الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (145)

قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } : " أل " في الألواح يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّة وأن تكونَ للعهد ، لأنه يُروى في القصة أنه هو الذي قطعها وشقَّقها . وقال ابن عطية : " أل " عوض من الضمير ، تقديره : " في ألواحه " وهذا كقوله : { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } ، أي : مَأْواه " . أمَّا كون " أل " عوضاً من الضمير فلا يَعْرفه البصريون . وأمَّا قولُه { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } فإنَّا نحتاج فيه إلى رابطٍ يَرْبِط بين الاسم والخبر ، فالكوفيون يجعلون أل عوضاً من الضمير ، والبصريون يُقَدِّرونه ، أي : هي المأوى له ، وأما في هذه الآية فلا ضرورةَ تدعو إلى ذلك .

وفي مفعول " كَتَبْنَا " ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه " موعظة " ، أي : كتبنا له موعظة/ وتفصيلاً . و " من كل شيء " على هذا فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلِّقٌ ب " كتبنا " ، والثاني : أنه متعلق بمحذوف لأنه في الأصلِ صفةٌ ل " موعظة " ، فلما قُدِّم عليها نُصب حالاً ، و " لكلِّ شيء " صفةٌ ل " تفصيلاً " . والثاني : أنه " من كل شيء " . قال الزمخشري : " من كل شيء " في محل النصب مفعول " كتبنا " ، و " موعظة وتفصيلاً " بدل منه ، والمعنى : كَتَبْنا له كلَّ شيء كان بنو إسرائيل يَحْتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيلِ الأحكام " . الثالث : أن المفعولَ محلُّ المجرور . قال الشيخ بعدما حكى الوجهَ الأول عن الحوفي والثاني عن الزمخشري : " ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ وهو أن يكونَ مفعولُ " كَتَبْنا " موضع المجرور كما تقول : " أكلت من الرغيف " و " مِنْ " للتبعيض ، أي : كتبنا له أشياء من كل شيء ، وانتصب " مَوْعِظة وتفصيلاً " على المفعول من أجله ، أي : كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظ وللتفصيل " قلت : والظاهر أن هذا الوجهَ هو الذي أراده الزمخشري فليس وجهاً ثالثاً .

قوله : " بقوة " حالٌ : إمَّا من الفاعل ، أي : ملتبساً بقوة ، وإمَّا من المفعول ، أي : ملتبسةً بقوة ، أي : بقوة دلائلها وبراهينها ، والأولُ أوضحُ . والجملةُ مِنْ قوله " فَخُذْها " يُحتمل أن تكونَ بدلاً من قوله " فخُذْ ما آتيتك " وعاد الضميرُ على معنى " ما " لا على لفظِها . ويحتمل أن تكونَ منصوبةً بقول مضمر ، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة " كتبنا " والتقدير : وكتبنا فقلنا : خُذْ ما . والضميرُ على هذا عائدٌ على الألواح ، أو على التوراة ، أو على الرسالات ، أو على كل شيء لأنه في معنى الأشياء .

قوله : { يَأْخُذُواْ } الظاهرُ أنه مجزومٌ جواباً للأمر في قوله " وَأْمُرْ " . ولا بدَّ مِنْ تأويله لأنه لا يلزمُ مِنْ أمره إياهم بذلك أن يأخذوا ، بدليلِ عصيانِ بعضِهم له في ذلك ، فإنَّ شَرْط ذلك انحلال الجملتين إلى شَرْطٍ وجزاء . وقيل : انجزم على إضمار اللام تقديره : ليأخذوا ، كقوله :

محمدٌ تَفْدِ نفسَك كلُّ نفسٍ *** إذا ما خِفْتَ مِنْ أمرٍ تَبالا

وهو مذهبُ الكسائي ، وابنُ مالك يرى جَوازه إذا كان في جواب " قل " ، وهنا لم يُذكر " قل " ولكن ذُكِر شيءٌ بمعناه ؛ لأن معنى " وَأْمُرْ " و " قل " واحد .

قوله : { بِأَحْسَنِهَا } يجوز أن يكونَ حالاً كما تقدم في " بقوة " وعلى هذا فمفعولُ " يأخذوا " محذوفٌ تقديرُه : يأخذوا أنفسهم . ويجوز أن تكونَ الباءُ زائدةً ، و " أحسنُها " مفعولٌ به والتقدير : يأخذوا أحسنَها كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** سودُ المحاجر لا يَقْرأن بالسُّوَرِ

وقد تقدَّم ذلك محقَّقاً في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }

[ البقرة : 195 ] . و " أحسن " يجوز أن تكونَ للتفضيل على بابها ، وأن لا تكونَ بل بمعنى حَسَنة كقوله :

إنَّ الذي سَمَك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائِمُهُ أعزُّ وأطولُ

أي : عزيزةٌ طويلة .

قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } جَوَّزوا في الرؤية هنا أن تكون بصَريةً وهو الظاهر فتتعدَّى لاثنين ، أحدهما : ضمير المخاطبين ، والثاني " دار " . والثاني : أنها قلبيةٌ وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره ، والمعنى : سأُعْلِمُكُمْ سيرَ الأولين وما حلَّ بهم من النَّكال . وقيل : دار الفاسقين : ما دارَ إليه أمرُهم ، وذلك لا يُعْلم إلا بالإِخبار والإِعلام . قال ابن عطية : معترضاً على هذا الوجه " ولو كان من رؤية القلب لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفعولين . ولو قال قائل : المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى فهو مُقَدَّر ، أي : مَذْمومة أو خربة أو مُسَعَّرة على قول من قال إنها جهنم قيل له : لا يجوزُ حَذْفُ هذا المفعولِ ولا الاقتصارُ دونَه لأنها داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ ، ولو جُوِّز لكان على قبحٍ في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى " .

قال الشيخ : " وحَذْفُ المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائزٌ فيجوز في جواب : هل أعلمتَ زيداً عمراً منطلقاً ؟ أعلمتُ زيداً عمراً ، وتحذف " منطلقاً " لدلالة الكلام السابق عليه " . قلت : هذا مُسَلَّم لكن أين الدليل عليه في الكلام كما في المثال الذي أبرزه الشيخ ؟ ثم قال : " وأمَّا تعليلُه بأنَّها داخلةٌ على المبتدأ والخبر لا يدل على المنع ، لأن خبرَ المبتدأ يجوزُ حَذْفُه اختصاراً ، والثاني والثالث/ في باب " أَعْلَمَ " يجوز حَذْفُ كلٍ منهما اختصاراً " . قلت : حَذْفُ الاختصار لدليل ، ولا دليلَ هنا . ثم قال : " وفي قوله لأنها أي " سأريكم " داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوُّزٌ " ويعني أنها قبل النقل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر .

وقرأ الحسن البصري : " سأُوْريكم " بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان ، أحدهما قاله الزمخشري : " وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقال : أَوْرَني كذا وأَوْرَيْتُه ، فوجهه أن يكون مِنْ أَوْرَيْتُ الزندَ فإن المعنى : بَيِّنْه لي وأَنِرْه لأستبينَه . والثاني : ذكره ابن جني وهو أنه على الإِشباع فيتولَّد منها الواو قال : " وناسب هذا كونَه موضعَ تهديدٍ ووعيد فاحتمل الإِتيان بالواو " قلت : وهذا كقول الآخر :

اللهُ يعلمُ أنَّا في تَلَفُّتِنا *** يومَ اللقاء إلى أحبابنا صورُ

وأنني حيثما يثني الهوى بَصَري *** من حيث ما سلكوا أَدْنُو فانظورُ

لكن الإِشباعَ بابُه الضرورة عند بعضِهم . وقرأ ابن عباس وقسامة ابن زيد : " سأُوْرِثكم " . قال الزمخشري : " وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ } [ الأعراف : 137 ] .