المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (145)

وقوله تعالى : { وكتبنا له في الألواح } الآية ، الضمير في { له } عائد على موسى عليه السلام ، والألف واللام في { الألواح } عوض من الضمير الذي يقدر وصله بين الألواح وموسى عليه السلام ، تقديره في ألواحه ، وهذا كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } أي : مأواه وقيل : كانت الألواح اثنين ، وقيل أيضاً من برد ، وقال الحسن من خشب ، وقوله { من كل شيء } لفظه عموم والمراد به كل شيء ينفع في معنى الشرع ويحتاج إليه في المصلحة ، وقوله { لكل شيء } مثله ، قال ابن جبير : ما أمروا به ونهوا عنه ، وقاله مجاهد : وقال السدي : الحلال والحرام . وقوله { بقوة } معناه بجد وصبر عليها واحتمال لمؤنها قاله ابن عباس والسدي ، وقال الربيع بن أنس { بقوة } هنا بطاعة ، وقال ابن عباس أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه ، و «خذ » أصله أؤخذ حذفت الهمزة التي هي فاء الفعل على غير قياس فاستغني عن الأول ، وقوله { بأحسنها } يحتمل معنيين أحدهما التفضيل كأنه قال : إذا اعترض فيها مباحان فيأخذون الأحسن منهما كالعفو والقصاص ، والصبر والانتصار .

قال القاضي أبو محمد : هذا على القول إن أفعل في التفضيل لا يقال إلا لما لهما اشتراك في المفضل فيه وأما على القول الآخر فقد يراد بالأحسن المأمور به بالإضافة للمنهي عنه لأنه أحسن منه ، وكذلك الناسخ بالإضافة إلى المنسوخ ونحو هذا ، وذهب إلى هذا المعنى الطبري .

قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل أنه تدخل فيه الفرائض وهي لا تدخل في التأويل الأول ، وقد يمكن أن يتصور اشتراك في حسن من المأمور به والمنهي عنه ولو بحسب الملاذ وشهوات النفس الأمارة ، والمعنى الآخر الذي يحتمله قوله : { بأحسنها } أن يريد بأحسن وصف الشريعة بجملتها ، فكأنه قال : قد جعلنا لكم شريعة هي أحسن كما تقول : الله أكبر دون مقايسة ثم قال : فُمْرهم يأخذوا بأحسنها الذي شرعناه لهم ، وفي هذا التأويل اعتراضات ، وقرأ جمهور الناس { سأوريكم } ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «سأوريكم » قال أبو الفتح ظاهر هذه القراءة مردود وهو أبو سعيد المأثور فصاحته فوجهها أن المراد أريكم ثم أشبعت ضمة الهزة ومطلب حتى نشأت عنها واو ، ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه .

وقرأ قسامة بن زهير «سأورثكم » قاله أبو حاتم ، ونسبها المهدوي إلى ابن عباس ، وثبتت الواو في خط المصحف فلذلك أشكل هذا الاختلاف مع أنا لا نتأول إلا أنها مرويات فأما من قرأها «سأوريكم » فالمعنى عنده سأعرض عليكم وأجعلكم تخشون لتعتبروا حال دار الفاسقين ، والرؤية هنا رؤية العين إلا أن المعنى يتضمن الوعد للمؤمنين والوعيد للفاسقين ويدل على أنها رؤية العين تعدي فعلها ، وقد ُعِّدي بالهمزة إلى مفعولين ، ولو كان من رؤية القلب لتعدي بالهمزة ?لى ثلاثة مفاعيل ، ولو قال قائل : المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال : هي جهنم ، قيل له : ولا يجوز حذف هذا المفعول والاقتصار دونه أنها داخلة على الابتداء والخبر ، ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله عز وجل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومقاتل وقتادة في كتاب النقاش { دار الفاسقين } مصر والمراد آل فرعون ، وقال قتادة أيضاً : «دار الفاسقين » الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن : «دار الفاسقين » جهنم والمراد الكفرة بموسى عامة ، وقال النقاش عن الكلبي : { دار الفاسقين } دور ثمود وعاد والأمم الخالية : أي سنقصها عليكم فترونها .