البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (145)

اللوح معروف وهو يعد للكتابة وغيرها وأصله اللمع تلمع وتلوح فيه الأشياء المكتوبة .

{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء } قيل : إنّ موسى عليه السلام صعق يوم الجمعة يوم عرفة وأفاق فيه وأعطى التوراة يوم النحر وظاهر قوله { وكتبنا } نسبة الكتابة إليه .

فقيل كتب بيده وأهل السماء يسمعون صرير القلم في اللوح ، وقيل : أظهرها وخلقها في الألواح ، وقيل : أمر القلم أن يخطَّ لموسى في الألواح ، وقيل : كتبها جبريل عليه السلام بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النّور ففي هذين القولين أسند ذلك إلى نفسه تشريف إذ ذاك صادر عن أمره ، وقيل : معنى { كتبنا } فرضنا كقوله تعالى { كتب عليكم الصيام } والضمير في { له } عائد على موسى { والألواح } جمع قلة وأل فيها لتعريف الماهيّة فإن كان هو الذي قطعها وشققها فتكون أل فيها للعهد ، وقال ابن عطية : عوض من الضمير الذي يقدر وصلة بين الألواح وموسى عليه السلام تقديره في ألواحه وهذا كقوله تعالى { فإن الجنة هي المأوى } أي مأواه انتهى وكون أل عوضاً من الضمير ليس مذهب البصريين ولا يتعين أن يكون عوضاً من الضمير وليس ذلك كقوله { فإن الجنة هي المأوى } لأنّ الجملة خبر عن من فاحتاجت الجملة إلى رابط ، فقال الكوفيون : أل عوض من الضمير كأنه قيل مأواه ، وقال البصريون : الرابط محذوف أي هي المأوى له وظاهر الألواح الجمع ، فقيل كانت سبعة وروى ذلك عن ابن عباس ، وقيل ثمانية ذكره الكرماني ، وقيل : تسعة قاله مقاتل : وقيل : عشرة قاله وهب بن منبه ، وقيل اثنان وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الفرّاء ، وهذا ضعيف لأنّ الدلالة بالجمع على اثنين قياساً له شرط مذكور في النحو هو مفقود هنا ، وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيراً يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها سوى أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى ، وقد اختلفوا من أي شيء هي فعن ابن عباس وأبي العالية زبرجد ، وعن ابن جبير من ياقوت أحمر ، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد من زمرد أخضر ، وعن أبي العالية أيضاً من برد ، وعن مقاتل من زمرد وياقوت ، وعن الحسن من خشب طولها عشرة أذرع ، وعن وهب من صخرة صماء أمر بقطعها ولانت له فقطعها بيده وشققها بأصابعه ، وقيل : من نور حكاه الكرماني ، والمعنى من كل شيء محتاج إليه في شريعتهم .

{ موعظة } للازدجار والاعتبار { وتفصيلاً لكل شيء } من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والإخبار والمغيبات ، وقال ابن جبير ومجاهد : لكل شيء مما أمروا به ونهوا عنه ، وقال السدّي الحلال والحرام ، وقال مقاتل كان مكتوباً في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبل ولا تحلفوا باسمي كاذبين فإن من حلف باسمي كاذباً فلا أزكيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين والظاهر أن مفعول { كتبنا } أي كتبنا فيها { موعظة } { من كل شيء } { وتفصيلاً لكل شيء } قاله الحوفي قال نصب { موعظة } بكتبنا { وتفصيلاً } عطف على { موعظة } { لكل شيء } متعلق بتفصيلاً انتهى ، وقال الزمخشري : { من كل شيء } في محل النصب مفعول { وكتبنا } { وموعظة } ، { وتفصيلاً } بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام انتهى ، ويحتمل عندي وجه ثالث وهو أن يكون مفعول { كتبنا } موضع المجرور كما تقول أكلت من الرّغيف ، و { من } للتبعيض أي كتبنا له أشياء من كل شيء وانتصب { موعظة وتفصيلاً } على المفعول من أجله أي كتبنا له تلك الأشياء للاتعاظ والتفصيل لأحكامهم .

{ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين } أي فقلنا خذها عطفاً على { كتبنا } ويجوز أن يكون { فخذها } بدلاً من قوله { فخذ ما آتيتك } ، والضمير في { فخذها } عائد على ما على معنى ما لا على لفظها وأما إذا كان على إضمار فقلنا فيكون عائداً على { الألواح } أي الألواح أو على { كل شيء } لأنه في معنى الأشياء أو على التوراة أو على الرسالات وهذه احتمالات مقوّلة أظهرها الأول ، ومعنى { بقوة } قال ابن عباس بجدّ واجتهاد فعل أولي العزم ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس : بطاعة ، وقال جويبر : بشكر ، وقال ابن عيسى : بعزيمة وقوة قلب لأنه إذا أخذها بضعف النية أدّاه إلى الفتور ، وهذا القول راجع لقول ابن عباس : أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه وقوله { بِأحسنها } ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل وحسنها المباح ، وقيل : أحسنها الناسخ وحسنها المنسوخ ولا يتصور أن يكون المنسوخ حسناً إلا باعتبار ما كان عليه قبل النسخ أما بعد النسخ فلا يوصف بأنه حسن لأنه ليس مشروعاً ، وقيل الأحسن المأمور به دون المنهي عنه ، قال الزمخشري : على قوله الصيف أحرّ من الشتاء انتهى ، وذلك على تخيّل أن في الشتاء حرّاً ويمكن الاشتراك فيهما في الحسن بالنسبة إلى الملاذ وشهوات النفس فيكون المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه ويكون المنهي عنه حسناً باعتبار الملاذ والشهوة فيكون بينهما قدر مشترك في الحسن وإن اختلف متعلقه ، وقيل أحسنها هو أشبه ما تحتمله الكلمة من المعاني إذا كان لها احتمالات فتحمل على أولاها بالحق وأقربها إليه ، وقيل أحسن هنا ليست أفعل التفضيل بل المعنى بحسنها كما قال :

بيتاً دعائمه أعز وأطول *** أي عزيزة طويلة قاله قطرب وابن الأنباري فعلى هذا أمروا بأن يأخذوا بحسنها وهو ما يترتب عليه الثواب دون المناهي التي يترتب على فعلها العقاب ، وقيل أحسن هنا صلة والمعنى يأخذوا بها وهذا ضعيف لأنّ الأسماء لا تزاد وانجزم { يأخذوا } على جواب الأمر وينبغي تأويل { وأمر قومك } لأنه لا يلزم من أمر قومه بأخذ أحسنها أن { يأخذوا بِأحسنها } فلا ينتظم منه شرط وجزاء { وبأحسنها } متعلّق بيأخذوا وذلك على إعمال الثاني لأن { يأخذوا بِأحسنها } مقتضى لقوله { وأمر } ولقوله { يأخذوا } مجزوماً على إضمار لام الأمر أي ليأخذوا لأنّ معنى { وأمر قومك } قل لقومك وذلك على مذهب الكسائي ومفعول { يأخذوا } محذوف لفهم المعنى أي { يأخذوا } أنفسهم { بِأحسنها } ويحتمل أن تكون الباء زائدة أي يأخذوا أحسنها كقوله لا يقرأن بالسور ، والوجه الأوّل أحسن وانظر إلى اختلاف متعلق الأمرين أمر موسى بأخذ جميعها ، فقيل : { فخذها بقوة } وأكّد الأخذ بقوله { بقوة } وأمروا هم أن { يأخذوا بِأحسنها } ولم يؤكد ليعلم أن رتبة النبوة أشقّ في التكليف من رتبة التابع ولذلك فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل وغير ذلك من التكاليف المختصة به والإراءة هنا من رؤية العين ولذلك تعدَّت إلى اثنين و { دار الفاسقين } مصر قاله عليّ وقتادة ومقاتل وعطية العوفي والفاسقون فرعون وقومه .

قال الزمخشري كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم انتهى ، وقيل المعنى : سأريكم مصارع الكفار وذلك أنه لما أغرق فرعون وقومه أوحى إلى البحر أن اقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم مصارع الفاسقين ، وقال الكلبي : ما مرّوا عليه إذا سافروا من مصارع عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا ، وقال قتادة أيضاً الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن : { دار الفاسقين } جهنم والمراد الكفرة بموسى وغيره ، وقال ابن زيد : { سأريكم } من رؤية القلب أي سأعلمكم سير الأولين وما حلّ بهم من النكال ، وقيل { دار الفاسقين } أي ما دار إليه أمرهم وهذا لا يدرك إلا بالأخبار التي يحدّث عنها العلم وهذا قريب من قول ابن زيد ، وقال ابن عطية : ولو كان من رؤية القلب لتعدّى بالهمزة إلى ثلاثة ولو قال قائل المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدّر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال إنها جهنم قيل له : لا يجوز حذف هذا المفعول ولا الاقتصاد دونه لأنها داخلة على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى انتهى ، وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائز فيجوز في جواب هل أعلمت زيداً عمراً منطلقاً أعلمت زيداً عمراً ويحذف منطلقاً لدلالة الكلام السابق عليه وأما تعليله لأنها داخلة على الابتداء والخبر لا يدل على المنع لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصاراً والثاني والثالث في بام أعلم يجوز حذف كل واحد منهما اختصاراً وفي قوله لأنها أي { سأريكم } داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز ويعني أنها قبل النقل بالهمزة فكانت داخلة على المبتدأ والخبر ، وقرأ الحسن : { سأوريكم } بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجّهت هذه القراءة بوجهين ، أحدهما : ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطّلها فنشأ عنها الواو قال : ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه انتهى ، فيكون كقوله أدنو فانظر رأى فانظر ، وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر ، والثاني : ما ذكره الزمخشري قال وقرأ الحسن { سأوريكم } وهي لغة فاشية بالحجاز يقال : أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريت الزند كأن المعنى بينه لي وأثره لأستبينه انتهى ، وهي أيضاً في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا ، وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورثكم ، قال الزمخشري وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى

{ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون }