قوله عز وجل{ حتى إذا أتوا على واد النمل } روي عن وهب بن منبه عن كعب قال : كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه ، وقد اتخذ مطابخ ومخابز يحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام ، يسع كل قدر عشر جزائر وقد اتخذ ميادين للدواب أمامه ، فيطبخ الطباخون ، ويجيز الخبازون ، وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض ، والريح تهوي بهم ، فسار من إصطخر إلى اليمن فسلك مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه ، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت ، فأوحى الله إلى البيت ما يبكيك ؟ فقال : يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي ، والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه أن لا تبك ، فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً ، وأنزل فيك قرآناً جديداً وأبعث منك نبياً في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي ، وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني ، وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضتها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين . ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير واد من الطائف ، فأتى على وادي النمل ، هكذا قال كعب : إنه واد بالطائف . وقال قتادة ومقاتل : هو أرض بالشام . وقيل : واد كان يسكنه الجن ، وأولئك النمل مراكبهم . وقال نوف الحميري : كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب . وقيل : كالبخاتي . والمشهور : أنه النمل الصغير . وقال الشعبي : كانت تلك النملة ذات جناحين . وقيل : كانت نملة عرجاء فنادت : { قالت نملة : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } ولم تقل : ادخلن ، لأنه لما جعل لهم قولاً كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين ، { لا يحطمنكم } لا يكسرنكم ، { سليمان وجنوده } والحطم : الكسر ، { وهم لا يشعرون } فسمع سليمان قولها ، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان . قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال ، قال الضحاك : كان اسم تلك النملة طاحية ، قال مقاتل : كان اسمها جرمى . فإن قيل : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض . قيل : كان جنوده ركباناً وفيهم مشاة على الأرض تطوى لهم . وقيل : يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان . قال أهل التفسير : علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية وظلم . ومعنى الآية : أنكم لو لم تدخلوا مساكنكم وطؤوكم ولم يشعروا بكم . ويروى أن سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخل النمل بيوتهم .
ثم حكى - سبحانه - ما قالته نملة عندما رأت هذا الجيس العظيم المنظم ، فقال - تعالى - : { حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
و { حتى } هنا ابتدائية . أى : يبتدأ بها الكلام ، وقوله { قَالَتْ نَمْلَةٌ } جواب إذا .
وقوله : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } من الحطم ، وأصله : كسر الشىء . . يقال : حطم فلان الشىء إذا كسره ، والمراد به هنا : الإهلاك والقتل .
والمعنى : وحشر لسليمان جنوده ، فسار هؤلاء الجنود فى قوة ونظام ، { حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل } أى : على مكان يعيش فيه النمل فى مملكة سليمان { قَالَتْ نَمْلَةٌ } على سبيل النصح والتحذير بعد أن رأت سليمان وجنوده : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } أى : ادخلوا أماكن سكناكم ، وابتعدوا عن طريق هذا الجيش الكبير ، وانجوا بأنفسكم ، كى لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم عدى { أَتَوْا } بعلى ؟ قلت : يتوجه على معنين : أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء . . . والثانى : أن يراد قطع الوادى وبلوغ آخره ، من قولهم أتى على الشىء إذا أنفذه وبلغ آخره . . .
فإن قلت : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } ما هو ؟ قلت : يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهيا بدلاً من الأمر . والذى جوز أن يكون بدلاً منه : أنه فى معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لاأرينك ههنا " .
حتى إذا أتوا على وادي النمل . قالت نملة : يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ، لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون . فتبسم ضاحكا من قولها ، وقال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين . .
لقد سار الموكب . موكب سليمان من الجن والإنس والطير . في ترتيب ونظام ، يجمع آخره على أوله ، وتضم صفوفه ، وتتلاءم خطاه . حتى إذا أتوا على واد كثير النمل ، حتى لقد أضافه التعبير إلى النمل فسماه ( وادي النمل )قالت نملة . لها صفة الإشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي - ومملكة النمل كمملكة النحل دقيقة التنظيم ، تتنوع فيها الوظائف ، وتؤدى كلها بنظام عجيب ، يعجز البشر غالبا عن اتباع مثله ، على ما أوتوا من عقل راق وإدراك عال - قالت هذه النملة للنمل ، بالوسيلة التي تتفاهم بها أمة النمل ، وباللغة المتعارفة بينها . قالت للنمل : ادخلو ا مساكنكم - كي لا يحطمنكم سليمان وجنوده . وهم لا يشعرون بكم .
فأدرك سليمان ما قالت النملة وهش له وانشرح صدره بإدراك ما قالت ، وبمضمون ما قالت . هش لما قالت كما يهش الكبير للصغير الذي يحاول النجاة من أذاه وهو لا يضمر أذاه . وانشرح صدره لإدراكه . فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم المحجوبة المعزولة عن الناس لاستغلاق التفاهم بينها وقيام الحواجز . وانشرح صدره له لأنه عجيبة من العجائب أن يكون للنملة هذا الإدراك ، وأن يفهم عنها النمل فيطيع !
{ حتى إذا أتوا على وادي النمل } واد بالشام كثير النمل ، وتعدية الفعل إليه ب{ على } إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعة من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي . { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها ، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق . { لا يحطمنكم سليمان وجنوده } نهي لهم عن الحطم ، والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم : لا أرينك ها هنا ، فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة . { وهم لا يشعرون } بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء . وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون .
ظاهر هذه الآية أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض ، وبذلك يتفق حطم النمل ، [ بنزولهم في وادي النمل ]{[8999]} ، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح وأحست النمل بنزولهم في [ واد النمل : قيل : بالشام ، وقيل بأقصى اليمن ، وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها ]{[9000]} ، وأمال أبو عمرو الواو من { واد } ، والجميع فخم ، وبالإمالة قرأ ابن إسحاق ، وقرأ المعتمر بن سليمان عن أبيه «النمُل » بضم الميم كالسمر ، و «قالت نَمُلة » بالضم كسمرة ، وروي عنه ضم النون والميم من «النُّمُل » ، وقال نوف البكالي{[9001]} : كانت تلك النملة على قدر الذئاب وقالت فرقة : بل كانت صغاراً .
قال القاضي أبو محمد : والذي يقال في هذا أن النمل كانت نسبتها من ذلك الخلق نسبة هذا النمل منا فيحتمل أن كان الخلق كله أكمل ، وهذه النملة قالت هذا المعنى الذي لا يصلح له إلا هذه العبارة قولاً فهمه عنها النمل ، فسمعها سليمان على بعده ، وجاءت المخاطبة كمن يعقل ، لأنها أمرتهم بما يؤمر به من يعقل ، وروي أنه كان على ثلاثة أميال .