فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (145)

{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء } مما يحتاج إليه بنو إسرائيل في دينهم ودنياهم ، وقال السدي : من كل شيء أمروا به ونهوا عنه ، وعن مجاهد مثله .

وقد اختلف السلف في المكتوب في الألواح اختلافا كثيرا ، ولا مانع من حمل المكتوب على جميع ذلك لعدم التنافي ، وهذه الألواح هي التوراة قيل كانت من زمردة خضراء ، وقيل من ياقوتة حمراء ، وقيل من زبرجدة خضراء وقيل من صخرة صماء ، وقيل من خشب نزلت من السماء .

وقد اختلف في عدد الألواح وفي مقدار طولها وعرضها ، والألواح جمع لوح وسمي لوحا لكونه تلوح فيه المعاني ، وأسند الله سبحانه الكتابة إلى نفسه تشريفا للمكتوب في الألواح وهي مكتوبة بأمره سبحانه ، وقيل هي كتابة خلقها الله في الألواح .

وفي الحديث " خلق الله تعالى آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده وفي لفظ غرس الفردوس بيده " ، رواه الدارمي وابن النجار وغيرهما عن عبد الله بن الحرث والمحفوظ أنه موقوف وفيه أبو معشر متكلم فيه .

قال ابن عمر : خلق الله أربعة أشياء بيده العرش والقلم وعدن وآدم ، وعن ميسرة أن الله لم يمس شيئا من خلقه غيرثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ونحوه عن كعب ، رواهما الدرامي ، وعن علي بن أبي طالب قال : كتب الله الألواح لموسى وهو يسمع صريف الأقلام في اللوح ، وعن جعفر بن محمد عن جده عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ( الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللواح اثني عشر ذراعا ) أخرجه ابن حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه .

وعن سعيد بن جبير قال : كانوا يقولون كانت الألواح من ياقوتة حمراء ، وأنا أقول إنما كانت من زمرد وكتابتها الذهب كتبها الله بيده فسمع أهل السماوات صريف الأقلام .

أقول : رحم الله سعيدا ما كان أغناه عن هذا الذي قال من جهة نفسه فمثله لا يقال بالرأي ولا الحدس ، والذي يغلب به الظن : أن كثيرا من السلف رحمهم الله كانوا يسألون اليهود عن هذه الأمور فلهذا اختلفت واضطربت الأقوال فيها فهذا يقول من خشب ، وهذا يقول من ياقوت وهذا يقول من زمرد ، وهذا يقول من زبرجد ، وهذا يقول من برد وهذا يقول من حجر{[783]} .

{ موعظة } لمن يتعظ بها من بني إسرائيل وغيرهم ، وحقيقة الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته { وتفصيلا لكل شيء } أي للأحكام المحتاجة إلى التفصيل وتبيانا لكل شيء من الأمر والنهي والحلال والحرام ، قيل أنزل التوراة وهي سبعون وقر بعير لم يقرأها كلها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى .

{ فخذها } أي الألواح وقيل : الضمير عائد إلى الرسالات أو إلى كل شيء أو إلى التوراة قيل : وهذا الأمر على إضمار القول أي قلنا له خذها { بقوة } أي بجد ونشاط وقال ابن عباس : بحزم ، وقال الربيع بن أنس : بطاعة وقال السدي : باجتهاد وقيل : بقوة قلب وصحة عزيمة ونية صادقة .

{ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } أي بأحسن ما فيها مما أجره أكثر من غيره وهو مثل قوله تعالى { اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وقوله { فيتبعون أحسنه } ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه والعمل بالعزيمة دون الرخصة وبالفريضة دون النافلة وفعل المأمور وترك المنهى عنه وقال ابن عباس : يحلوا حلالها ويحرموا حرامها يتدبروا أمثالها ويقفوا عند متشابهها وكان موسى أشدّ عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به .

وقيل : الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح والأحسن الأخذ بالأشد والأشق على النفس ، وقيل : أحسن بمعنى حسن وكلها حسن .

{ سأريكم دار الفاسقين } أي الكفار قاله ابن عباس وهي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه قاله عطية العوفي وقيل منازل عاد وثمود قال الكلبي : قيل هي جهنم قاله الحسن ، وعطاء وقيل منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها قاله السدي ، وقال قتادة : سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية ، وقيل الدار الهلاك والمعنى سأريكم هلاك الفاسقين ، وقد تقدم تحقيق معنى الفسق ، وقال مجاهد : سأريكم مصيرهم في الآخرة وقال قتادة : منازلهم في الدنيا .

ومعنى الإراءة : الإدخال بطريق الإرث ، ويؤيده قراءة من قرأ { سأورثكم } بالثاء المثلثة كما في قوله { وأورثنا } القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ، قاله أبو السعود ، وهذه القراءة ترد القول بأنها جهنم .

والعجب من السيوطي بعد هذا الخلاف المقرر كيف يرده بدعوى التصحيف والتحريف فإنه قد ذكر في حسن المحاضرة ما نصه :

اشتهر على ألسنة كثير من الناس أنها مصر ، وقد أخرج ابن الصلاح وغيره من الحفاظ أن ذلك خلط نشأ عن تصحيف ، وإنما الوارد عن مجاهد وغيره من مفسري السلف في قوله تعالى { سأريكم } الخ قال مصيرهم فصحفت انتهى . وجمهور المفسرين على أن بني إسرائيل بعد ذهابهم إلى الشام رجعوا إلى مصر وملكوا أرض القبط وأموالهم وبه قال القرطبي والكرخي وهو قول الحسن وقيل إنهم لم يعودوا إلى مصر ، وهو قول ضعيف جدا .


[783]:- وأسند أبو نعيم الحافظ عن عمرو بن دينار قال: بلغني أن موسى بن عمران نبي الله صلى الله عليه وسلم صام أربعين ليلة فلما ألقى الألواح تكسرت، فصام مثلها فردت إليه.