تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم وهي مدنية{[1]}

الآية1 قوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } هذا في الظاهر فظيع بأن يحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحل الله له .

ومن قال بأنه حرم ما أحل الله له فقد قال أمرا منكرا ، ولو اعتقد ذلك كان كفرا منه ، إذ من حرم ما أحل الله تعالى كان كافرا ، ومن كان اعتقاده في رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ، فهو كافر .

وقال أبو بكر الأصم : دلت هذه الآية /578 –أ / على أن ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله تعالى ، لأن الله تعالى منع رسوله عن ذلك .

لكن الأمر عندنا ليس على ما ظنه أبو بكر ولا على [ ما ]{[21534]} سبق إليه وهم بعض الجهّال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم شيئا ، أحلّه الله تعالى . ومن توهم هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر .

وتأويله عندنا ، والله أعلم ، على وجهين :

أحدهما : أن تحريم ما أحل الله تعالى ، هو أن يعتقد تحريم المحلل وتحليل المحرم في ما حرم الله تعالى مطلقا . فمن اعتقد تحريمه حكم عليه بالكفر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتقد تحريم ما أحل الله ، إذ لم ير جماعها عليه محرما ، بل امتنع عن الانتفاع بها باليمين . والحرمة التي تثبت بسبب اليمين ، لم تكن من فعل الآدميّ ، وإن ثبتت بمباشرة السبب منه كالتحريم بالطلاق وبغيره من الأسباب ، فإنما تثبت من الله تعالى عقيب مباشرة الأسباب من العباد وكسائر الأحكام كيف وإنه باليمين لا تثبت حرمة نفس الفعل ، وإنما المحرم من ترك تعظيم الله تعالى الواجب بسبب اليمين . وهذا لا يعد تحريم الحلال وتحليل الحرام ، [ لو أراد ]{[21535]} بالتحريم منع النفس عن ذلك مع اعتقاده بكونه حلالا أن يكون قصد به قصد تحريم عينه .

وقد يمتنع المرء عن تناول الحلال لغرض له في ذلك ، وهو كقوله تعالى : { وحرمنا عليه المراضع من قبل } [ القصص : 12 ] ولم [ يرد به ] {[21536]} تحريم عينه ولا التحريم الشرعي ، إذ الصبي ليس من أهله ، وإنما أريد به امتناعه من الارتضاع إلا من ثدي أمه . فعلى ذلك ههنا ، والله أعلم .

والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب إلى حسن العشرة مع أزواجه إلى الشفقة [ عليهن ، فبلغ في حسن العشرة والصحبة مبلغا ، امتنع ]{[21537]} عن الانتفاع بما أحل الله له وأباح له التلذذ به ، يبتغي به حسن عشرتهن ، ويطلب به مرضاتهن .

فقال : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل لله لك } أي لا تبلغن بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغا ، تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك ، فيخرج هذا مخرج تخفيف المؤونة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن العشرة معهن لا مخرج النهي والعتاب عن الزلة . وهو كقوله : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] [ فرسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم كان بلغ من شفقته على أولئك الذين تخلفوا عن الإيمان مبلغا كادت نفسه تهلك فيها ، فكان في قوله : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }{[21538]} تخفيف الأمر عليه .

وكذلك قوله {[21539]} :

{ ولا تبسطها كل البسط } [ الإسراء : 29 ] ليس في الحقيقة نهي عن السخاء على النهاية ، ولكن تخفيف الأمر عليه أن ليس عليك الإسراف في السخاء والنهاية في ذلك بحيث لم تبق لنفسك وعيالك شيئا ، وتؤثر غيرك .

فعلى ذلك قوله تعالى : { لم تحرم ما أحل الله لك } خارج مخرج تخفيف عليه في حسن العشرة لا مخرج النهي ، والله أعلم .

ثم اختلف في سبب التحريم : [ فمنهم ]{[21540]} من ذكر أن حفصة رضي الله عنها زارت أهلها ، والنبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة ، فجاءت أم إبراهيم مارية القبطية حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فواقعها ، فجاءت حفصة رضي الله عنها [ وهما ]{[21541]} نائمان ، فرجعت إلى بيت أهلها ، فمكثت عامة الليل . وقالت حفصة في آخر هذا الخبر : ما رأيت لي حرمة ، وعرفت لي حقا ، فقال لها عليه الصلاة والسلام : اكتمي علي هذا ، وهي علي حرام . فنزلت هذه الآية .

ومنهم من يذكر [ أنه ]{[21542]} كان يوم عائشة رضي الله عنها [ فانطلقت حفصة إلى عائشة ، وأطلعتها على ما رأت ]{[21543]} فغضبت عائشة رضي الله عنها ، فلم تزل بنبي الله حتى حرمها ، فنزلت هذه الآية .

[ وقال عكرمة : نزلت هذه الآية ]{[21544]} في امرأة يقال لها : أم شريك { وهبت نفسها للنبي }[ الأحزاب : 50 ]صلى الله عليه وسلم فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبا مرضاة أزواجه ، فنزلت الآية ، والله أعلم .

ومنهم من قال : إن الذي حرمه النبي عليه السلام كان عسلا ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشربه عند بعض النساء ، فقالت امرأة من نسائه لصاحبتها : إذا جاءك النبي صلى الله عليه وسلم فقولي له : ما ريح المغافير فيك ؟ فقالت للنبي ، فحرمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .

وليس لنا إلى تعرف السبب الذي وقع التحريم به ولا إلى تعيين الشيء الذي حرمه النبي صلى الله عليه و سلم حاجة ، ولكنا نعلم أن الأمر الذي كان ، فهو جرى بينه وبين زوجته .

وقوله تعالى : { والله غفور رحيم }أي غفور لما تقدم من ذنبك وما تأخر ، لو كان ، أو يكون ، { رحيم } حين {[21545]} لم يعاقبك بما اجترأت من الإقدام على اليمين لا بإذن سبق من الله لك فيه ، أو { غفور رحيم } عليك وعلى [ زوجتيك إن تبتم ، ولم تعودوا إلى صنيعكم ]{[21546]} أو { غفور رحيم } بما خفف عليك من مؤونة العشرة ، ولم يحمل عليك ما حملت على نفسك .


[1]:- في ط ع: سمح.
[21534]:من م، ساقطة من الأصل.
[21535]:في الأصل و م:أو أريد.
[21536]:في الأصل و م:ير.
[21537]:من م، في الأصل:ما أحل الله لك أي لا يبلغن بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغ يمتنع.
[21538]:ساقطة من م.
[21539]:في الأصل و م:قال.
[21540]:اقطة من الأصل و م.
[21541]:ساقطة من الأصل و م.
[21542]:ساقطة من الأصل و م.
[21543]:في الأصل و م:فاطلعت حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاريته مارية فأمرها رسول الله أن تكتم عليه فأخبرت حفصة بما رأت عائشة.
[21544]:من م، ساقطة من الأصل.
[21545]:ي الأصل و م:حيث.
[21546]:ي الأصل و م:زوجتك إن تابتا، ولم تعودا إلى صنيعهم.