التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (145)

138

تعليق على الألواح التي ذكرت

في الآية [ 145 ] من السلسلة

إن الآية ذكرت الألواح بصيغة الجمع ، وذكرت أن الله تعالى كتب لموسى فيها من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء . ولقد ذكرنا قبل : أن سفر الخروج ذكر الألواح بأنها لوحان من حجر كتب عليهما عهد الرب الكلمات العشر ، وأن الكتابة بإصبع الله وعلى وجهي اللوحين . وليس في الأسفار تحديد لعهد الرب الكلمات العشر المكتوبة على الألواح وإنما فيها حكاية أوامر ونواه ربانية اشتهرت بأنها الوصايا العشر أو الكلمات العشر . جاءت مقتضبة نوعا في سفري الخروج وتثنية الاشتراع ومسهبة في سفر الأحبار . وهي بالإيجاز :

1-عدم اتخاذ آلهة غير الله .

2-عدم صنع تمثال للرب والسجود له .

3-عدم الحلف بالله كذبا .

4- حفظ يوم السبت .

5- إكرام الوالدين .

6-لا تقتل .

7- لا تزن .

8-لا تسرق .

9- لا تشهد الزور على قريبك .

10- لا تشته شيئا مما لقريبك .

وقد يكون هذا أضيق مما احتوته الآية { من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء } فضلا عن ما هناك من فرق بين [ الألواح ] في الآية و[ اللوحين ] في الأسفار .

وفضلا عن تنزه الله تعالى عن حصره النهي عن شهادة الزور واشتهاء ما للغير بالقريب . ومهما يكن من أمر فإن الآيات التي فيها إشارة إلى التوراة والكتاب الذي آتاه الله موسى والتي فيها ما يفيد أن التوراة كانت قراطيس عديدة والتي أوردناها قبل يمكن أن تلهم بقوة أن الألواح هي غير التوراة والله تعالى أعلم .

وفي كتب التفسير روايات وأقوال متنوعة في صدد الألواح . فبالنسبة للعدد تراوحت الأقوال والروايات بين اثنين إلى عشرة . ومما روي أنها كانت ستة فلما ألقاها موسى حين غضبه على قومه رفع منها اثنان وبقي أربعة . وبالنسبة للنوع روي أنها خشب من سدر الجنة كما روي أنها من زبرجدة خضراء أو من ياقوتة حمراء أو من زمرد أو من حجر . وبالنسبة لحجمها روي أن طولها عشرة أذرع أو اثني عشر ذراعا ، وبعضهم قال : إنها التوراة نفسها ثم قال : إنها كانت وقر سبعين بعيرا ، وأن الجزء منها كان يقرأ في سنة . وإنه لم يقرأها جميعا إلا أربعة نفر وهم موسى ويوشع والعزير وعيسى عليهم السلام وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة . والتوقف إزاءه أولى .

وفي كتابي تفسير ابن كثير والبغوي حديث يرويه ابن كثير عن قتادة ويرويه البغوي عن كعب الأحبار ، فيه حكاية عن مناجاة بين موسى وربه يقول الأول : رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة ، أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلال حتى يقاتلوا الأعور الدجال . رب اجعلهم أمتي . قال : هي أمة محمد يا موسى . فقال : رب إني أجد أمة هم الحمادون لله على كل حال رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمرا قالوا : نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال : هي أمة محمد . فقال : رب إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم ، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار هم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي . ويستمر الحوار في بضع صفات محببة أخرى حتى يقول : يا ليتني من أصحاب محمد ، وفي صيغة ابن كثير حتى ينبذ الألواح ويقول : اللهم اجعلني من أمة محمد . والتوقف إزاء هذا الحديث هو الأولى كذلك .

وبالنسبة للإنجيل نقول :

1-إن الكلمة يونانية معربة ومعناها البشارة{[986]} والمتبادر أن التعريب والاستعمال للدلالة على كتاب النصارى المقدس كانا سابقين لنزول القرآن .

2-إن الإنجيل ذكر في القرآن عشر مرات جميعها في سورة مدنية . وقد جاء ذكره مقرونا بعيسى عليه السلام في بعضها . وفي الآيات التي ذكر فيها مقرونا باسمه صراحة بأن الله تعالى آتاه إياه وعلمه إياه كما ترى في الآيات التالية :

ا-{ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل48 ورسولا إلى بني إسرائيل } [ آل عمران : 48-49 ] .

ب-{ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين } [ المائدة : 46 ] .

ت-{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } [ المائدة : 110 ]

وفي سورة آل عمران آيات ذكر فيها أن الإنجيل أنزل ولم يذكر اسم عيسى معه وهي :

أ-{ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل3 من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } [ 3-4 ] .

ب-{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون } [ 65 ] .

وفي سورة المائدة نسب الإنجيل إلى أهله كما ترى في الآيات التالية :

أ-{ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } [ 47 ] .

ب- { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم65 ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } [ 65-66 ] .

ج- { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } [ 68 ] .

وفي سورة مريم ذكر { الكتاب } [ 30 ] الذي آتاه الله عيسى كما ترى في ما يلي : { قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } [ 30 ] .

ومقتضى هذه النصوص أن الإنجيل كتاب واحد أو قراطيس لكتاب واحد أنزله الله أو أوحى به أو علمه وآتاه لنبيه عيسى عليه السلام فيه تبليغات وأحكام ووصايا ربانية . هذا في حين أن النصارى اليوم يعترفون ويتداولون أربعة أناجيل هي أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا . ويسمون المجلد الذي يضمها أربع عشرة رسالة من القديس بولس ورسائل من القديسين يعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا ، مع اختلاف في عددها عند الكاثوليك والبروتستانت ورسالة فيها رؤيا القديس يوحنا باسم العهد الجديد . مع اعترافهم بأسفار العهد القديم على اختلاف في بعضها عند الكاثوليك والبروتستانت وضمهم إياها مع العهد الجديد باسم جامع هو [ الكتاب المقدس ] .

والأناجيل الأربعة صريحة بأنها كتبت بعد عيسى ، واحتوت قصة حياته ورسالته وتعاليمه ومعجزاته ونهايته في الدنيا ، وقد كتبت بعد وفاة عيسى ورفعه بمدة ما وفي خلال القرن الأول بعد ميلاده . وهناك من يؤرخ عام 37 بعد الميلاد لكتابة أولها وعام 98 لكتابة رابعها .

ويلمح فرق بينها وبين ما يسمى [ التوراة ] ، فليس هناك سفر بين أسفار العهد القديم المتداولة اسمه التوراة ، في حين أن اسم الإنجيل هو المطلق المتداول . وفي بعض الأناجيل ذكر نصا . وبحثنا يتناول هذا الاسم مباشرة دون سائر أسفار العهد الجديد الأخرى ؛ لأنه هو المذكور في القرآن والموجود في الواقع ؛ ولذلك سوف نقتصر عليه .

وبين الأناجيل الأربعة تطابق في كثير من أقوال عيسى وتعاليمه وسيرة حياته ومعجزاته مع اختلاف في الصيغة والأساليب والعبارات . وفي بعضها من هذه الأقوال والتعاليم والسيرة والمعجزات ما ليس في البعض الآخر . وفي بعضها مباينات وتناقضات أيضا مع ما في بعضها الآخر . حيث يبدو من هذا أن كتابها سجلوا ما كتبوه عن مصادر مختلفة ومن الروايات والمسموعات والمحفوظات التي يقع عادة فيها مباينات ومناقضات وزيادة ونقص . وليس فيها آية دلالة على أن شيئا مما فيها من إملاء عيسى عليه السلام أو أنه كتب في حياته وعلمه .

وهناك روايات تذكر أن عدد الأناجيل كثير ويتراوح بين العشرين والسبعين ، ويؤيد هذه الكثرة جملة وردت في بدء إنجيل لوقا تفيد أن كثيرين كتبوا قصة عيسى . ومن الأناجيل التي رأيناها غير الأربعة إنجيل برنابا . ومن الأناجيل التي قرأنا خبرها أناجيل الطفولة والولادة والأم .

والنصارى يقولون عن غير الأناجيل الأربعة متحولة ودخيلة ومزورة . والذي قرأناه من أقوالهم عن إنجيل برنابا أنه مزور في زمن الإسلام . ولم نطلع على أقوالهم عن زمن الأناجيل الأخرى التي يصفونها بتلك الأوصاف . وفي القرآن عن عيسى أمور ليست واردة في الأناجيل الأربعة على ما سوف نشرحه بعد نعتقد أنها كانت واردة في أناجيل أخرى ، حيث يمكن القول : إن من تلك الأناجيل ما كتب قبل الإسلام . ولقد قرأنا في بعض كتب الأستاذ الحداد أن من جملة الأناجيل المنحولة إنجيل آخر لمتى فيه مباينات كثيرة لإنجيله المعترف به ، حيث يبدو أنه كان للأناجيل المعترف بها أيضا نسخ عديدة فيها مباينات لنسخ أخرى منها وبخاصة للمعترف بها التي استقرت العقائد والمسلمات النصرانية العامة عليها . ومن المحتمل أن يكون للأناجيل الأخرى مثل ذلك .

وواضح من كل ما تقدم أن الأناجيل الأربعة المعترف بها لا يمكن أن يصدق عليها تسمية الإنجيل القرآنية والوصف الذي وصف القرآن الإنجيل به .

على أن آيات سورة المائدة [ 46 و 47 و 65 و 67 ] قد تفيد أن الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى وآتاه وعلمه إياه وفيه أحكامه وتعاليمه ووصاياه كان موجودا في أيدي النصارى حين نزول القرآن . ومادام أنه لا يوجد الآن إنجيل يصدق عليه وصف القرآن فلا مناص من الاعتقاد بأنه فقد في ظرف ما .

ولقد يكون في الأناجيل المتداولة المعترف بها أشياء مما تلقاه عيسى من ربه أو احتواه الإنجيل الذي أنزل عليه وآتاه إياه وعلمه إياه . غير أنها لا يمكن أن تكون من جهة نظر القرآن والمنطق والواقع بديلة عنه ؛ لأن فيها ما لا يمكن أن يكون من ذلك الإنجيل المنزل . ومن ذلك على سبيل المثال سيرة عيسى عليه السلام منذ ولادته إلى نهايته . وليس فيها إلى ذلك أشياء كثيرة وردت في القرآن ويقتضي أن تكون في ذلك الإنجيل . ومن ذلك على سبيل المثال عدم ورود أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم بصراحة قاطعة في أي منها وهو ما ذكره القرآن في آية سورة الأعراف هذه : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } [ 157 ] . ومن ذلك ما ذكر في القرآن بصراحة قاطعة من أن عيسى عبد الله ونبي من أنبيائه ، وأنه جاء مبشرا برسول من بعده اسمه أحمد كما جاء في هذه الآيات :

1- { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } [ المائدة : 72 ] .

2-{ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا30 وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا31 وبرا بوالداتي ولم يجعلني جبارا شقيا32 والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياِ [ مريم : 30-33 ] .

3- { ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطعيون63 إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } [ الزخرف : 63-64 ] .

4-{ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } [ الصف : 6 ] .

وقد يكون في الأناجيل المتداولة عبارات يمكن تأويلها بما يتفق مع هذه التقريرات القرآنية . غير أنها ليست صريحة صراحة قاطعة . والنصارى يؤولونها تأويلا يجعلها لا تتفق مع هذه التقريرات .

وفي القرآن قرائن تدل على أن الأناجيل المتداولة اليوم والمعترف بها كانت موجودة في أيدي النصارى ، بالإضافة إلى الإنجيل المنزل من الله على عيسى والذي آتاه وعلمه إياه . ومن ذلك قصة بشارة زكريا ومريم بيحيى وعيسى التي وردت في إنجيل لوقا دون غيره والمطابقة لما ورد من ذلك في سورتي آل عمران ومريم مطابقة تكاد تكون تامة . ومن ذلك معجزات إحياء الموتى وشفاء العمي والبرص الواردة في الأناجيل جميعها والمذكورة في سورتي آل عمران والمائدة واستجابة الحواريين لدعوته المذكورة في سورة آل عمران والمائدة والصف . ومن ذلك عشرات الآيات الواردة في أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا التي تحكي أقوالا عن لسان عيسى متطابقة إجمالا وصراحة حينا وضمنا حينا ، مع ما حكته عن لسان آيات عديدة مكية ومدنية برغم ما يحاول النصارى صرفها عن معانيها المتطابقة مع روح الآيات القرآنية وتأويلها ، بما يتطابق مع عقائدهم ومسلماتهم المستقرة نتيجة لقرارات المجامع المقدسة التي أخذت تنعقد من حين لآخر منذ أواسط القرن الرابع بعد الميلاد والتي كانت تنعقد بالدرجة الأولى لبحث الاختلاف في تأويل الأناجيل في شخصية عيسى الذي كان ينجح بين علمائهم .

وفي القرآن تقريرات وأقوال عديدة عن عيسى وحياته ومعجزاته ليست واردة في الأناجيل المتداولة المعترف بها كما قلنا قبل . وبعضها وارد في إنجيل برنابا الذي يقول النصارى إنه مزور . فإذا سلمنا جدلا بزعمهم هذا تبقى تلك التقريرات والأقوال واردة لأنها وردت في القرآن الذي لا يمكن لأحد أن يزعم أنه لم يبلغ من النبي ولم يكن معروفا في عهده .

ومن ذلك طلب الحواريين من عيسى أن يلتمس من الله إنزال مائدة من السماء والمحاورة التي جرت بينه وبينهم وحكتها آيات سورة المائدة [ 114 و 115 ] .

ومن ذلك كيفية إلجاء المخاض مريم إلى جذع النخلة وما كان من شكواها ومخاطبة وليدها من تحتها لها وتطمينه وقوله : إذا رأت أحدا أن تقول لهم : إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا . ومخاطبة قومها لها متعجبين من ولادتها بدون زوج ومخاطبة عيسى لهم بأنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيا في آيات سورة مريم [ 23-33 ] .

ومن ذلك ما حكي عن لسانه بأنه مبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد في آية سورة الصف [ 6 ] وما حكي عن لسانه من التنديد بكل من يشرك مع الله غيره في عبادة ، ودعوته لبني إسرائيل إلى عبادة الله وحده ربه وربهم في سياق إعلان كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم في آية سورة المائدة [ 71 ] ثم في آية سورة الزخرف [ 64 ] ومن ذلك نفي القرآن لقتل اليهود لعيسى وصلبه وما قرره من شك واختلاف في الأمرين الناس والنصارى في آيات سورة النساء [ 156 و 157 ]{[987]} .

ومن ذلك ما ذكر في آية سورة الأعراف [ 157 ] من أن النصارى كانوا يجدون في الإنجيل صفات النبي محمد الرسول الأمي . وفي سورة آل عمران آيات تذكر نذر أم مريم لما في بطنها لله وتكفل زكريا لمريم بعد ولادتها نتيجة لعملية قرعة بين المختصمين عليها عبر عنها بإلقاء الأقلام وما كان زكريا يجده عندها من رزق وسؤاله وجوابها وهي الآيات [ 35-44 ] .

فهذه الآيات كانت تتلى جهرة على الناس ويسمعها النصارى ، وقد آمن فريق منهم بالنبي والقرآن وفرحوا به واعترفوا أنه الحق واتبعوه كما جاء في آيات عديدة من القرآن . منها ما ذكر فيه النصارى صراحة ومنها ما ذكر فيه أهل الكتاب والعلم الذين يدخل فيهم النصارى كما ترى في الآيات التالية :

1-{ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب } [ آل عمران : 199 ] .

2-{ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون82 وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين83 وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين84 فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين } [ المائدة : 82-85 ] .

3- { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } [ الأنعام : 20 ] .

4-{ أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } [ الأنعام : 114 ] .

5-{ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } [ الأعراف : 157 ] .

6- { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك } [ الرعد : 36 ] .

7-{ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا107 ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا108 ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } [ الإسراء : 107-109 ] .

ونعتقد أن تلك التقريرات التي احتوتها آيات المائدة [ 71 و 112 -115 ] والنساء [ 156 و 157 ] والأعراف [ 157 ] ومريم [ 23-33 ] والزخرف [ 64 ] والصف [ 6 ] قد وردت في أناجيل أخرى كانت متداولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأهملت وفقدت أو أبيدت لأن فيها ما هو متطابق مع التقريرات القرآنية بصراحة قطعية لا تتحمل التأويل فلم تصل إلينا برغم وصف النصارى لغير الأناجيل الأربعة التي يعترفون بها بأنها دخيلة أو متحولة أو مزورة . ولقد ورد في آخر إنجيل يوحنا رابع الأناجيل المعترف بها هذه العبارة : [ وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع لو أنها كتبت واحدة فواحدة لما ظننت أن العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة ] التي تفيد أنه فات كاتب هذا الإنجيل أشياء كثيرة جدا من أقوال وأحداث ومعجزات وتبليغات عيسى عليه السلام . وليس ما يمنع أن يكون من هذه الأشياء ما هو مدون في أناجيل وقراطيس أخرى فقدت أو أبيدت .

والمتبادر أن النصارى رأوا أن يستقروا على الأناجيل الأربعة لأنهم رأوها الأكثر انسجاما مع المسلمات والعقائد التي استقروا عليها نتيجة للمجامع المقدسة ويهملوا ويبيدوا ما استطاعوا مما يصفونه بالدخيل والمتحول والمزور ، وما كان فيه مطابقة لما جاء صراحة في القرآن عن عبودية عيسى لله وكونه نبيا من أنبيائه وكونه إنما دعا إلى الله ربه ورب الناس ، وعن تبشيره من بعده برسول اسمه أحمد وعن صفات هذا الرسول الصريحة .

ولقد طبق الأستاذ الحداد ما قاله وأوردناه في سياق بحث التوراة من كون التوراة كلام الله ويستحيل تبديلها بنص القرآن على الإنجيل المنزل على عيسى الذي كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . ولقد قلنا قبل : إن آيات المائدة [ 46 و 47 و 65 و 67 ] قد تفيد حقا إن هذا الإنجيل كان موجودا . ولقد علقنا على قوله تعليقا فيه الكفاية في سياق ذلك البحث فلا نرى ضرورة لإعادته وما قلناه هناك يرد هنا بتمامه .

ولقد طبق قوله الذي أوردناه في سياق البحث السابق ، وهو أن كتاب الأسفار هم كتاب وحي الله على كتاب الأناجيل الأربعة . كما طبق قوله إن الأسفار كانت مكتوبة على رقوق قديمة قبل النبي ، وأن المطبوع المتداول اليوم هو طبقا لهذه الرقوق بدون تغيير وتبديل وعدم احتمال ذلك على الأناجيل الأربعة أيضا . وما علقنا به على هذه الأقوال في البحث السابق يرد هنا بتمامه كذلك فلا حاجة للإعادة .

وفي سورة المائدة بالنسبة للنصارى بالإضافة إلى ما بين الأناجيل المتداولة ونصوص القرآن من مباينات متنوعة آية تفيد أنهم لم يحافظوا على كل ما ذكرهم الله به أو نزل إليهم وهي هذه { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } [ 14 ] .

وفي سورتي مريم والزخرف هذه الآيات التي جاءت في سياق الكلام عن رسالة عيسى عليه السلام والتي تذكر ما كان من اختلاف الناس وأحزابهم فيها مما يمكن أن يكون مرجعه اختلاف المصادر والنصوص التي سجلها الكتاب عن سيرة عيسى ورسالته من بعده :

1-{ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا30 وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا31 وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا32 والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا33 ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون34 ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون35 وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم36 فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم37 }{[988]} [ 30-37 ] .

2-{ ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون57 وقالوا أألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خاصمون58 إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل59 ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون60 وإنه لعلم للساعة فلا تمترون بها واتبعون هذا صراط مستقيم61 ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين62 ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون63 إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم64 فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } [ الزخرف : 57- 65 ] .

وفي سورة البقرة والمائدة والمؤمنون والشورى آيات تشير إلى اختلاف أهل الكتاب ومنازعاتهم إلى حد القتال وتفرقهم وتعدد مذاهبهم وإخفائهم كثيرا مما في أيديهم من الكتاب . وتشمل النصارى بطبيعة الحال ، وهي هذه :

1-{ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم213 } [ البقرة : 213 ] .

2-{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد253 } [ البقرة : 253 ] .

3-{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين15 يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } [ المائدة : 15-16 ] .

4-{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم51 وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون52 فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } [ المؤمنون : 51-53 ]{[989]} .

5-{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب13 وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } [ الشورى : 13-14 ] .

فهذه الآيات تعكس من دون شك كما هو المتبادر ما كان في نصوص الأناجيل التي كتبها البشر سواء منها التي يعترف به النصارى وحدها اليوم أم جميعها ، مما كان موجودا في زمن النبي وضاع أو أبيد من تباين وتناقض واختلاف ، وما كان بينهم من اختلاف وتشاد وشكوك وتعدد مذاهب وعقائد وأحزاب وقتال نتيجة لذلك ، وما كان من إخفائهم كثيرا من قراطيس الكتاب المنزل من الله . ولا يمكن أن تكون هذه الآيات إلا صورة صادقة لما كان عليه أمر النصارى والأناجيل التي كانوا يتداولونها سواء منها التي وصلت إليها أم التي فقدت أو أبيدت . واختلاف النصارى منذ القرون الأولى للنصرانية واستمرار ذلك وتعدد مذاهبهم وتنوع عقائدهم وما كان من تناحر وقتال بينهم نتيجة لذلك من الحقائق التاريخية التي لا تزال مستمرة والتي لا يمكن لأحد أن يكابر فيها .

ولقد قرأنا في ملحق جريدة " النهار " البيروتية المؤرخ في 1/1/ 1965 ، بحثا بتوقيع الأب يوسف دره ينطوي على زعم طريف . وقرأنا تفصيلا أوسع لهذا الزعم في الكتاب رقم [ 2 ] [ الكتاب والقرآن ] من كتب الحداد{[990]} وهو خاص بالأناجيل ، وفاقع الطرافة جدا . وفيه من المفارقة أشد مما في اقتباس اصطلاح [ كتاب الوحي ] وإطلاقه على كتاب الأسفار والأناجيل . فقد أورد الحداد بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم التي فيها أن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، وأورد أقوال المفسرين وعلماء القرآن الكثيرة التي لا يستند كثير منها بل أكثرها إلى أسناد وثيقة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم أو علماء أصحابه وتابعيهم ، ولا تعدو أن تكون من باب الاجتهاد والتي من جملتها أن المسلمين اختلفوا في كتابة المصحف في زمن عثمان ، ثم اتفقوا على كتابته على حرف واحد وإهمال ما عداه فيمسك بهذا القول على غموضه وترك الأقوال الموضحة له ثم حمله ما لم يحمله وقال لا فض فوه : إنهم بذلك أضاعوا علينا معرفة ما كان في الحروف الأخرى من مباينات وتناقضات واختلافات بالنسبة للحرف الذي أثبتوه واقتصروا عليه في حين أن الإنجيل نزل على أربعة أحرف تمثلت في أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، ولم يكن فيها ما يخشاه النصارى من تناقض وتباين فاحتفظوا بها كما نزلت كشهادات متعددة على صحة الإنجيل ووحدة جوهره واتفاق معانيه على اختلاف ألفاظه .

والشرع العالمي والديني والمدني لا يقوم على صحة شهادة واحدة . وهكذا تكون لصحة الإنجيل أربع شهادات بينما ليس للقرآن إلا شهادة واحدة{[991]} .

وهكذا تجري المفارقة في القياس إلى الزعم صراحة أو ضمنا أنه كان للقرآن سبع نسخ مختلفة في العبارات والترتيب والتبويب والسياق والسور والألفاظ مثل الأناجيل الأربعة . وينسيه الهوى أن هذه الأناجيل ليست إلا ترجمة لحياة عيسى كتبها أناس بعده سماعا ورواية ، وليس فيها ما يدل على أن فيها شيئا من إملائه مثل القرآن الذي هو من إملاء النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، وأنها ليست أربعة بل أضعاف أضعاف هذا العدد ، وأن هناك من الدلائل ما يدل على كونها أكثر من أربعة بصورة قاطعة ؛ لأن في القرآن أشياء كثيرة ذكرت عن لسان عيسى وحياته ليست في الأناجيل الأربعة فضلا عن ما في هذه الأناجيل من ثغرات عديدة على ما نبهنا عليه قبل بحيث يكون في ذلك الزعم سخرية بالعقل والحقيقة وجرأة على الحق والمنطق .

وهذا فضلا عن أنه لم يقل أحد من المسلمين أن معنى نزول القرآن على سبعة أحرف اختلاف وتعدد في النصوص ، والذي أجمع عليه أئمتهم أن ذلك كان لتيسير قراءته بأهمية متعددة وإملاء مختلف لسبب اختلاف اللهجات والأداء وأن كبار أصحاب رسول الله رأوا أن يكتبوه بهجاء ولهجة وإملاء لغة قريش لأنها لغة النبي الذي نزل القرآن عليه بتأييد آية سورة إبراهيم هذه { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ 4 ] .

ونص الأحاديث المروية يؤيد كون القصد من الأحرف السبعة هو تيسير قراءة القرآن حسب استطاعة القارئ ما دام لا يغير كلمة بضدها حيث جاء في أحدها الذي رواه مسلم وأبو داود عن أبي بن كعب قال : ( أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف ، فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم أتاه الثانية فقال له : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرفين فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته ، وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك . ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا ) . وفي رواية للترمذي ( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا جبريل بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط . قال : يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف . . ) وهناك أحاديث فيها أحداث تطبيقية تدعم ذلك المعنى . منها حديث رواه مسلم عن أبي بن كعب قال : ( كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها ، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه . فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعا على النبي فقلت : إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ، ودخل هذا فقرأ سوى قراءة صاحبه ، فأمرهما رسول الله فقرأ فحسّن النبي شأنهما ، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية . فلما رآه رسول الله قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا ، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا ، فقال لي : يا أبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية : اقرأه على حرفين ، فرددت إليه أن هون على أمتي ، فرد إلي الثالثة : اقرأه على سبعة أحرف ) . وهناك أحاديث أقل رتبة فيها بعض زيادات ، ولكن ليس فيها كذلك المعنى الذي تخيله الأب يوسف الحداد أو يوسف دره . منها حديث رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص أن رسول الله قال : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف على أي حرف قرأتم أصبتم ، فلا تماروا فإن المراء فيه كفر ) وحديث رواه الإمام نفسه عن أبي طلحة قال : ( قرأ رجل عند عمر فغير عليه فقال : قرأت على رسول الله فلم يغير علي . قال : فاجتمعا عند رسول الله ، فقرأ أحدهما على النبي فقال له : أحسنت ، قال : فكأن عمر قد وجد في نفسه من ذلك ، فقال له النبي : إن القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة ) وحديث رواه أبو يعلى عن المنهال قال : ( بلغنا أن عثمان قال يوما وهو على المنبر : أذكر الله رجلا سمع النبي قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف إلا قام ، فقاموا حتى لم يحصوا ، فشهدوا أن رسول الله قال ذلك ، فقال عثمان : وأنا أشهد معهم ) . وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : ( قال النبي : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، المراء في القرآن كفر . ثلاث مرات فما علمتم فادخلوا به ، وما جهلتم فردوه إلى عالمه ) وفي رواية : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما حليما ، غفورا رحيما ) وكل ما يرجعه الحديث الأخير أن يخطئ القارئ فيقول عليما بدل حليما وغفورا بدل رحيما . وهو مع ذلك حديث لا يمكن الاستيثاق منه فلم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ورواته ليسوا موثقين مثل رواة هذه الأحاديث .

ومن يقرأ كتاب الإتقان للسيوطي الذي جمع الأقوال في صدد ومدى هذه الأحاديث ونقلها عنه الحداد يجد أن في بعضها ما ينفي أن يرجح على بعض آخر ؛ لأنه المتسق مع روح الأحاديث . ومن ذلك ( إنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بل التيسير والتسهيل . ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق لفظ السبعين على إرادة الكثرة في العشرات والسبعمائة على إرادة الكثرة في المئات ) وهو ما قصده القرآن في هذه الألفاظ على ما يستلهم من روح الآيات التي وردت فيها{[992]} ومن ذلك : [ أن المراد وجوه قراءات الكلمة التي تتحمل كتابتها قراءات عديدة مثل كلمة [ عبد الطاغوت ] التي يمكن أن تقرأ [ عابد الطاغوت ] و[ عبدة الطاغوت ] و[ عبيد الطاغوت ] ، ومثل كلمة [ كتب ] التي يمكن أن تقرأ [ كتاب ] ، ومثل كلمة [ علم ] التي يمكن أن تقرأ [ عالم ] ، وكلمة [ بعد ] التي يمكن أن تقرأ [ باعد ] ، وكلمة [ يستيئس ] التي يمكن أن تقرأ [ يتبين ] وأمثالها ؛ لأن الحروف لم تكن تنقط حين ذاك ) .

ومن ذلك : ( إجازة تقديم وتأخير في الجملة مثل { وجاءت سكرة الموت بالحق } [ ق : 19 ] فيجوز قراءتها [ وجاءت سكرة الحق بالموت ] ومثل { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [ الزمر : 3 ] فيجوز قراءتها [ من هو كافر كذاب ] ومثل { يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } [ غافر : 35 ] . فيجوز قراءتها [ على قلب متكبر جبار ] .

ومن ذلك : [ إن الرخصة قد وقعت في ذلك الزمن ؛ لأن أكثر الناس لم يكونوا يكتبون ويقرأون ولم يكونوا يعرفون رسم الحروف ومخارجها ] . ومن ذلك : [ ما يقع من اختلاف في قراءة الإفراد والتثنية والتذكير والتأنيث وتصريف الأفعال من حاضر ومضارع ومخاطب وغائب واختلاف الإعراب باختلاف المواقع ] .

ومن ذلك : [ إن المقصود من الرخصة أداء الكلمة الصوتي من إمالة وترقيق وتفخيم وإدغام وإظهار وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخصيص وتليين دون تغيير في المعنى واللفظ والصورة ] . ومنها [ إن المقصود هو ترخيص قراءة الكلمة على وجهين أو ثلاثة أو سبعة تيسيرا وتهوينا ] . ومنها : [ إن المسلمين أجمعوا على تحريم إبدال آية بآية ] . ومنها [ أن جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين قالوا : إن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة ، وإنها جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل متضمنة لها لم تترك حرفا منها ] . ومنها [ أن أصحاب رسول الله لما رأوا أن الناس يختلفون في قراءة الكلمات أجمعوا على كتابتها على ما جاء في المصحف العثماني ، وعلى ما تحققوا أنه القرآن المستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك . وإن ما يقرأه المسلمون فيه هو الذي كان يقرأ في العام الذي قبض النبي فيه ، وإن زيد بن ثابت الذي كتب مصحف أبي بكر كان كاتب وحي رسول الله ، وإنه شهد العرضة الأخيرة وكتبها لرسول الله ، وقرأها عليه ، وكان يقرئ الناس بها حتى مات ؛ ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في تدوينه وجمعه وولاه عثمان كتابة المصاحف التي كانت طبقا لمصحف أبي بكر وترتيبه ] .

ومن الجدير بالتنبيه أن الأحاديث المروية وأقوال جمهرة علماء المسلمين هي في صدد تلاوة القرآن وليست في صدد كتابته من حيث الأصل والمدى بحيث يمكن القول : إنه لم يكن هناك مصاحف مكتوبة بكتابات مختلفة ، وهذا ما يؤيد كون القرآن لم يكن متعدد الصيغ والألفاظ كما يريد الحداد دره أن يوهمه وكل ما هنالك اختلاف في القراءة وبسبب احتمال كتابة الكلمات لهذا الاختلاف .

ونحن نعرف أن هناك روايات كثيرة تذكر أن آيات وسورا كانت تتلى ولم تكتب في مصحف عثمان وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف مغايرة في ترتيب سورها لترتيب هذا المصحف ، وأنه كان لبعض أصحاب رسول الله مصاحف خلت من المعوذتين والفاتحة أو فيها زيادة سورتين اسمهما الحفد والخلع أو فيهما كلمات مباينة في مبناها دون معناها لما في هذا المصحف ، وإن النبي توفي ولم تكن الآيات مرتبة في السورة ، والسور مرتبة في المصحف وإن كل هذا قد تم بعده في زمن أبي بكر ثم عثمان . وأن آيات لم تكن موجودة زيدت وآيات كانت موجودة رفعت لأغراض سياسية . ولقد اهتم الحداد لإبراز ذلك والاتكاء عليه وعلى الأقوال المرجوحة الأخرى ليدعم نظريته في حين أن كل تلك الروايات والأقوال لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة ، بل ولا الأقل رتبة من هذه الكتب . وهي روايات مرسلة لا يمكن التعويل عليها . وهناك روايات أوثق منها تنفيها وتثبت أن القرآن كان يكتب فور نزوله . وأن آياته رتبت في سورها وسورة رتبت في المصحف حسب المتداول بأمر النبي ووحي ربه . وإن أبا بكر وكبار أصحاب رسول الله إنما حرروا نسخة تامة بعد انقطاع الوحي القرآني بموت النبي لكل ما تركه النبي قرآنا مستقرا غير منسوخ لتكون مصحفا يرجع إليه . وإن مصحف عثمان قد كان مطابقا لهذا المصحف ونقل عنه وكل ما كان من أمر هو كتابة الكلمات التي يمكن الاختلاف في قراءتها برسم وإملاء وتهجئة لغة قريش فصار ذلك هو المصحف العثماني وأبيد ما سواه لئلا يظل المسلمون يختلفون في قراءة القرآن من المصاحف التي كانت مكتوبة برسم وإملاء وتهجئة مختلفة قليلا أو كثيرا عن رسم وإملاء وتهجئة لغة قريش . وهناك دلالات قرآنية وأحاديث معتبرة تؤيد كل ذلك تأييدا قويا . ولقد أوردنا كل ذلك وعلقنا عليه في كتابنا " القرآن المجيد " وانتهينا منه إلى حقيقة كون القرآن كان مكتوبا ومرتبا حسب ترتيبه المتداول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن العجيب أن الحداد ينقل عن كتابنا ما أوردناه من الروايات المرجوحة دون المرجحة والوثيقة ولا يورد تعليقاتنا التي فندنا بها الروايات المرجوحة وأثبتنا بها إلى تلك الحقيقة . لأن ذلك لا يوافق هواه الذي يحاول إبرازه والتركيز عليه .

ولم يكتف بما ورد في الروايات المرجوحة ، حيث سمح لهواه أن يملي عليه مزاعم أخرى في كون بعض آيات أقحمت أو دست أو زيدت على القرآن تحكما وتعسفا ودون أي سند وسبب معقول . وهو يفعل هذا كل ما رأي في مثل هذه الآيات ما يفحمه ويدحض مزاعمه التي يسوقها لتأييد هواه . وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق .


[986]:- بعض المفسرين ومنهم الطبري يحاول إرجاع الكلمة إلى جذر عربي هو: نجل بمعنى الابن أو الفرع بحجة أن الإنجيل فرع عن التوراة وأنه وسع على بني إسرائيل ما كان مضيقا عليهم. وقد قال الزمخشري: إن إرجاعها إلى جذر عربي تكلف وإنها كلمة أعجمية هو الصواب.
[987]:- رأينا الأستاذ الحداد يحاول تأويل الآيات بما يتفق مع العقائد النصرانية وما جاء في الأناجيل المتداولة من تثبيت الصلب حيث يقول ما خلاصته: إن الآيات إنما تنفي كون اليهود قتلوه بمعنى أعدموا وجوده بالمرة وإن هذا ما تخيلوه وشبه لهم في حين أنهم لم يقتلوه بذلك المعنى يقينا. ونحن نرى هذا غير سليم والآية في صدد توكيد نفي القتل والصلب الفعليين. ونرى أن الجملة {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} في الآية [النساء: 157] تفيد أن هذا الأمر كان مشكوكا فيه بين طوائف من الناس، وأن ما يقولون من قتله وصلبه هو من قبيل الظن. ونعتقد أن هذا الاختلاف كان واردا في بعض الأناجيل التي أبيدت لأنها لم تعد منسجمة مع المسلمات والعقائد النصرانية المستقرة نتيجة لاجتماعات وقرارات المجامع المقدسة.
[988]:- قال الحداد عن هذه الآيات: إنها مقحمة على السياق لأنها مخالفة للقافية. وهذا ليس سببا صحيحا؛ لأن مثل هذا وارد في سور أخرى. ومع ذلك فلو فرضنا أنها نزلت منفصلة ثم وضعت في مكانها للمناسبة فإنما يكون ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه تغيير وإخلال للموضوع والمقصد. وإذا كان قصده من كلمة مقحمة هو أنها مزيدة لأنه يزعم مثل هذا في شأن آيات أخرى، فإن نص آيات الزخرف التالية مطابقة لها وتقرر ما تقرره. وهذا فضلا عن أن هناك آيات عديدة تقرر ما تقرره مثل آيات سورة آل عمران هذه {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون59} ومثل آية المائدة هذه: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} [72] وبهذا تسقط الحجة والزعم الزائفان.
[989]:- يزعم الحداد أن الآيات في صدد أحزاب المشركين والكلام فيها عائد لما بعدها. ومطلعها ينقض هذا الزعم فضلا عن أنها جاءت بعد ذكر نوح وهود وموسى وابن مريم وأمه ورسل آخرين أرسلوا تترى إلى أقوامهم [اقرأ الآيات 23-50] حيث تفيد الآيات أن فيها إشارة إلى ما كان من تفرق الناس بعد أولئك الرسل إلى أحزاب، وهذا يصدق على أهل الكتاب كما يصدق على غيرهم بطبيعة الحال.
[990]:- اسم الأستاذ الحداد هو الأب يوسف. ولا ندري هل هو نفسه صاحب مقال ملحق النهار وإن كنا نرجح ذلك؛ لأن ما جاء في كتاب الحداد تفصيل لما جاء في الملحق.
[991]:- العبارة الأخيرة جاءت في ملحق النهار.
[992]:- مثلا {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} [البقرة: 261] و {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] فالمراد من هذا هو إرادة الكثرة والله أعلم.