قوله تعالى : { وكتبنا له } ، يعني لموسى .
قوله تعالى : { في الألواح } ، قال ابن عباس : يريد ألواح التوراة ، وفي الحديث ( كانت من سدر الجنة ، طول اللوح اثنا عشر ذراعاً ) . وجاء في الحديث ( خلق الله آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ) . وقال الحسن : كانت الألواح من خشب . قال الكلبي : كانت من زبرجدة خضراء . وقال سعيد بن جبير : كانت من ياقوت أحمر ، وقال الربيع بن أنس : كانت الألواح من برد . وقال ابن جريج : كانت من زمرد ، أمر الله جبريل حتى جاء بها من عدن ، وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر ، واستمد من نهر النور ، قال وهب : أمره الله بقطع الألواح من صخرة صماء ، لينها الله له ، فقطعها بيده ، ثم شققها بيده ، وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر ، وكان ذلك في أول يوم من ذي القعدة ، وكانت الألواح عشرة أذرع على طول موسى ، وقال مقاتل ووهب : { وكتبنا له في الألواح } ، كنقش الخاتم . وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير ، يقرأ الجزء منه في سنة ، لم يقرأه إلا أربعة نفر ، موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى . وقال الحسن : هذه الآية في التوراة ألف آية ، يعني : { وكتبنا له في الألواح } .
قوله تعالى : { من كل شيء } ، مما أمروا به ونهوا عنه .
قوله تعالى : { موعظة } نهياً عن الجهل ، وحقيقة لموعظة التذكير والتحذير بما يخاف عاقبته .
قوله تعالى : { وتفصيلاً لكل شيء } ، أي : تبييناً لكل شيء من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام .
قوله تعالى : { فخذها بقوة } ، أي : بجد واجتهاد ، وقيل : بقوة القلب وصحة العزيمة ، لأنه إذا أخذه بضعف النية أداه إلى الفتور .
قوله تعالى : { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } ، قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : يحلوا حلالها ، ويحرموا حرامها ، ويتدبروا أمثالها ، ويعملوا بمحكمها ، ويقفوا عند متشابهها ، وكان موسى عليه السلام أشد عبادة من قومه ، فأمر بما لم يؤمروا به . قال قطرب : ( بأحسنها ) أي بحسنها ، وكلها حسن ، وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل ، وهي ما يستحق عليها الثواب ، وما دونها المباح ، لأنه لا يستحق عليه الثواب ، وقيل : بأحسنها بأحسن الأمرين في كل شيء ، كالعفو أحسن من القصاص ، والصبر أحسن من الانتصار .
قوله تعالى : { سأريكم دار الفاسقين } ، قال مجاهد : مصيرها في الآخرة ، قال الحسن وعطاء : يعني جهنم ، يحذركم أن تكونوا مثلهم ، وقال قتادة وغيره : سأدخلكم الشام ، فأريكم منازل القرون الماضية الذين خالفوا أمر الله لتعتبروا بها ، قال عطية العوفي : أراد دار فرعون وقومه وهي مصر ، يدل عليه قراءة قسامة بن زهير : ( سأورثكم دار الفاسقين ) ، وقال السدي : دار الفاسقين مصارع الكفار . وقال الكلبي : ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد ، وثمود ، والقرون الذين أهلكوا .
ثم فصل - سبحانه - بعض النعم التي منحها لنبيه موسى وقال : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } .
والمراد بالألواح كما قال ابن عباس - ألواح التوراة ، واختلف في عددها فقيل : سبعة ألواح وقيل عشرة ألواح وقيل أكثر من ذلك . كما اختلف في شأنها فقيل كانت من سدر الجنة ، وقيل كانت من زبرجد أو زمرد . . . إلخ .
والذى نراه تفويض معرفة ذلك إلى الله - تعالى - لأنه لم يرد نص صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عددها أو كيفيتها .
والمعنى : وكتبنا لموسى - عليه السلام - في ألواح التوراة من كل شىء يحتاجون إليه من الحلا والحرام ، والمحاسن والقبائح . ليكون ذلك موعظة لهم من شأنها أن تؤثر في قلوبهم ترغيباً وترهيباً . كما كتبنا له في تلك الألواح تفصيل كل شىء يتعلق بأمر هذه الرسالة الموسوية .
وإسناد الكتابة إليه - تعالى - إما على معنى أن ذلك كان بقدرته - تعالى - وصنعه ولا كسب لأحد فيه ، وإما على معنى أنها كتبها بأمره ووحيه سواء كان الكاتب لها موسى أو ملك من ملائكته - عز وجل - .
قال صاحب المنار : قال بعض المفسرين : إن الألواح كانت مشتملة على التوراة : وقال بعضهم بل كانت قبل التوراة . والراجح أنها كانت أول ما أوتيته من وحى التشريع فكانت أصل التوراة الإجالى ، وكانت سائر الأحكام من العبادات والمعاملات الحربية والمدنية والعقوبات تنزل يخاطبه بها الله - تعالى - في أوقات الحاجة إليها " .
وقوله { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } بدل من قوله { مِن كُلِّ شَيْءٍ } باعتبار محله وهو النصب لأن من مزيدة كما يرى كثير من النحاة . أى : كتبنا له فيها كل شىء من المواعظ وتفصيل الأحكام .
والضمير في قوله - تعالى - { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } يعود إلى الألواح . والفاء عاطفة لمحذوف على كتبنا ، والمحذوف هو لفظ قلنا وقوله { بِقُوَّةٍ } حال من فاعل خذها أى : كتبنا له في الألواح من كل شىء ، وقلنا له خذها بقوة أى بجد وحزم ، وصبر وجلد ، لأنه - عليه السلام - قد أرسل إلى قوم طال عليهم الأمد وهم في الذل والاستعباد ، فإذا لم يكن المتولى لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين ، فإنه قد يعجز عن تربيتهم . ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم .
قال الجمل : وقوله - تعالى - { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أى التوراة ومعنى بأحسنها بحسنها إذ كل ما فيها حسن ، أو أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ، وفعل الخير أحسن من ترك الشر ، وذلك لأن الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان تحمل على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها إلى الصواب .
أو أن فيها حسناً وأحسن كالقود والعفو ، والانتصار والصبر ، والمأمور به والمباح فأمروا بأن يأخذوا بما هو أكثر ثوابا .
وقوله - تعالى - { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والتهديد .
أى : سأريكم عاقبة من خالف أمرى ، وخرج عن طاعتى ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار ، فتلك سنتى التي لا تتغير ولا تتبدل .
قال ابن كثير : وإنما قال { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غداً ما يصير إليه حال من خالفنى على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
وقيل المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه وهى مصر ، كيف أقفرت منهم ودمروا لفسهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فيصيبكم ما أصابهم .
وقيل المراد بها منازل عاد وثمود والأقوام الذين هلكوا بسبب كفرهم .
وقيل المراد بها أرض الشام التي كان يسكنها الجبارون . فإنهم لم يدخلوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر على يد يوشع بن نون .
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح ، لأن الآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله في خلقه ، وهذه السنة تتمثل في أن كل دار تفسق عن أمر ربها تكون عاقبتها الذل والدمار ، ولأنه لم يرد حديث صحيح يعين المراد بدار الفاسقين .
فالآية الكريمة قد اشتملت على جانب من مظاهر نعم الله على نبيه موسى - عليه السلام - كما اشتملت على الأمر الصريح منه - سبحانه - له بأن يهيىء نفسه لحمل تكاليف الرسالة بعزم وصبر ، وأن يأمر قومه بأن يأخذوا بأكملها وأعلاها بدون ترخيص أو تحايل ، لأنهم قوم كانت طبيعتهم رخوة وعزيمتهم ضعيفة ، ونفوسهم منحرفة . كما اشتملت على التحذير الشديد لكل من يخرج عن طاعة الله وينتهك حرماته .
ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ، قيل : كانت الألواح من جوهر ، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام ، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله [ تعالى ]{[12129]} فيها : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } [ القصص : 43 ]
وقيل : الألواح أعطيها موسى قبل التوراة ، فالله أعلم . وعلى كل تقدير كانت{[12130]} كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه ، والله أعلم .
وقوله : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : بعزم على الطاعة { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } قال سفيان بن عيينة : حدثنا أبو سعد{[12131]} عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أمر موسى - عليه السلام - أن يأخذ بأشد ما أمر قومه .
وقوله : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : سترون{[12132]} عاقبة من خالف أمري ، وخرج عن طاعتي ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب ؟
قال ابن جرير : وإنما قال : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } كما يقول القائل لمن يخاطبه : " سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري " ، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد ، والحسن البصري .
وقيل : معناه { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : من أهل الشام ، وأعطيكم إياها . وقيل : منازل قوم فرعون ، والأول أولى ، والله أعلم ؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر ، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وكتبنا لموسى في ألواحه . وأدخلت الألف واللام في «الألواح » بدلاً من الإضافة ، كما قال الشاعر :
***والأحْلامُ غيرُ عَوَازِبُ ***
وكما قال جلّ ثناؤه فإنّ الجَنّةَ هِيَ المَأْوَى يعني : هي مأواه .
وقوله : مِنْ كُلّ شَيْءٍ يقول من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعزّ سلطانه . مَوْعِظَةً لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح . وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ يقول : وتبيينا لكلّ شيء من أمر الله ونهيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أو سعيد بن جبير وهو في أصل كتابي ، عن سعيد بن جبير في قول الله : وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : ما أمروا به ونهوا عنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ من الحلال والحرام .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : ما أمروا به ونُهوا عنه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال عطية : أخبرني ابن عباس أن موسى صلى الله عليه وسلم لما كربه الموت قال : هذا من أجل آدم ، قد كان الله جعلنا في دار مثوى لا نموت ، فخطأ آدم أنزلنا ههنا فقال الله لموسى : أبعث إليك آدم فتخاصمه ؟ قال : نعم . فلما بعث الله آدم ، سأله موسى ، فقال أبونا آدم عليهما السلام : يا موسى سألت الله أن يبعثني لك قال موسى : لولا أنت لم نكن ههنا . قال له آدم : أليس قد أتاك الله من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً ؟ أفلست تعلم أنه ما أصَابَ في الأرْضِ من مُصِيَبةٍ ولا في أنْفُسِكُمْ إلا في كِتَابٍ مِنْ قَبْل أنْ نَبْرَأَهَا ؟ قال موسى : بلى . فخصمه آدم صلى الله عليهما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهبا يقول في قوله : وكَتَبْنا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ قال : كتب له لا تشرك بي شيئا من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإن كلّ ذلك خلقي ، ولا تحلف باسمي كاذبا ، فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ، ووقّر والديك .
القول في تأويل قوله تعالى : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ .
يقول تعالى ذكره : وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كلّ شيء موعظة وتفصيلاً لكلّ شيء : خذ الألواح بقوّة . وأخرج الخبر عن الألواح والمراد ما فيها .
واختلف أهل التأويل في معنى القوّة في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناها بجدّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا ابن عيينة ، قال : قال أبو سعد ، عن عكرمة عن ابن عباس : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بجدّ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بجدّ واجتهاد .
وقال آخرون : معنى ذلك : فخذها بالطاعة لله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : فَخُذْهَا بِقُوّةٍ قال : بالطاعة .
وقد بيّنا معنى ذلك بشواهده واختلاف أهل التأويل فيه في سورة البقرة عند قوله : خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها .
يقول تعالى ذكره : قلنا لموسى : وأمر قومك بني إسرائيل يأخذوا بأحسنها . يقول : يعملوا بأحسن ما يجدون فيها كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها بأحسن ما يجدون فيها .
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها قال : أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه .
فإن قال قائل : وما معنى قوله : وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحْسَنِها أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن ؟ قيل : لا ولكن كان فيها أمر ونهي ، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله ويتركوا ما نهاهم عنه ، فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمَنْهيّ عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ .
يقول تعالى ذكره لموسى إذ كتب في الألواح من كلّ شيء : خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد ، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها ، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي ، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم ، فإني سأريه في الاَخرة عند مصيره إليّ دار الفاسقين ، وهي نار الله التي أعدّها لأعدائه . وإنما قال : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ قال : مصيرهم في الاَخرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن ، في قوله : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ قال : جهنم .
وقال آخرون : معنى ذلك : سأدخلكم أرض الشأم ، فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ : منازلهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : دَارَ الفاسِقِينَ قال : منازلهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : سأريكم دار قوم فرعون ، وهي مصر . ذكر من قال ذلك : . . . . . . . . . . . .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك ، لأن الذي قبل قوله جلّ ثناؤه : سأُرِيكُمْ دَارَ الفاسِقِينَ أمر من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة ، فأولى الأمور بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيعه وفرّط في العمل لله وحاد عن سبيله ، دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه أو عما لم يجر له ذكر .