحارث :
واذْكروا حِلْف ذي المَجاز وما قُدِّ *** م فيه العُهُودُ والكُفَلاء
ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أنّ مُحمد بن مَسلمة قال لأبي رافع : « نرهنك السلاح واللاّمة » .
وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } فذلكة للمراد من قوله : { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم } [ آل عمران : 90 ] الآيتين .
وقوله : { وما لهم من ناصرين } تكميل لنفي أحوال الغَناء عنهم وذلك أنّ المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال ، وقد يكفُله من يوثق بكفالتهم ، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة ، وكلٌّ من الكفيل والشفيع ناصر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبرهم عنهم وعن الكفار وما لهم في الآخرة، فقال عز وجل: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار}، فيود أحدهم أن يكون له ملء الأرض ذهبا، يقدر على أن يفتدي به نفسه من العذاب لافتدى به، {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} ما قبل منه. {أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين}: من مانعين يمنعونهم من العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إنّ الذينَ كفرُوا}: جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يصدّقوا به، وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم. {وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ}: وماتوا على ذلك من جحود نبوّته، وجحود ما جاء به. {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرض ذَهَبا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}: فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جزاء ولا رشوة على ترك عقوبته على كفره، ولا جعل على العفو عنه، ولو كان له من الذهب قدر ما يملأ الأرض من مشرقها إلى مغربها، فَرَشَا وجزى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضا مما الله محلّ به من عذابه، لأن الرّشا إنما يقبلها من كان ذا حاجة إلى ما رُشي، فأما من له الدنيا والآخرة، فكيف يقبل الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدى بها مفتد عن نفسه أو غيره؟ وقد بينا أن معنى الفدية¹ العوض والجزاء من المفتدى منه. ثم أخبر عزّ وجلّ عما لهم عنده، فقال: {أولَئِكَ}: هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار، {لهم عَذَابٌ ألِيمٌ}: لهم عند الله في الآخرة عذاب موجع. {وما لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}: وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره، فيستنقذه من الله ومن عذابه، كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذاه ومكروهه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لو كان معهم ما يفتدون به أنفسهم، ما قُبِل منهم، ولكن لا يكون...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
المِلء أصله المَلأ، وهو تطفيح الإناء. ومنه الملأ الاشراف، لأنهم يملأون العين هيبة وجلالة...
(ولو افتدى به) فالفدية: البدل على الشيء في إزالة الاذية...
ومنه قوله:"وفديناه بذبح عظيم" لأنه بدل منه في إزالة الذبح عنه، ومنه فداء الأسير بغيره، لأنه بدل منه في إزالة القتل والأسر عنه. وقيل في معنى الافتداء ههنا قولان: أحدهما -البيان عن أن ما كلفه في الدنيا يسير في جنب ما يبذله في الآخرة من الفداء الكثير لو وجد إليه السبيل...
الثاني- ما حكاه الزجاج أنه لو افتدى به في دار الدنيا مع الإقامة على الكفر لم يقبل منه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال الزّجاج: المعنى: لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ولو افتدى أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه، قال: فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب.
وهذا قول حسن. ويحتمل أن يكون المعنى: نفي القبول جملة على كل الوجوه، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول، كما تقول: أنا لا أفعل لك كذا بوجه، ولو رغبت إليَّ، وباقي الآية وعيد بيّن.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
الذي يقتضيه هذا التركيب، وينبغي أن يحمل عليه، أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها، ولو في حالة الافتداء به من العذاب، لأن حالة الافتداء هي حال لا يمتن فيها المفتدي على المفتدي منه، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن: لو، تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله: « أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردوا السائل ولو بظلف محرق» كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها، لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه، فكأن يناسب أن لا يرد السائل به، وكذلك حالة الفداء: يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً، لكنه لا يقبل. ونظيره قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال، حتى في حالة صدقهم، وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها. فلفظ: ولو، هنا لتعميم النفي والتأكيد له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أثبت لهم الخصوصية بذلك لائناً لهم فيه إلى حد أيس معه من رجوعهم، تشوف السامع إلى حالهم في الآخرة فقال مبيناً لهم أن السبب في عدم قبول توبتهم تفويت محلها بتماديهم على الكفر: {إن الذين كفروا} أي هذا الكفر أو غيره، ويجوز أن يكون المراد أنهم ثلاثة أقسام: التائبون توبة صحيحة وهم الذين أصلحوا، والتائبون توبة فاسدة، والواصلون كفرهم بالموت من غير توبة، ولذا قال: {وماتوا وهم كفار} ولما كان الموت كذلك سبباً للخلود في النار لأن السياق للكفر والموت عليه، صرح بنفي قبول الفداء كائناً من كان، وربطه بالفاء فقال: {فلن يقبل} أي بسبب شناعة فعلهم الذي هو الاجتراء على الكفر ثم الموت عليه {من أحدهم} أي كائناً من كان {ملء الأرض ذهباً} أي من الذهب، لا يتجدد له قبول ذلك لو بذله هبة أو هدية أو غير ذلك {ولو افتدى به}... فالمعنى: لا يقبل من أحدهم ما يملأ الأرض من الذهب على حال من الأحوال ولو على حال الافتداء، والمراد بالمثال المبالغة في الكثرة، أي لا يقبل منه شيء؛ وإنما اقتصر على ملء الأرض لأنه أكثر ما يدخل تحت أوهام الناس ويجري في محاوراتهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما تشوف السامع إلى معرفة ما يحل بهم أجيب بقوله: {أولئك} أي البعداء من الرحمة {لهم عذاب أليم} ولعظمته أغرق في النفي بعده بزيادة الجار فقال: {وما لهم من ناصرين} أي ينصرونهم بوجه من الوجوه، فانتفى عنهم كل وجه من وجوه الاستنقاذ.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} وهؤلاء هم القسم الثالث من أقسام الكافرين في الآيات. فالأول من يتوبون توبة من الكفر ويعملون الصالحات فيستحقون المغفرة والرحمة. والثاني من يتوبون توبة غير مقبولة إما لفسادها في نفسها وإما لأنها توبة عن بعض أعمال الكفر مع البقاء عليه وقد تقدم حكمها. أما هؤلاء الذين يقيمون على الكفر وأعماله حتى يدركهم الموت على ذلك: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا} إذا كان قد تصدق به في الدنيا لأن الكفر يحبط كل عمل: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [الفرقان: 23] فهو لا يفيد في نجاتهم من العذاب الآتي ذكره في الآية لأن من لم ترتق روحه في الدنيا إلى درجة الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر فإنها لا ترتقي في الآخرة من الهاوية التي تسمى النار والجحيم إلى درجة من الدرجات العلى التي تكون في الجنة.
{ولو افتدى به} في الآخرة على فرض إنه يملكه بأن أراد أن يجعله جزاء نجاته والعفو عنه كما يفعل الناس من الحكام الظالمين فإنه لا يقبل منه أيضا. قال تعالى في وعيد المنافقين: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير} [الحديد: 15] بل لا تقبل الفدية من غيرهم أيضا، كما في آيات أخرى عامة. وليست علة ذلك ما قالوه من كون الله تعالى غنيا عن الذهب وغيره مما يفتدى به، فإنه تعالى غني أيضا عن إيمان الناس وأعمالهم، وإنما علته أنه تعالى لم يجعل أمر نجاة الناس من عذاب الآخرة ولا أمر فوزهم بنعيمها مما يكون بالأمور الخارجية كمالٍ يبذل وعظيمٍ ينفع، بل جعل ذلك أمرا متعلقا بأمر داخلي، متعلقا بجوهر النفس، فمن زكاها بالإيمان مع العمل الصالح أفلح ومن دساها بالكفر والأعمال السيئة خاب وخسر راجع تفسير {واتقوا يوما} [البقرة: 47 و 123] إلخ وتفسير {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} [البقرة: 254] إلخ.
وقال الأستاذ الإمام في الآية: الكلام في هذا الجزاء من التمثيل لأنه ليس هناك حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه لأن الأشقياء لا نصير لهم فينفق عليه والأولياء في غنى بفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم. والمراد أنه لا طريق للافتداء لو أريد. ليس عندنا عنه غير هذا.
{أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين} ينصرونهم بدفع العذاب عنهم أو إيصال الخير إليهم، أي لا يجدون لهم نصيرا ما كما تفيده "من "الدالة على استغراق النفي ويسمونها زائدة، لأنها لا متعلق لها في اصطلاح النحاة لا لأنها لا معنى لها في الكلام.
لقد كفروا، ولقد يقدر الله لهم أن يتوبوا، فماتوا على الكفر، ويريد الله أن يعطينا حكما خاصا بعملهم في الدنيا، وحكما خاصا بما يتلقونه من عذاب في الآخرة، والحكم الخاص بعملهم في الدنيا سببه أن لهم اختيارا، والحكم الخاص بما يتلقونه في الآخرة من عقاب لأنه لا خيار لهم، وهنا للعلماء وقفة، فهل ملء الأرض ذهبا أنهم أنفقوا في حياتهم ملء الأرض ذهبا؟ نقول له: لا ينفعك هذا الإنفاق في أعمال الخير لأن أعمالك حابطة.
هب أن كافرا مات على الكفر وقد أنفق في الخير ملء الأرض ذهبا، نقول له: هذا الإنفاق لا ينفع، مع الخيانة العظمى وهي الكفر، فما دام غير مؤمن بإله، فهو قد أنفق هذا المال من أجل الناس، وصار منفقا على من لا يقدر على أن يجازيه بالخير في الآخرة، لذلك فليس له عند الله شيء، فالذي يعمل عملا، عليه ان يطلب أجرا ممن عمل له، فهل كان الله في بال ذلك الكافر؟ لا؛ لأنه مات على الكفر، لذلك لو أنفق ملء الأرض ذهبا فلن يقبل منه. لقد صنع ذلك الخير وفي باله الناس، والناس يعطونه حقه من الثناء، سواء كان مخترعا أو محسنا أو غير ذلك، إنه ينال أجره من الإنسانية، وينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"وفعلت ليقال وقد قيل".
كأن الله يقول له: لم أكن في بالك فلماذا تطلب مني أجرا في الآخرة، لم يكن في بالك أن الملك لي، قال سبحانه: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].
وبعض الناس يقول: كيف لا ينال ثواب الآخرة من ملأوا الدنيا بالاكتشافات والابتكارات وخففوا بها آلام الإنسانية؟ ونقول: لقد أعطتهم الإنسانية وخلدت ذكراهم، وأقامت لهم التماثيل والمؤلفات والأعياد والجوائز، لقد عملوا للناس فأعطاهم الناس، فلا بخس في حقوقهم، ذلك أنهم لم يعملوا وفي بالهم الله، وقد صور الحق موقفهم التصوير الرائع فيقول جل شأنه: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
إنه سراب ناتج عن تخيل الماء في الصحراء يتوهمه السائر العطشان في الصحراء نتيجة انعكاسات الضوء، فيظل السائر متجها إلى وهم الماء، إنه يصنع الأمل لنفسه، فإذا جاءه لم يجده شيئا، ويفاجأ بوجود الله، فيندم ويتلقى العذاب.
وكذلك لن يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو أنفقه في أي خير في الدنيا، وبعد ذلك لن يقبل الله منه ملء الأرض ذهبا، لو افتدى به نفسه في الآخرة، إن كان سيجد ملء الأرض ذهباً وعلى فرض أنه قد وجد ملء الأرض ذهبا، فهل يجد من يقبل ذلك منه؟ لا، إنّه في الحقيقة لن يجد الذهب؛ لأنه في الآخرة لم يعد يملك شيئا: يقول الحق:
{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].
ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47].
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي إن لهؤلاء عذابا أليما؛ لأن كل حدث من الأحداث إنما يأخذ قوته من قوة فاعله، فإذا كان الحدث التعذيبي منسوبا إلى الله وله مطلق القوة والقدرة، لذلك فالعذاب لن يطاق. ولن يجد الظالم من يدرأ عنه هذا العذاب. لأنه لن يجد ناصرا له، ولن يجد شفيعا فلن يأتي أحد ويقول: إن فلانا يتعذب فهيا بنا ننصره، لا يأتي أحد لينصره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في الآية الثانية يقول تعالى: (إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفّار فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به).
تخصّ الآية أُولئك الذين يقضون أعمارهم كافرين في هذه الدنيا، ثمّ يموتون وهم على تلك الحال. يقول القرآن، بعد أن اتّضح لهؤلاء طريق الحقّ، يسيرون في طريق الطغيان والعصيان، وهم في الحقيقة ليسوا مسلمين، ولن يُقبل منهم كلّ ما ينفقونه، وليس أمامهم أيّ طريق للخلاص، حتّى وإن أنفقوا ملء الأرض ذهباً في سبيل الله.
من الواضح أنّ القصد من القول بإنفاق هذا القدر الكبير من الذهب إنّما هو إشارة إلى بطلان إنفاقهم مهما كثر، لأنّه مقرون بتلوّث القلب والروح بالعداء لله، وإلاَّ فمن الواضح أنّ ملء الأرض ذهباً يوم القيامة لا يختلف عن ملئها تراباً. إنّما قصد الآية هو الكناية عن أهميّة الموضوع.
أمّا بشأن مكان هذا الإنفاق، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقد ذكر المفسّرون لذلك احتمالين اثنين، ولكن ظاهر الآية يدلّ على العالم الآخر، أي كانوا كافرين (وماتوا وهم كفّار)، فلو كانوا يملكون ملء الأرض ذهباً، وظنّوا أنّهم بالاستفادة من هذا المال، كما هي الحال في الدنيا، يستطيعون أن يدرؤوا العقاب عن أنفسهم، فهم على خطأ فاحش، إذ أنّ هذه الغرامة المالية والفدية ليست قادرة على التأثير في ما سيواجههم من عقاب. وفي الواقع فان مضمون هذه الآية يشبه قوله تعالى في الآية 15 من سورة الحديد: (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا).
وفي الختام يشير إلى نكتة أخرى في المقام ويقول: (أُولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين).
لاشكّ في أنّهم سينالون عقاباً شديداً مؤلماً، ولن يكون باستطاعة أحد أن ينتصر أو يشفع لهم. لأن الشفاعة لها شرائط، وأهمها الإيمان بالله، ولهذا السبب فلو أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفّار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم. وأساساً، بما أن الشفاعة بإذن الله، فإن الشفعاء لا يشفعون أبداً لمثل هؤلاء الأفراد غير اللائقين للشفاعة، لأن الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل، والإذن الإلهي لا يشمل الأفراد غير اللائقين.