فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم

وقال القرطبي : وتسمى سورة النبي صلى الله عله وسلم اثنتا عشرة آية

وهي مدنية قال القرطبي في قول الجميع قال ابن عباس : نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير نحوه .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم }

{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } المراد بالتحريم هنا الامتناع من الاستمتاع لا اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله له ، فإن هذا الاعتقاد لا يصدر منه صلى الله عليه وسلم ، لأنه كفر قاله الخطيب { تبتغي مرضاة أزواجك } استئناف أو تفسير لقوله : تحرم أو حال ، والمرضاة اسم مصدر وهو الرضا ، وأصله مرضوة ، وهو مضاف إلى المفعول أي أن ترضي أزواجك أو إلى الفاعل ، أي أن يرضين هن ، والمعنى لا ينبغي منك أن تشتغل بما يرضي الخلق بل اللائق أن أزواجك وسائر الخلق تسعى في رضاك ، وتتفرغ أنت لما يوحى إليك من ربك ، قال الخطيب : وفيه تنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي ، وقيل : كان ذلك ذنبا من الصغائر ، فلذا عاتبه الله عليه ، وقيل : إنها معاتبة على ترك الأولى ، وقال النسفي : كان هذا زلة منه .

{ والله غفور رحيم } أي بليغ المغفرة ، والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك ، واختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال ، والأول قول أكثر المفسرين : قال الواحدي : قال المفسرون : كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فزارت أباها ، فلما رجعت أبصرت مارية القبطية في بيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تدخل حتى خرجت مارية ، ثم دخلت فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة ، قال لها لا تخبري عائشة ، ولك علي أن لا أقربها أبدا ، فأخبرت حفصة عائشة ، وكانتا متصافيتين فغضبت عائشة ، ولم تزل بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية فأنزل الله هذه السورة ( {[1593]} ) ، وبه قال المحلي ، وقال القرطبي : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة ، وذكر القصة وقال أبو السعود والنسفي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ، خلا بمارية في يوم عائشة ، وعلمت بذلك حفصة . فقال لها اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي ، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي ، فأخبرت به عائشة وكانتا متصافيتين انتهى .

" عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له امة يطؤها فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما ، فأنزل الله هذه الآية " أخرجه النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه .

" وعن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب . من المرأتان اللتان تظاهرتا ؟ قال : عائشة وحفصة ، وكان بدء الحديث في شأن مارية القبطية أم إبراهيم ، أصابها النبي صلى الله عليه في بيت حفصة في يومها فوجدت حفصة فقالت : يا رسول الله لقد جئت إلي بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي ، وفي دوري على فراشي ، قال : ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها أبدا ؟ قالت : بلى ، فحرمها وقال : لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله { يا أيها النبي لم تحرم } الآيات كلها فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر عن يمينه وأصاب مارية " أخرجه البراز والطبراني قال السيوطي بسند صحيح .

وأخرجه ابن سعد وابن مردويه عنه بأطول من هذا وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه بأخصر منه ، وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه مختصرا بلفظ : قال حرم سريته ، وجعل ذلك سبب النزول في جميع ما روي من هذه الطرق .

" وعن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة لا تحدثي أحدا ، وإن أم إبراهيم عليّ حرام ، قالت : أتحرم ما أحل الله لك ؟ قال : فوالله لا أقربها فلم يقربها حتى أخبرت عائشة ، فأنزل الله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } " أخرجه الهيثم بن كليب في مسنده والضياء المقدسي في المختارة من طريق نافع .

" وعن أبي هريرة أن سبب النزول تحريم مارية كما سلف " ، أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وسنده ضعيف .

الثاني قيل : السبب أنه كان صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا ، وهو الذي رواه الشيخان ، والتي شرب عندها هي زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة أن يقولا له إذا دخل عليهما : إنا نجد منك ريح مغافير فحرم العسل فنزلت هذه الآية ، أخرج البخاري وغيره :

" عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها لبنا أو عسلا فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له ، فقال : لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود ، فنزلت { يا أيها النبي } إلى قوله { إن تتوبا إلى الله } لعائشة وحفصة ، { وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } لقوله : بل شربت عسلا " .

وقيل : هي سودة كما روي :

" عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل ، فدخل على عائشة فقالت : إني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت : إني أجد منك ريحا ، فقال : أراه من شراب شربته عند سودة ، والله لا أشربه أبدا فأنزل الله هذه الآية " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند صحيح ، وقيل : هي أم سلمة كما روي :

" عن عبد الله بن رافع قال : سألت أم سلمة عن هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم ؟ قالت كانت عندي عكة من عسل أبيض فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلعق منها ، وكان يحبه فقالت له عائشة نحلها تجرس عرفطا فنزلت هذه الآية " أخرجه ابن سعد وذكره الخطيب والخازن ، وقيل : هي حفصة فواطأت عائشة وسودة وصفية فقلن له إنا نشم منك ريح المغافير ، فحرم العسل فنزلت الآية ، قاله البيضاوي .

الثالث قيل : السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فالأولان سببان صحيحان لنزول الآية والجمع ممكن بوقوع القصتين ، قصة مارية وقصة العسل ، وأن القرآن نزل فيهما جميعا ، وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه ، وأما الثالث فقال شيخنا الشوكاني : أنه ليس في ذلك إلا ما روى ابن أبي حاتم وابن مردويه .

" عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية للمرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم " ، قال السيوطي : وسنده ضعيف ، ويرد هذا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل تلك الواهبة نفسها ، فكيف يصح أن يقال : إنه نزل في شأنها ؟ فإن من رد ما وهب له لم يصح أن يقال : أنه حرم على نفسه ، وأيضا لا ينطبق على هذا السبب قوله : وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا إلى آخر ما حكاه الله .

وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن ابن عباس سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهما عائشة وحفصة ثم ذكر قصة الإيلاء كما في الحديث الطويل ، فليس في هذا نفي كون السبب هو ما قدمنا من قصة العسل والسرية ، لأنه إنما أخبره بالمتظاهرتين ، وذكر فيه أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه وتهجره إحداهن من اليوم إلى الليل ، وأن ذلك سبب الاعتزال ، لا سبب نزول : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؟ ويؤيد هذا ما قدمنا عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا فأخبره بأنهما حفصة وعائشة وبيّن له أن السبب قصة مارية ، هذا ما تيسر من تلخيص سبب نزول الآية ، ودفع الاختلاف في شأنه ، فاشدد عليه يديك لتنجو به من الخبط والخلط الذي وقع للمفسرين .


[1593]:ضعيف الجامع-1704.