معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم

مدنية وآياتها اثنتا عشرة

{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وسبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ويحب العسل ، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة ، فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة ، وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول : لا ، فقولي له : ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ، فإنه سيقول : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : يا رسول الله جرست نحله العرفط ، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل على سودة ، تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب ، فرقاً منك ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ قال : لا ، قلت : فما بال هذه الريح ! قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جرست نحلة العرفط ، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك ، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة قالت له : يا رسول الله ألا أسقيك منه قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله لقد حرمناه ، قالت : قلت لها اسكتي " .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول " سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها الرسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : لا بأس شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له ، فنزلت : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } إلى قوله :{ إن تتوبا إلى الله } لعائشة وحفصة ، { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } لقوله : بل شربت عسلاً " . وبهذا الإسناد قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريح ، عن عطاء بإسناده وقال : قال : لا ، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً ، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه . وقال المفسرون : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها ، فلما خرجت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة ، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت البابا مغلقاً ، فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً ، وحفصة تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : إنما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقاً ؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليست هي جاريتي أحلها الله لي ؟ اسكتي فهي حرام علي ألتمس بذاك رضاك ، فلا تخبري بهذا امرأة منهن . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار التي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية ، وقد أراحنا الله منها ، وأخبرت عائشة بما رأت ، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها ، فأنزل الله عز وجل :{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } يعني العسل ومارية { تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة التحريم

مقدمة وتمهيد

1- سورة " التحريم " من السور المدنية الخالصة ، وتسمى –أيضا- بسورة [ لم تحرم ] وبسورة " النبي " صلى الله عليه وسلم وعدد آياتها اثنتا عشرة آية .

2- وكان نزولها بعد سورة " الحجرات " وقبل سورة " الجمعة " فهي السورة الخامسة بعد المائة بالنسة لترتيب نزول السور القرآنية ، أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة السادسة والستون .

3- والسورة الكريمة في مطلعها تحكي جانبا مما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض زوجاته فتعرض صفحة من حياته صلى الله عليه وسلم في بيته ، ومن عتاب الله –تعالى- له ومن فضله عليه ، ودفاعه عنه .

4- ثم وجهت نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يداوموا على العمل الصالح الذي ينجيهم من عذاب الله –تعالى- وحرضتهم على التسلح بالتوبة النصوح لأنها على رأس الأسباب التي تؤدي إلى تكفير سيئاتهم .

5- ثم ختمت السورة الكريمة بضرب مثلين أحدهما للذين آمنوا ، ويتمثل في امرأة فرعون وفي مريم ابنة عمران ، والآخر للذين كفروا ويتمثل في امرأة نوح وامرأة لوط –عليهما السلام- والغرض من ذلك العظة والاعتبار .

قد افتتح سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ . . . . ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } .

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة ، منها ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير ؟ - والمغافير : صمغ حلو له رائحة كريهة - إنى أجد منك ريح مغافير .

فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه ، وقد حلفت ، فلا تخبرى بذلك أحدا ، فنزلت هذه الآيات " .

وفى رواية أن التى شرب عندها العسل : حفصة بنت عمر ، وأن القائلة له ذلك : سودة بنت زمعة ، وصفية بنت حيى .

قالوا : والاشتباه فى الاسم لا يضر ، بعد ثبوت أصل القصة .

وأخرج النسائى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما ، فأنزل الله - تعالى - { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ . . . الآيات . . . } .

وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصاب أم إبراهيم مارية ، فى بيت بعض نسائه - وفى رواية فى بيت حفصة فقالت : يا رسول الله فى بيتى وعلى فراشى ؟ فجعلها أى مارية - عليه حراما ، وحلف بهذا . . . فأنزل الله هذه الآيات .

قال القرطبى ما ملخصه : " وأصح هذه الأقوال أولها . . . والصحيح أن التحريم كان فى العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف أن لا يشربه وأسر ذلك ، ونزلت الآية فى الجميع " .

وقال الإمام ابن كثير - بعد أن ساق عددا من الروايات فى هذا الشأن : والصحيح أن ذلك كان فى تحريمه - صلى الله عليه وسلم - للعسل .

وقال الآلوسى : قال النووى فى شرح مسلم : الصحيح أن الآية فى قصة العسل ، لا فى قصة مارية المروية فى غير الصحيحين ، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح .

والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش .

وقد افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } .

وفى توجيه النداء إليه - صلى الله عليه وسلم - تنبيه إلى أن ما سيذكر بعد النداء ، شىء مهم ، بالنسبة له ولسائر المسلمين .

والاستفهام فى قوله - تعالى - { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ . . } للنفى المصحوب بالعتاب منه - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .

وجملة { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } حال من فاعل { تُحَرِّمُ } ، والعتاب واقع على مضمون هذه الجملة والتى قبلها ، وهى قوله { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } .

والمعنى : يا أيها الرسول الكريم ، لماذا حرمت على نفسك ما أحله الله - تعالى - لك من شراب أو غيره ؟ أفعلت ذلك من أجل إرضاء أزواجك ؟

إنه لا ينبغى لك أن تفعل ذلك ، لأن ما أباحه الله - تعالى - لك ، لا يصح أن تحرمه على نفسك أو أن تمتنع عن تعاطيه ، فتشق على نفسك من أجل إرضاء غيرك .

قال بعض العلماء : " ناداه بلفظ " النبى " إشعارا بأنه الذى نُبئَ بأسرار التحليل والتحريم الإلهى ، والمراد بتحريمه ما أُحِل له ، امتناعه منه ، وحظره إياه على نفسه .

وهذا المقدار مباح ، ليس فى ارتكابه جناح ، وإنما قيل له { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } رفقا به ، وشفقة عليه ، وتنويها لقدره ولمنصبه - صلى الله عليه وسلم - أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه ، جريا على ما ألف من لطف الله - تعالى - به ، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه . . . " .

وقوله - سبحانه - : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من وقع هذا اللوم ، ومن أثر هذا العتاب ، وإرشاد له - صلى الله عليه وسلم - بأن ما فعله داخل تحت مغفرة الله - تعالى - ورحمته .

أى : والله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة وقد غفر لك - بفضله وكرمه ما فعلته بسبب بعض أزواجك ، وجعلك على رأس من تظلهم رحمته .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة

عندما جرى قدر الله أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة ؛ وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة ؛ وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام ؛ وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان . .

عندما جرى قدر الله بهذا كله جعل الله هذا المنهج في هذه الصورة ، شاملا كاملا متكاملا ، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم ، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض ، وبالكائن الذي كرمه الله على كثير من عباده ، ونفخ فيه من روحه .

وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام : نموا وتكاثرا ، ورفعة وتطهرا ، في آن واحد . فلم يعطل طاقة بانية ، ولم يكبت استعدادا نافعا . بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الارتفاع إلى الأفق الكريم ، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة ، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود .

وعندما جرى قدر الله أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا جرى كذلك باختيار رسولها [ صلى الله عليه وسلم ] إنسانا تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها ، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها . إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها . ضليع التكوين الجسدي ، قوي البنية ، سليم البناء ؛ صحيح الحواس ، يقظ الحس ، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما . وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة ، حي الطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، متفتح للتلقي والاستجابة . وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قوي الإرادة ، يملك نفسه ولا تملكه . . ثم هو بعد ذلك كله . . النبي . . الذي تشرق روحه بالنور الكلي ، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادى من السماء ، والذي يرى نور ربه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحن له الجذع ، ويرتجف به أحد - الجبل . . ! . . ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها . فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها . .

ثم يجعل الله حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صور هذه العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية . ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا ، ولا سترا مطويا . بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي . حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر . بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] للناس !

إنه ليس له في نفسه شيء خاص . فهو لهذه الدعوة كله . فعلام يختبئ جانب من حياته [ صلى الله عليه وسلم ] أو يخبأ ? إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة ؛ وقد جاء [ صلى الله عليه وسلم ] ليعرضها للناس في شخصه ، وفي حياته ، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه . ولهذا خلق . ولهذا جاء .

ولقد حفظ عنه أصحابه [ صلى الله عليه وسلم ] ونقلوا للناس بعدهم - جزاهم الله خيرا - أدق تفصيلات هذه الحياة . فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية ، لم تسجل ولم تنقل . . وكان هذا طرفا من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول ، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول . فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة .

وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض ، وبينهن وبينه ! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك . . ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه .

والوقت الذي وقعت فيه الأحداث التي تشير إليها السورة ليس محددا . ولكن بالرجوع إلى الروايات التي جاءت عنه يتأكد أنه بعد زواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش قطعا .

ولعله يحسن أن نذكر هنا ملخصا عن قصة أزواج النبي ، وعن حياته البيتية يعين على تصور الحوادث والنصوص التي جاءت بصددها في هذه السورة . ونعتمد في هذا الملخص على ما أثبته الإمام ابن حزم في كتابه : " جوامع السيرة " . . وعلى السيرة لابن هشام مع بعض التعليقات السريعة :

أول أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] خديجة بنت خويلد . تزوجها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل ثلاث وعشرون ، وسنها - رضي الله عنها - أربعون أو فوق الأربعين ، وماتت - رضي الله عنها - قبل الهجرة بثلاث سنوات ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت . وقد تجاوزت سنه الخمسين .

فلما ماتت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - ولم يرو أنها ذات جمال ولا شباب . إنما كانت أرملة للسكران بن عمرو بن عبد شمس . كان زوجها من السابقين إلى الإسلام من مهاجري الحبشة . فلما توفي عنها ، تزوجها رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] .

ثم تزوج عائشة - رضي الله عنها - بنت الصديق أبي بكر - رضي الله عنه وأرضاه - وكانت صغيرة فلم يدخل بها إلا بعد الهجرة . ولم يتزوج بكرا غيرها . وكانت أحب نسائه إليه ، وقيل كانت سنها تسع سنوات وبقيت معه تسع سنوات وخمسة أشهر . وتوفي عنها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .

ثم تزوج حفصة بنت عمر - رضي الله عنه وعنها - بعد الهجرة بسنتين وأشهر . تزوجها ثيبا . بعدما عرضها أبوها على أبي بكر وعلى عثمان فلم يستجيبا . فوعده النبي خيرا منهما وتزوجها !

ثم تزوج زينب بنت خزيمة . وكان زوجها الأول عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قد قتل يوم بدر . وتوفيت زينب هذه في حياته [ صلى الله عليه وسلم ] . وقيل كان زوجها قبل النبي هو عبد الله بن جحش الأسدي المستشهد يوم أحد . ولعل هذا هو الأقرب .

وتزوج أم سلمة . وكانت قبله زوجا لأبي سلمة ، الذي جرح في أحد ، وظل جرحه يعاوده حتى مات به . فتزوج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أرملته . وضم إليه عيالها من أبي سلمة .

وتزوج زينب بنت جحش . بعد أن زوجها لمولاه ومتبناه زيد بن حارثة فلم تستقم حياتهما فطلقها . وقد عرضنا قصتها في سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين ، وكانت جميلة وضيئة . وهي التي كانت عائشة - رضي الله عنها - تحس أنها تساميها ، لنسبها من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهي بنت عمته ، ولوضاءتها !

ثم تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد غزوة بني المصطلق في أواسط السنة السادسة الهجرية . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها . قالت : " لما قسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في أسهم الثابت ابن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حلوة مليحة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول لله [ صلى الله عليه وسلم ] تستعينه في كتابتها . قالت عائشة : فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها ! وعرفت أنه سيرى منها [ صلى الله عليه وسلم ] ما رأيت ، فدخلت عليه فقالت : يا رسول الله . أنا جويرية بنت الحارث بن أبي صرار سيد قومه . وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي ، فجئت أستعينك على كتابتي . قال : " فهل لك في خير من ذلك ? " قالت : وما هو يا رسول الله ? قال : " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك ? " قالت : نعم يا رسول الله . قال : " قد فعلت " " . .

ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بعد الحديبية . وكانت مهاجرة مسلمة في بلاد الحبشة ، فارتد زوجها عبد الله بن جحش إلى النصرانية وتركها . فخطبها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأمهرها عنه نجاشي الحبشة . وجاءت من هناك إلى المدينة .

وتزوج إثر فتح خيبر بعد الحديبية صفية بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير . وكانت زوجة لكنانة ابن أبي الحقيق وهو من زعماء اليهود أيضا . ويذكر ابن إسحاق في قصة زواجه [ صلى الله عليه وسلم ] منها : أنه أتي بها وبأخرى معها من السبي ، فمر بهما بلال - رضي الله عنه - على قتلى من قتلى اليهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " اعزبوا عني هذه الشيطانة " وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد اصطفاها لنفسه . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لبلال - فيما بلغني - حين رأى بتلك اليهودية ما رأى : " أنزعت منك الرحمة يا بلال ? حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ? " .

ثم تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن . وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس . وكانت قبل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عند أبي رهم بن عبد العزى . وقيل حويطب بن عبد العزى . وهي آخر من تزوج [ صلى الله عليه وسلم ] .

وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] قصة وسببا في زواجه منها . وهن فيمن عدا زينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث ، لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال . وكانت عائشة - رضي الله عنها - هي أحب نسائه إليه . وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر - إلى جانب جاذبيتهن - ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلا ، ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينب . فلا حاجة أبدا إلى نفي مثل هذه العناصر الإنسانية من حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم . إذا حلا لأعدائه أن يتهموه ! فقد اختير ليكون إنسانا . ولكن إنسانا رفيعا . وهكذا كان . وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] على اختلاف الدوافع والأسباب .

ولقد عاش في بيته مع أزواجه بشرا رسولا كما خلقه الله ، وكما أمره أن يقول : ( قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? ) . .

استمتع بأزواجه وأمتعهن ، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - عنه : " كان إذا خلا بنسائه ألين الناس . وأكرم الناس ضحاكا بساما " . . ولكنه إنما كان يستمتع بهن ويمتعهن من ذات نفسه ، ومن فيض قلبه ، ومن حسن أدبه ، ومن كريم معاملته . فأما حياتهن المادية فكانت في غالبها كفافا حتى بعد أن فتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء . وقد سبق في سورة الأحزاب قصة طلبهن الوسعة في النفقة ، وما أعقب هذا الطلب من أزمة ، انتهت بتخييرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة ، أو المتاع والتسريح من عصمته [ صلى الله عليه وسلم ] فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة .

ولكن الحياة في جو النبوة في بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم تكن لتقضي على المشاعر البشرية ، والهواتف البشرية في نفوس أزواجه - رضي الله عنهن - فقد كان يبدر أو يشجر بينهن ، ما لابد أن يشجر في قلوب النساء في مثل هذه الحال . وقد سلف في رواية ابن إسحاق عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كرهت جويرية بمجرد رؤيتها لما توقعته من استملاح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لها إذا رآها . وصح ما توقعته فعلا ! وكذلك روت هي نفسها حادثا لها مع صفية . قالت . " قلت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : حسبك من صفية كذا وكذا " . قال الراوي : تعني قصيرة ! فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . . كذلك روت عن نفسها أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين نزلت آية التخيير التي في الأحزاب ، فاختارت هي الله ورسوله والدار الآخرة ، طلبت إليه ألا يخبر زوجاته عن اختيارها ! - وظاهر لماذا طلبت هذا ! - فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا . لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها . . " .

وهذه الوقائع التي روتها عائشة - رضي الله عنها - عن نفسها - بدافع من صدقها ولتربيتها الإسلامية الناصعة - ليست إلا أمثلة لغيرها تصور هذا الجو الإنساني الذي لابد منه في مثل هذه الحياة . كما تصور كيف كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يؤدي رسالته بالتربية والتعلية في بيته كما يؤديها في أمته سواء .

وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حياة أزواجه . وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة .

وبمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات . وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة . أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية ، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار . كما ورد مشهد للكافرين في هذه النار . واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط كمثل للكفر في بيت مؤمن . وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين . .

يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ، والله غفور رحيم . قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم .

وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض ، فلما نبأها به قالت : من أنبأك هذا ? قال : نبأني العليم الخبير .

( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير . عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ) . .

وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة منها ما رواه البخاري عند هذه الآية قال : حدثنا إبراهيم ابن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة ، قالت : كان النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها . فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير . إني أجد منك ريح مغافير . قال : " لا . ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له . وقد حلفت . لا تخبري بذلك أحدا " . . فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له : ( لم تحرم ما أحل الله لك ? ) .

ويبدو أن التي حدثها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها . فأطلع الله رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] على الأمر . فعاد عليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه . تمشيا مع أدبه الكريم . فقد لمس الموضوع لمسا مختصرا لتعرف أنه يعرف وكفى . فدهشت هي وسألته : ( من أنبأك هذا ? ) . . ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته ! ولكنه أجابها : ( نبأني العليم الخبير ) . . فالخبر من المصدر الذي يعلمه كله . ومضمون هذا أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يعلم كل ما دار ، لا الطرف الذي حدثها به وحده !

وقد كان من جراء هذا الحادث وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن غضب . فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا ، وهم بتطليقهن - على ما تسامع المسلمون - ثم نزلت هذه الآيات . وقد هدأ غضبه [ صلى الله عليه وسلم ] فعاد إلى نسائه بعد تفصيل سنذكره بعد عرض رواية أخرى للحادث .

وهذه الرواية الأخرى أخرجها النسائي من حديث أنس ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها . فأنزل الله عز وجل : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؛ تبتغي مرضات أزواجك . . .

وفي رواية لابن جرير ولابن أسحاق أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وطئ مارية أم ولده إبراهيم في بيت حفصة . فغضبت وعدتها إهانة لها . فوعدها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بتحريم مارية وحلف بهذا . وكلفها كتمان الأمر . فأخبرت به عائشة . . فهذا هو الحديث الذي جاء ذكره في السورة .

وكلا الروايتين يمكن أن يكون هو الذي وقع . وربما كانت هذه الثانية أقرب إلى جو النصوص وإلى ما أعقب الحادث من غضب كاد يؤدي إلى طلاق زوجات الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] نظرا لدقة الموضوع وشدة حساسيته . ولكن الرواية الأولى أقوى إسنادا . وهي في الوقت ذاته ممكنة الوقوع ، ويمكن أن تحدث الآثار التي ترتبت عليها . إذا نظرنا إلى المستوى الذي يسود بيوت النبي ، مما يمكن أن تعد فيه الحادثة بهذا الوصف شيئا كبيرا . . والله أعلم أي ذلك كان .

أما وقع هذا الحادث - حادث إيلاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من أزواجه ، فيصوره الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو يرسم كذلك جانبا من صورة المجتمع الإسلامي يومذاك . . قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس قال : " لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اللتين قال الله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما )حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة ، فتبرز ، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللتان قال الله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما )? فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس ! [ قال الزهري : كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه ] قال : هي عائشة وحفصة . قال : ثم أخذ يسوق الحديث ، قال : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم . قال : وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي . قال : فغضبت يوما على امرأتي ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني . فقالت : ما تنكر أن أراجعك ? فوالله إن أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ! قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قالت : نعم ! قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ? قالت : نعم ! قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت ? لا تراجعي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولا تسأليه شيئا وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم - أي أجمل - وأحب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منك - يريد عائشة - قال : وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ينزل يوما وأنزل يوما ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك . قال : وكنا نتحدث أن غسان تنحل الخيل لتغزونا . فنزل صاحبي يوما ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم نادى ، فخرجت إليه ، فقال : حدث أمر عظيم . فقلت : وما ذاك ? أجاءت غسان ? قال : لا . بل أعظم من ذلك وأطول ! طلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نساءه ! فقلت : قد خابت حفصة وخسرت ! قد كنت أظن هذا كائنا . حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي . فقلت : أطلقكن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم ? - فقالت : لا أدري . هو هذا معتزل في هذه المشربة . فأتيت غلاما أسودا فقلت : استأذن لعمر . فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فانطلقت حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم . فجلست عنده قليلا ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني . فقال : ادخل قد أذن لك . فدخلت فسلمت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه . فقلت : أطلقت يا رسول الله نساءك ? فرفع رأسه إلي وقال : " لا " . فقلت : الله أكبر ! ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ? فوالله إن أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ؛ فإذا هي قد هلكت ? فتبسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منك ! فتبسم أخرى . فقلت : أستأنس يا رسول الله ! قال : " نعم " فجلست ، فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله . فاستوى جالسا وقال : " أفي شك أنت يا بن الخطاب ? أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر لي يا رسول الله . . وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل " . . [ وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري بهذا النص ] . .

هذه رواية الحادث في السير . فلننظر في السياق القرآني الجميل :

تبدأ السورة بهذا العتاب من الله سبحانه لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] :

يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ، والله غفور رحيم ? قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، والله مولاكم ، وهو العليم الحكيم . .

وهو عتاب مؤثر موح . فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي ؛ إنما كان قد قرر حرمان نفسه . فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالا فلا يجوز حرمان النفس منه عمدا وقصدا إرضاء لأحد . . والتعقيب : ( والله غفور رحيم ) . . يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة ، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته . وهو إيحاء لطيف .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } الخ سميت { سورة التحريم } في كتب السنة وكتب التفسير . ووقع في رواية أبي ذر الهروي لصحيح البخاري تسميتها باسم { سورة اللم تحرم } بتشديد اللام ، وفي الإتقان وتسمى { سورة اللم تحرم } ، وفي تفسير الكواشي أي بهمزة وصل وتشديد اللام مكسورة وبفتح الميم وضم التاء محققه وتشديد الراء مكسورة بعدها ميم على حكاية جملة { لم تحرم } وجعلها بمنزلة الاسم وإدخال لام تعريف العهد على ذلك اللفظ وإدغام اللامين .

وتسمى { سورة النبي } صلى الله عليه وسلم وقال الآلوسي : إن ابن الزبير سماها { سورة النساء } . قلت ولم أقف عليه ولم يذكر صاحب الإتقان هذين في أسمائها .

واتفق أهل العدد على أن عدة آيها اثنتا عشرة .

وهي مدنية . قال ابن عطية : بإجماع أهل العلم وتبعه القرطبي . وقال في الإتقان عن قتادة : إن أولها إلى تمام عشر آيات وما بعدها مكي ، كما وقعت حكاية كلامه . ولعله أراد إلى عشر آيات ، أي أن الآية العاشرة من المكي إذ من البعيد أن تكون الآية العاشرة مدنية والحادية عشر مكية .

وهي معدودة الخامسة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة .

ويدل قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أنها نزلت بعد سورة المائدة كما سيأتي .

وسبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .

إحداهما : ما ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش ، أو حفصة ، أو أم سلمة ، أو سودة بنت زمعة . والأصح أنها زينب . فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصه على أن أيتهما دخل عليها تقول له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا . فدخل على حفصة فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له ، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة لأنه يكره غضبها فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات .

هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات . والتحريم هو قوله : { ولن أعود له } لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا صدقا وكانت سودة تقول لقد حرمناه .

والثانية ما رواه ابن القاسم في المدونة عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال والله أطؤك ثم قال : هي علي حرام فأنزل الله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } .

وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها ، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها . فقالت حفصة : تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها . قيل : فقالت له حفصة : كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى { يا أيها النبي لما تحرم ما أحل الله لك } . وهو حديث ضعيف .

أغراض هذه السورة

ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة ، فإنما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على نفسه أو ينفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه وأسمى مقصدا .

وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات .

وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برها أن يكفر عنها ويفعل الذي هو خير . وقد ورد التصريح بذلك في حديث وقد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري ، وتقدم في سورة براءة .

وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق .

وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا .

وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها .

وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم .

افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه .

والاستفهام في قوله : { لم تحرم } مستعمل في معنى النفي ، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ اللَّه لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاماً بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصداً بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأْنَ عليه لِفرط غيرتهن ، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن ، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإِكرام في بعض الأيام .

وهذا يومىء إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعَى .

وفعل { تحرم } مستعمل في معنى : تجعل ما أحلّ لك حراماً ، أي تحرّمه على نفسك كقوله تعالى : { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } [ آل عمران : 93 ] وقرينتهُ قوله هنا : { ما أحل الله لك } .

وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراماً كما في قوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } [ التوبة : 37 ] ، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال : وسِّعْ هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط : وسِّعْ طَوْق الجبّة .

ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيّرت إباحته حراماً على الناس أو عليك . ومن العجيب قول « الكشاف » : ليس لأحد أن يُحرّم ما أحلّ الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله إلخ .

وصيغة المضارع في قوله : { لم تحرم } لأنه أوقع تحريماً متجدداً .

فجملة { تبتغي } حال من ضمير { تحرم } . فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله : { لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] .

وفي الإِتيان بالموصول في قوله : { ما أحل الله لك } لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه .

وفي قوله : { تبتغي مرضات أزواجك } عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيراً وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضاً وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن ، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارَض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة .

وذيل بجملة { والله غفور رحيم } استئناساً للنبيء صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام ، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله : { عفا الله عنك لما أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] .