فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (18)

{ حتى إذا أتوا } حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام ؛ وتكون غاية لما قبلها والمعنى فهم يوزعون إلى حضور هذه الغاية ، وهي إتيانهم { على وادي النمل } أي : فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض ، حتى إذا أتوا على مكان فيه نمل كثير ، وعدّى ب ( على ) لأنهم كانوا محمولين على الريح ، فهم مستعلون والمعنى أنهم قطعوا الوادي وبلغوه آخره ، قال كعب : وادي النمل بالطائف .

وقال قتادة ومقاتل : هو بالشام ، والنمل حيوان معروف شديد الإحساس والشم ، حتى إنه يشم للشيء من بعيد ، ويدخر قوته ، ومن شدة إدراكه أنه يفلق الحبة فلقتين خوفا من الإنبات الكسبرة أربع فلق ، لأنها إذا فلقت فلقتين نبتت ، ويأكل في عامة نصف ما جمع ويستبقي باقية عدة .

ووقف القراء جميعهم على ( واد ) بدون ياء ابتاعا للرسم ، حيث لم يحذف لالتقاء الساكنين ، كقوله : الذين جابوا الصخر بالواد ، إلا الكسائي ، فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل .

{ قالت نملة } {[1340]} ملكة النمل ، على وجه النصيحة قولا مشتملا على حروف وأصوات ، وكانت عرجاء ذات جناحين وهي من الحيوانات التي تدخل الجنة ، قاله سليمان الجمل . قيل : وكانت أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها ، وبه قال أبو حنيفة ، ورد هذا أبو حيان فقال : لحاق التاء في ( قالت ) لا يدل على أن النملة مؤنثة ، بل يصح أن يقال في المذكر قالت ، لأن نملة وإن كانت بالتاء فإنها مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث ، بتذكير الفعل ولا بتأنيثه ، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ، ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة ، ولا بالتعرض لاسم النملة ، ولا بذكر القصص الموضوعة والأحاديث المكذوبة .

و قرئ النمل والنملة بزنة رجل وسمرة ، وقرئ بضمتين فيهما ، ثم قيل : نمل هذا الوادي صغار ، وهو النمل المعروف ، أو كبار كالبخاتي أو كالذئاب ، والأول هو المشهور والجملة جواب ( إذا ) كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة :

{ يا أيها النمل } وقد اشتمل هذا القول منها على أحد عشر نوعا من البلاغة :

أولها :النداء ب ( يا )

وثانيها : أنها كنت بأي .

وثالثها : نبهت بها التنبيه .

ورابعها : سمعت بقولها النمل .

وخامسها : أمرت بقولها : { ادخلوا } .

وسادسها : نصت بقولها { مساكنكم } جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء ، لفهمها لذلك الخطاب . والمساكن هي الأمكنة التي تسكن النمل فيها وقرأ أبيّ : أدخلن مساكنكن : وقرئ : مسكنكم .

وسابعها : حذرت بقولها { لا يحطمنكم } أي : لا يكسرنكم ، والحطم الكسر . يقال : حطمته حطما أي كسرته كسرا فانحطم ، وتحكم تكسر ، والتحطيم والتكسير ، والحطام ما تكسر من اليبس ، وهذا النهي هو في الظاهر للنمل ، وفي الحقيقة لسليمان ، فهو من باب لا أرينك ههنا ، أو بدل من الأمر ، أو جواب للأمر ، وهو ضعيف يدفعه نون التأكيد لأنه من ضرورات الشعر .

وقرئ : لا يحطمنكم بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء .

وثامنها : خصت بقولها : { سليمان }

وتاسعها : عمت بقولها { وجنوده } وأرادت جنود سليمان فجاءت بما هو أبلغ .

وعاشرها : أشارت بقولها { وهم }

وحادي عشرها : عذرت بقولها :

{ لا يشعرون } أي بحطمكم ، ولا يعلمون بمكانكم . أي لو شعروا لم يفعلوا ، قالت ذلك على وجه العذر ، واصفة لهم بالعدل ، كأنها عرفت أن النبي معصوم ، وجنده محفوظ ، فلا يقع منهم حطم هذه الحيوانات ، إلا على سبيل السهو ، وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء وحفظ أصحابهم ، وفيه أن الرافضة الذي ينسبون الظلم وحطم الحقوق إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل بيته وعترته ، هم أقل وأضعف بأصحابه صلى الله عليه وسلم الظلم وشتان بينهما ، وقيل : إن المعنى والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها وهو بعيد جدا .


[1340]:لا نملك إلا أن نقول كما قال المصنف عن مثل هذا الكلام الذي هو "بلا إسناد صحيح متصل يعتمد عليه ويصار إليه" وسيأتي للمصنف مزيد. المطيعي.