إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (18)

{ حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النمل } حتَّى هي التي يُبتدأُ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولِه تعالى : { حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل } [ سورة هود ، الآية40 ] الآيةَ وهي هاهنا غايةٌ لما يُنبئ عنه قولُه تعالى فهُم يُوزعونَ من السير كأنَّه قيلَ : فسارُوا حتَّى إذا أتَوا الخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه ، وبالطَّائفِ على ما قالَه كعبٌ رضي الله عنه ، وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم . وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق ، وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه ، من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ ، ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ . وقولُه تعالى { قَالَتْ نَمْلَةٌ } جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم ، جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النملِ مقولٌ لهم حيثُ قيل : { يا أَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم } مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلقَ الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهمَ . وقرئ نَمُلة يا أيُّها النَّمُل بضمِّ الميمِ ، وهو الأصلُ كالرجُل ، وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبُع . وقرئ بضمِّ النونِ والميمِ . قيل : كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السَّلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل : كان اسمُها طاخيةً . وقرئ مسكنَكم . وقولُه تعالى : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ } نهيٌ في الحقيقيةِ للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهياً له عليه الصَّلاة والسَّلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم : لا أرينَّك هَهُنا . فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ ، كقولِ مَنْ قالَ

فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا *** . . .

لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السَّعة . وقرئ لا يَحَطَمنكم بفتحِ الحاءِ وكسرِها ، وأصلُه لا يحتطمنَّكم . وقولُه تعالى : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقييدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا ، وأرادتْ بذلكَ الإيذانَ بأنَّها عارفةٌ بشؤونِ سليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ ، وقيل : هو استئنافٌ أي فهمَ سليمانُ ما قالتْهُ والقومُ لا يشعرونَ بذلكَ .