ثم ضرب مثلا فقال : { أفمن يمشي مكباً على وجهه } راكباً رأسه في الضلالة والجهالة ، أعمى العين والقلب لا يبصر يميناً ولا شمالاً وهو الكافر . قال قتادة : راكبا على المعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة ، { أهدى أمن يمشي سوياً } معتدلاً يبصر الطريق وهو ، { على صراط مستقيم } وهو المؤمن . قال قتادة : يمشي يوم القيامة سوياً .
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لأهل الإِيمان وأهل الكفر ، وأهل الحق وأهل الباطل ، فقال - سبحانه - : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
والمُكِب : هو الإِنسان الساقط على وجهه ، يقال : كبَّ فلان فلانا وأكبه ، إذا صرعه وقلبه بأن جعل وجهه على الأرض . . فهو اسم فاعل من أكب .
وقوله : { أهدى } مشتق من الهدى ، وهو معرفة طريق الحق والسير فيها ، والمفاضلة هنا ليست مقصودة ، لأن الذى يمشي مكبا على وجهه ، لا شئ عنده من الهداية أو الرشد إطلاقا حتى يفاضل مع غيره ، وفيه لون من التهكم بهذا المكب على وجهه .
و " السوي " هو الإِنسان الشديد الاستواء والاستقامة ، فهو فعيل بمعنى فاعل .
ومنه قوله - تعالى - حكاية عما قاله إبراهيم - عليه السلام - لأبيه - : { ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً }
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى . . . } : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه ، كمثل من يمشي مكبا على وجهه ، أي : يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه ، أي : لا يدري أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال ، أهذا أهدى { أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً } أي : منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي على طريق واضح بين ، وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة .
هذا مثلهم في الدنيا ، وكذلك يكونون في الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشي سويا على صراط مستقيم . . وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى النار . .
وروى الإِمام أحمد عن أنس قال : " قيل يا رسول الله ، كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال : " أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم "
وقال الجمل : هذا مثل للمؤمن والكافر ، حيث شبه - سبحانه - المؤمن في تمسكه بالدين الحق ، ومشيه على منهاجه ، بمن يمشي في الطريق المعتدل ، الذي ليس فيه ما يتعثر به . .
وشبه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل ، بمن يمشي في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض ، فيتعثر ويسقط على وجهه ، وكلما تخلص من عثرة وقع في أخرى .
فالمذكور في الآية هو المشبه به ، والمشبه محذوف ، لدلالة السياق عليه . .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد لفتت أنظار الناس إلى التفكر والاعتبار ، ووبخت المشركين على جهالاتهم وطغيانهم ، وساقت مثالا واضحا للمؤمن والكافر ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة .
ولقد كانوا - مع هذا - يتهمون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه بالضلال ؛ ويزعمون لأنفسهم أنهم أهدى سبيلا ! كما يصنع أمثالهم مع الدعاة إلى الله في كل زمان . ومن ثم يصور لهم واقع حالهم وحال المؤمنين في مشهد حي يجسم حقيقة الحال :
( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ? أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ? ) . . والذي يمشي مكبا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلا لا على رجليه في استقامة كما خلقه الله ، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه ، ثم ينهض ليعثر من جديد ! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر ، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول ! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيما سويا في طريق لا عوج فيه ولا عثرات ، وهدفه أمامه واضح مرسوم ? !
إن الحال الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله ، المحروم من هداه ، الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته ، لأنه يعترضها في سيره ، ويتخذ له مسارا غير مسارها ، وطريقا غير طريقها ، فهو أبدا في تعثر ، وأبدا في عناء ، وأبدا في ضلال .
والحال الثانية هي حال السعيد المجدود المهتدي إلى الله ، الممتع بهداه ، الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور ، الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد . وهو موكب هذا الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء .
إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد . وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال . .
فأيهما أهدى ? وهل الأمر في حاجة إلى جواب ? إنما هو سؤال التقرير والإيجاب !
ويتوارى السؤال والجواب ليتراءى للقلب هذا المشهد الحي الشاخص المتحرك . . مشهد جماعة يمشون على وجوههم ، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق . ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات ، مستقيمة الخطوات ، في طريق مستقيم ، لهدف مرسوم .
إنه تجسيم الحقائق ، وإطلاق الحياة في الصور ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير . .
واختلف أهل التأويل في سبب قوله : { أفمن يمشي مكباً } الآية ، فقال جماعة من رواة الأسباب : نزلت مثلاً لأبي جهل بن هشام وحمزة بن عبد المطلب ، وقال ابن عباس وابن الكلبي وغيره : نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك : نزلت مثالاً للمؤمنين والكافرين على العموم ، وقال قتادة : نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وإن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة ، وقيل للنبي : كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ قال : «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجله ، قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه »{[11221]} .
قال القاضي أبو محمد : فوقف الكفار على هاتين الحالتين حينئذ ، ففي الأقوال الثلاثة المشي مجاز يتخيل ، وفي القول الرابع هو حقيقة يقع يوم القيامة . ويقال : أكب الرجل ، إذا رد وجهه إلى الأرض ، وكبه : غيره ، قال عليه السلام : «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم »{[11222]} ، فهذا الفعل خلاف للباب : أفعل لا يتعدى وفعل يتعدى ، ونظيره قشعت الريح السحاب فأقشع ، و { أهدى } في هذه الآية أفعل من الهدى .