الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (18)

قوله : { حَتَّى إِذَآ } : في المُغَيَّا ب " حتى " وجهان ، أحدهما : هو يُوْزَعُون ؛ لأنَّه مُضَمَّنٌ معنى : فهم يسيرون ممنوعاً بعضُهم مِنْ مفارقةِ بعضٍ حتى إذا . والثاني : أنَّه محذوفٌ أي : فسارُوا حتى . وتقدَّم الكلامُ في " حتى " الداخلةِ على " إذا " هل هي حرفُ ابتداءٍ أو حرفُ جرّ ؟

قوله : " وادي " متعلقٌ ب " أَتَوْا " وإنما عُدِّيَ ب " على " لأنَّ الواقعَ كذا ؛ لأنَّهم كانوا محمولِيْنَ على الرِّيح فهم مُسْتَعْلُون . وقيل : هو مِنْ قولِهم : أَتَيْتُ عليه ، إذا اسْتَقْصَيْتَه إلى آخره والمعنى : أنهم قَطَعوا الواديَ كلَّه وبَلَغُوا آخرَه . ووقف القُراءُ كلُّهم على " وادِ " دونَ ياءٍ اتِّباعاً للرَّسْمِ ، ولأنها محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين في الوصلِ ، ولأنها قد حُذِفَتْ حيث لم تُحْذَفْ لالتقاءِ الساكنين نحو : { جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ } [ الفجر : 9 ] فَحَذُفها وقفاً وقد عُهِدَ حَذْفُها دونَ التقاء ساكنين أَوْلَى . إلاَّ الكسائيَّ فإنه وَقَفَ بالياء قال : " لأنَّ المُوْجِبَ للحذفِ إنما هو التقاءُ ساكنين بالوصلِ ، وقد زالَ فعادَتِ اللامُ " ، واعتَذَر عن مخالفةِ الرسمِ بقوةِ الأصلِ .

والنَّمْلُ اسمُ جنسٍ معروفٌ ، واحده نَمْلة ، ويقال : نُمْلَة ونُمْلٌ بضمِّ النونِ وسكونِ الميم ، ونُمُلَةٌ ونُمُلٌ بضمهما ونَمُلَة بالفتح والضم ، بوزن سَمُرة ، ونَمُل بوزن رَجُل . واشتقاقُه من التنمُّلِ لكثرةِ حركتِه . ومنه قيل للواشي : المُنْمِل ، يقال : أَنْمَلَ بين القومِ يُنْمِلُ أي : وَشَى ، ونَمَّ لكثرةِ تَرَدُّدِه وحركتِه في ذلك ، قال :

ولَسْتُ بذي نَيْرَبٍ فيهمُ *** ولا مُنْمِشٍ فيهمُ مُنْمِلُ

ويقال أيضاً : نَمَل يَنْمُلُ فهو نَمِل ونَمَّال . وتَنَمَّل القوم : تفرَّقوا للجمع تفرُّقَ النملِ . وفي المثل : " أجمعُ مِنْ نملة " . والنَّّمْلَةُ أيضاً : فُرْجَةٌ تخرج في الجَنْب تشبيهاً بها في الهيئة ، والنَّمْلَة أيضاً : شَقٌّ في الحافِر ، ومنه : فَرَسٌ مَنْمولُ القوائم . والأَنْمُلَة طرفُ الإِصْبَعِ مِنْ ذلك لِدِقَّتِها وسُرْعَةِ حركتِها . والجمعُ : أَنامِل .

قوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ } هذه النملةُ هنا مؤنثةٌ حقيقيةٌ بدليلِ لَحاقِ علامةِ التأنيثِ فِعْلَها ؛ لأنَّ نملةَ يُطْلَقُ على الذَّكَرِ وعلى الأنْثى ، فإذا أُريد تمييزُ ذلك قيل : نَمْلَةٌ ذَكَرٌ ونملةٌ أُنْثى نحو : حَمامةٌ ويَمامةٌ . وحكى الزمخشري عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه . أنه وقف على قتادةَ وهو يقول : سَلُوني . فأمَرَ مَنْ سأله عن نملةِ سليمان : هل كانت ذكراً أو أنثى ؟ فلم يُجب . فقيل لأبي حنيفة في ذلك ؟ فقال : كانَتْ أنثى . واستدل بلَحاقِ العلامةِ . قال الزمخشري : " وذلك أنَّ النَّمْلَةَ مثلُ الحمامةِ والشاةِ في وقوعِهما على المذكَّرِ والمؤنثِ فيُمَيَّزُ بينهما بعلامةٍ نحو قولهم : حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامَةٌ أُنْثى ، وهو وهي " انتهى .

إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ هذا فقال : " ولَحاقُ التاءِ في " قالَتْ " لا يَدُلُّ على أنَّ النملةَ مؤنثٌ ، بل يَصِحُّ أن يُقال في المذكر : " قالت نملة " ؛ لأنَّ " نملة " وإنْ كانَتْ بالتاء هو ممَّا لا يتميَّزُ فيه المذكرُ من المؤمث ، وما كان كذلك كالنَّمْلَةِ والقَمْلة مِمَّا بَيْنَه في الجمعِ وبين واحدِه تاءُ التأنيثِ من الحيوان ، فإنَّه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ ، ولا يَدُلُّ كونُه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ على أنه ذَكَرٌ أو أنثى ؛ لأن التاءَ دخلت فيه للفَرْقِ لا للدلالةِ على التأنيثِ الحقيقيِّ ، بل دالةٌ على الواحدِ من هذا الجنس " ، قال : " وكان قتادةُ بصيراً بالعربيةِ .

وكونُه أُفْحِمَ يَدُلُّ على معرفتهِ باللسانِ ؛ إذْ عَلِم أنَّ النملةَ يُخبر عنها إخبارُ المؤنث ، وإنْ كانَتْ تنطلقُ على الأنثى والذكرِ إذْ لا يَتَمَيَّزُ فيه أحدُ هذين . ولحاقُ العلامةِ لا يَدُلُّ ، فلا يُعْلَمُ التذكيرُ والتأنيثُ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى " قال : " وأمَّا استنباطُ تأنيثِه من كتابِ اللهِ ب " قالَتْ " ولو كان ذَكَراً لقيل : قال ، فكلامُ النحاةِ على خِلافه ، وأنَّه لا يُخْبر عنه ألاَّ إخبارُ المؤنثِ سواءً كان ذكراً أم أنثى " ، قال : " وأمَّا تشبيهُ الزمخشري/ النملةَ بالحمامةِ والشاةِ ففيهما قَدْرٌ مشتركٌ يتميَّزُ فيهما المذكرُ من المؤنثِ فيمكن أَنْ يقول : حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامةٌ أنثى فتمييزُه بالصفة ، وأمَّا تمييزُه ب هو وهي فإنه لا يجوزُ . لا تقول : هو الحمامةُ ولا هو الشاةُ ، وأمَّا النملةُ والقملةُ فلا يَتَمَيَّزُ فيه المذكرُ من المؤنثِ فلا يجوز في الإِخبار إلاَّ التأنيثُ ، وحكمُه حكمُ المؤنثِ بالتاءِ من الحيوان نحو : المرأة ، أو غيرِ العاقل كالدابَّة ، إلاَّ إنْ وَقَعَ فَصْلٌ بين الفعلِ وبين ما أُسْنِدَ إليه من ذلك ، فيجوزُ أَنْ تَلحق العلامةُ وأن لا تَلْحَقَها على ما تقرَّر في علم العربية " انتهى .

أمَّا ما ذكره ففيه نظرٌ : من حيث إنَّ التأنيثَ : أمَّا لفظيٌّ أو معنويٌّ ، واللفظيُّ لا يُعتبر في لحاقِ العلامةِ البتة ، بدليلِ أنه لا يجوز : " قامَتْ ربعةُ " وأنت تعني رجلاً ؛ ولذلك لا يجوز : قامت طلحةُ ولا حمزةُ عَلَمَيْ مذكرٍ ، فَتَعَيَّنَ أن يكونَ اللَّحاقُ إنما هو للتأنيثِ المعنويِّ ، وإنما تعيَّن لفظُ التأنيثِ والتذكيرِ في بابِ العددِ على معنى خاصٍّ أيضاً : وهو أنَّا ننظر إلى ما عامَلَتِ العربُ ذلك اللفظَ به من تذكيرٍ أو تأنيثٍ ، من غيرِ نَظَرٍ إلى مدلولهِ فهناك له هذا الاعتبارُ ، وتحقيقُه هنا يُخْرِجُنا عن المقصودِ ، وإنما نَبَّهْتُك على القَدْرِ المحتاج إليه .

وأمَّا قولُه : " وأمَّا النملةُ والقَمْلةُ فلا يَتَمَيَّزُ " يعني : لا يُتَوَصَّلُ لمعرفةِ الذَّكرِ منهما ولا الأنثى بخلافِ الحمامةِ والشاةِ ؛ فإنَّ الاطلاعِ على ذلك ممكنٌ فهو أيضاً ممنوعٌ . قد يمكن الاطلاعُ على ذلك ، وإنَّ الاطلاع على ذكوريَّةِ الحمامةِ والشاةِ أسهلُ من الاطلاعِ على ذُكورِيَّةِ النملةِ والقملةِ . ومَنْعُه أيضاً أن يقال : هو الشاةُ ، وهو الحمامة ، ممنوعٌ .

وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النَّمُل ونَمُلة بضم الميم وفتح النون بزنةِ رَجُل وسَمُرَة .

وسليمان التميمي بضمتين فيهما . وقد تقدَّم أن ذلك لغاتٌ في الواحدِ والجمعِ .

قوله : { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه نهيٌ . والثاني : أنه جوابٌ للأمرِ ، وإذا كان نَهْياً ففيه وجهان ، أحدُهما : أنه نهيٌ مستأنِفٌ لا تَعَلُّقَ له بما قبله من حيث الإِعرابُ ، وإنما هو نهيٌ للجنودِ في اللفظِ ، وفي المعنى للنَّمْلِ أي : لا تكونوا بحيث يَحْطِموْنَكُمْ كقولهِم : " لا أُرَيَنَّك ههنا " . والثاني : أنه بدلٌ من جملةِ الأمرِ قبلَه ، وهي ادْخلوا . وقد تَعَرَّضَ الزمخشريُّ لذلك فقال : " فإنْ قلتَ : لا يَحْطِمَنَّكم ما هو ؟ قتل : يُحتمل أَنْ يكونَ جواباً للأمرِ ، وأَنْ يكونَ نهياً بدلاً من الأمرِ . والذي جَوَّزَ أَنْ يكونَ بدلاً أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم ، فيَحْطِمَنَّكم ، على طريقةِ " لا أُرَيَنَّك ههنا " أرادَتْ : لا يَحْطِمنكم جنودُ سليمان ، فجاءت بما هو أبلغُ . ونحوُه " عَجِبْتُ من نفسي ومن إشْفاقِها " . قال الشيخ : أمَّا تخريجُه على أنه جوابٌ للأمرِ فلا يكون ذلك إلاَّ على قراءةِ الأعمشِ فإنه مجزومٌ ، مع أنه يُحْتمل أن يكونَ اشتئنافَ نهي " قلت : يعني أنَّ الأعمشَ قرأ " لا يَحْطِمْكم " بجزم الميمِ ، دونَ نونِ توكيدٍ .

قال : وأمَّا مع وجودِ نونِ التوكيد فلا يجوزُ ذلك ، إلاَّ إنْ كان في شعرٍ ، وإذا لم يَجُزْ ذلك في جوابِ الشرطِ إلاَّ في الشعر فأحرى أَنْ لا يجوزَ في جوابِ الأمرِ إلاَّ في الشعرِ . وكونُه جوابُ الأمرِ متنازعٌ فيه على ما قُرِّرَ في علمِ النحوِ . ومثالُ مجِيءِ النونِ في جوابِ الشرطِ قولُ الشاعر :

نَبَتُّمْ نباتَ الخَيْزُرانةِ في الثَّرَى *** حديثاً متى يأتِك الخيرُ يَنْفَعا

وقول الآخر :

فمهما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعطِكُمْ *** ومهما تَشَأْ منه فَزارةُ تَمْنعا

قال سيبويه : " وهو قليلٌ في الشعرِ شَبَّهوه بالنهيِ حيث كان مجزوماً غيرَ واجب " قال : " وأما تخريجُه على البدلِ فلا يجوزُ لأنَّ مدلولَ " لا يَحْطِمَنَّكم " مخالِفٌ لمدلولِ " ادْخُلوا " . وأمَّا قولُه لأنَّه بمعنى : لا تكونوا حيث أنتم فَيَحْطِمَنَّكم فتفسيرُ معنى لا إعراب/ والبدلُ من صفةِ الألفاظِ . نعم لو كان اللفظُ القرآنيُّ : لا تكونوا بحيث لا يَحْطِمَنَّكم لتُخُيِّلَ فيه البدلُ ؛ لأنَّ الأمرَ بدخولِ المساكنِ نهيٌ عن كونِهم بظاهرِ الأرضِ . وأمَّا قوله : " إنه أراد لا يحْطِمَنَّكم جنودُ سليمان إلى آخرِه " فسوِّغُ زيادةَ الأسماءِ وهي لا تجوزُ ، بل الظاهرُ إسنادُ الحكمِ إلى سليمانَ وإلى جنودِه . وهو على حَذْفِ مضافٍ أي : خيلُ سليمانَ وجنودُه ، أو نحو ذلك ، مما يَصِحُّ تقديره " . انتهى .

أمَّا مَنْعُه كونَه جوابَ الأمرِ مِنْ أجلِ النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال : " وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّ جوابَ الشرطِ لا يؤكَّدُ بالنونِ في الاختيار " .

وأمَّا مَنْعُهُ البدلَ بما ذَكَر فلا نُسَلِّم تغايُرَ المدلولِ بالنسبةِ لِما يَؤُول إليه المعنى . وأمَّا قوله : " فيُسَوِّغُ زيادةَ الأسماءِ " لم يُسَوِّغ ذلك ، وإنما فَسَّر المعنى . وعلى تقدير ذلك فقد قيل به . وجاء الخطابُ في قولها : " ادْخُلوا " كخطابِ العقلاء لَمَّا عُوْمِلوا معاملتَهم .

وقرأ أُبَيٌّ " ادْخُلْنَ " ، " مَساكِنَكُنَّ " ، " لا يَحْطِمَنْكُنَّ " بالنونِ الخفيفةِ جاءَ به على الأصل . وقرأ شهر بن حوشب " مَسْكَنَكُمْ " بالإِفراد . وقرأ حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضمِّ الياءِ ، وفتحِ الحاءِ ، وتشديدِ الطاءِ والنونِ ، مضارعَ حَطَّمه بالتشديد . وعن الحسن أيضاً قراءاتان : فتحُ الياءُ وتشديدُ الطاءِ مع سكونِ الحاءِ وكسرِها . والأصل : لا يَحْتَطِمَنَّكم فأَدْغَم . وإسكانُ الحاءِ مُشْكِلٌ تقدَّم نظيرُه في " لا يَهِدِّي " ونحوِه . وقرأ ابن أبي إسحاقَ ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ نونِ التوكيدِ .

قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية . والحَطْمُ : الكَسْر . يقال منه : حَطَمْتُه فحَطِمَ ثم اسْتُعمِل لكلِّ كَسْرٍ مُتَناهٍ . والحُطامُ : ما تكسَّر يُبْساً ، وغَلَبَ على الأشياءِ التافهةِ . والحُطَمُ : السائق السريع كأنه يَحْطِمُ الإِبل قال :

قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ *** ليس براعي إبِلٍ ولا غَنَمْ

ولا بَجَزَّارٍ على ظهرِ وَضَمْ ***

والحُطَمَةُ : من دَرَكاتِ النار . ورجلٌ حُطَمة : للأكولِ . تشبيهاً لبطنه بالنارِ كقوله :

كأنمَّا في جَوْفِه تَنُّوْرُ ***