السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (18)

{ حتى إذا أتوا } أي : أشرفوا { على وادي النمل } روي عن كعب الأحبار أنه قال : كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه ، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع كل قدر عشرة من الإبل يطبخ الطباخون ويخبز الخبازون واتخذ ميادين للدّواب فتجري بين يديه وهو بين السماء والأرض والريح تهوي بهم فسار من اصطخر يريد اليمن ، فمرّ بمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال سليمان هذه دار هجرة نبيّ يخرج في آخر الزمان طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه . ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله تعالى إلى البيت ما يبكيك ؟

فقال : يا رب أبكاني أنّ هذا نبيّ من أنبياءك وقوم من أوليائك مرّوا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك ، فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أملؤك وجوهاً سجداً وأنزل فيك قرآناً جديداً وأبعث منك نبي آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يزفون إليك زفيف النسور إلى وكرها ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها وحنين الحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين ، ثم مرّ سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف فأتى على وادي النمل هكذا قال كعب إنه واد بالطائف .

قال البقاعي : وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف عندهم إلى الآن بهذا الاسم ، وقال قتادة ومقاتل : هو واد بالشأم وجرى عليه البيضاوي ، وقيل : واد كانت تسكنه الجنّ وأولئك النمل مراكبهم ، وقال نوف الحميري : كان نمل ذلك الوادي مثل الذباب ، وقيل : كان كالبخاتي ، وقال البغويّ والمشهور : أنه النمل الصغير .

فائدة : وقف الكسائي على وادي بالياء ، والباقون بغير ياء ، فإن قيل : لم عدى أتوا بعلى ؟ أجيب : بأنه يتوجه على معنيين : أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء ، والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم ، أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهوى لا يخاف حطمهم .

ولما كانوا في أمر مهول منظره وقربوا من ذلك الوادي { قالت نملة } قال الشعبيّ : كانت تلك النملة ذات جناحين ، وقيل : كانت نملة عرجاء فنادت { يا أيها النمل ادخلوا } أي : قبل وصول ما أرى من الجيش { مساكنكم } ثم عللت أمرها فقالت : { لا يحطمنكم } أي : يكسرنكم ويهشمنكم ، أي : لا تبرزوا فيحطمكم فهو نهي لهم عن البروز في صورة نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى أميراً عن شيء كان لغيره أشدّ نهياً { سليمان وجنوده } أي : لأنهم لكثرتهم إذا صاروا في هذا الوادي استعلوا عليه فضيقوه فلم يدعوا فيه موضع شبر خالياً { وهم } أي : سليمان وجنوده { لا يشعرون } أي : بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير ، وقولها هذا يدل على علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبيّ فهم رحماء ، وإنما خاطبتهم خطاب من يعقل لأنها لما جعلت قائلة والنمل مقولاً له كما يكون في أولي العقل أجرت خطابهم ، والنمل : اسم جنس معروف واحده نملة ، ويقال نملة ونمل بضم النون وسكون الميم ، ونملة ونمل بضمهما .

وعن قتادة : أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوني عما شئتم ، وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى حاضراً وهو غلام حديث ، فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى ؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له من أين عرفت ؟ فقال من كتاب الله ، وهو قوله : قالت نملة ولو كانت ذكراً لقال قال نملة ، قال الزمخشريّ : وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي انتهى .

وردّ هذا أبو حيان فقال : ولحاق التاء في قالت لا يدلّ على أنّ النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في الذكر قالت نملة لأن النمل وإن كان بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان ، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ، ولا يدلّ كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على كونه ذكراً وأنثى لأنّ التاء دخلت فيه للفرق لا للدّلالة على التأنيث له الحقيقي ، بل دالة على الواحد من هذا الجنس ، قال وكان قتادة بصيراً بالعربية ، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذا علم أنّ النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين ، ولحاق العلامة لا يدل ، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ا . ه .

وقال الطيبي : العجب من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه لأنّ النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر والأنثى وأطال الكلام في ذلك .

فإن قيل : كيف يتصّور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض ؟ أجيب : بأنّ من جنوده ركباناً ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم ، أو أنّ ذلك كان قبل تسخير الريح لسليمان ، ويروى أنّ سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنده حتى دخل النمل بيوتهم ، فقد روي أنه سمع كلامها من ثلاثة أميال ، وقيل : كان اسمها طاخية .

فائدة : قال أهل المعاني في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة : نادت ونبهت وسمت وأمرت ونصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وأعذرت ، ووجهه : نادت يا ، نبهت : ها ، سمت : النمل ، أمرت : ادخلوا ، نصت : مساكنكم ، حذرت : لا يحطمنكم ، خصت : سليمان ، عمت : وجنوده ، أشارت : وهم ، أعذرت : لا يشعرون .