قوله : «حَتَّى إذَا » في المُغَيَّا{[38480]} ب «حتى » وجهان :
أحدهما : هو «يُوزَعُونَ » ، لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا .
والثاني : أنه محذوف ، أي فساروا حتى{[38481]} وتقدم الكلام في حتى الداخلة على إذا ، هل هي حرف ابتداء أو حرف جر{[38482]} .
قوله : «عَلَى وَادِي » متعلق ب «أَتَوا » ، وإنما عدِّي ب «عَلَى » ، لأنَّ الواقع كذا ، لأنهم كانوا محمولين على الريح ، فهم مستعلون . وقيل : هو من قولهم : أتيت عليه ، أي استقصيته إلى آخره ، والمعنى أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره{[38483]} .
ووقف القراء كلهم على «وَادِ » دون ياء اتباعاً للرسم ، ولأنها محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين في الوصل ، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين ( نحو { جَابُواْ الصخر بالواد }{[38484]} [ الفجر : 9 ] فحذفها وقفاً ، وقد عهد حذفها دون التقاء الساكنين ){[38485]} ، فحذفها عند التقاء الساكنين أولى ، إلا الكسائي ، فإنه وقف بالياء ، قال : لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل ، وقد زال ، فعادت اللام ، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل{[38486]} .
والنَّملُ : اسم جنس معروف واحده نملةٌ ، ويقال : نُمْلَةٌ ونُمْلٌ بضم النون وسكون الميم ، ونُمُلَة ونُمُل بضمّهما{[38487]} ، ونَمْلَة بالفتح ، والضم بوزن سمرة ، ونَمُل بوزن رجل ، واشتقاقه من : التَّنمُّل ، لكثرة حركته ، ومنه قيل للواشي : المُنَمِّل ، يقال : أنْمَلَ بين القوم مُنْمِل ، أي : وشَى وَنَمَّ ، لكثرة تردده ، وحركته في ذلك{[38488]} ، قال :
3936 - وَلَسْتُ بِذِي نيرب فِيهِمُ *** وَلاَ مُنْمِشٍ منهم مُنْمِلِ{[38489]}
ويقال أيضاً : نَمِل يَنْمِلُ ، فهو نَمِلٌ ونَمَّالٌ ، وتَنَمَّلَ القومُ : تفرقوا للجميع تفرُّق النمل ، وفي المثل : «أجْمَعُ مِنْ نَمْلَةٍ »{[38490]} والنَّمْلةُ أيضاً : قرحةٌ تخرج في الجنب ، تشبيهاً بها في الهيئة ، والنملة أيضاً شقٌّ في الحافر ، ومنه : فرسٌ منمول القوائم ، والأنْمُلة : طرف الإصبع من ذلك ؛ لدقتها وسرعة حركتها ، والجمع : أنامل{[38491]} .
قال كعب : كان سليمان إذا سار{[38492]} بعسكره حملته الريح تهوي بهم{[38493]} فسار من اصطخر{[38494]} إلى اليمن ، فمرّ على مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي الله في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به ، وطوبى لمن اتبعه ، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله ، فلما جاوز سليمان البيت بكى{[38495]} فأوحى الله إلى البيت : ما يبكيك ؟ قال : يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا عليّ فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك ، فأوحى الله إليه ، لا تبك ، فإني سوف أملأك وجوهاً سجداً ، وأنزل فيك قرآناً جديداً ، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني ، وأفرض على عبادي فريضة يزفون{[38496]} إليك زفيف النسور إلى أوكارها ، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان ، ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف ، فأتى على وادي النمل ، هكذا قال كعب إنه واد بالطائف{[38497]} ، وقال مقاتل : إنه وادٍ بالشام كثير النمل{[38498]} ، وقيل وادٍ كان يسكنه الجن ، وأولئك النمل مراكبهم{[38499]} .
قوله : «قَالَتْ نَمْلَةٌ » هذه النملة هنا مؤنثة حقيقة ، بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها ، لأن نملة تطلق على الذكر وعلى الأنثى ، فإذا أريد تمييز ذلك قيل : نملة ذكر ، ونملة أنثى ، نحو : حَمامَة ويَمَامة . وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه وقف على قتادة وهو يقول : سلوني ، فأمر من سأله عن نملة سليمان : هل كانت ذكراً أو{[38500]} أنثى ، فلم يجب ، فقيل لأبي حنيفة في ذلك ، فقال : كانت أنثى ، واستدل بلحاق العلامة{[38501]} .
قال الزمخشري : وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها{[38502]} على المذكر والمؤنث{[38503]} ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وهو وهي{[38504]} ، انتهى .
وقد ردَّ هذا أبو حيان ، فقال : ولحاق التاء في «قالت » لا يدلّ على أن النملة مؤنثة ، بل يصح أن يقال في المذكر : قالت نملة ؛ لأن نملة وإن كانت بالتاء هو مما{[38505]} لا يتميز فيه المذكر من المؤنث ، وما كان كذلك كاليمامة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده تاء التأنيث من الحيوان ، فإنه يخبر عنه{[38506]} إخبار المؤنث ، ( ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث ){[38507]} على أنه ذكر أو أنثى ، لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي ، بل دالة على الواحد من هذا الجنس ، قال : وكان قتادة بصيراً بالعربية ، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذ علم أن النملة يخبر عنها إخبار المؤنث وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر{[38508]} إذ لا{[38509]} يتميز فيه أحد هذين ، ولحاق العلامة لا يدل ، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله ، قال : وإنما استنباط{[38510]} تأنيثه من كتاب الله{[38511]} ب «قالت »{[38512]} ، ولو كان ذكراً لقيل : «قال » فكلام النحاة على خلافه ، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبار المؤنث ، سواء كان ذكراً أم أنثى .
قال : وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة ، فبينهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن تقول{[38513]} : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى فتميزه بالصفة ، وأما تميزه ب{[38514]} «هو » و «هي » فإنه لا يجوز ، لا تقول هو الحمامة ، ولا هو الشاة ، وأما النملة والقملة فلا{[38515]} يتميز فيه{[38516]} المذكر من المؤنث ، ولا يجوز فيه{[38517]} في الإخبار إلا التأنيث وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو : المرأة ، أو{[38518]} غير العاقل كالدابة ، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك ، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها ، على ما تقرر في علم العربية{[38519]} . انتهى .
قال شهاب الدين : أما ما ذكره ففيه نظر ، من حيث{[38520]} إن التأنيث إما لفظي أو معنوي{[38521]} ، واللفظي{[38522]} لا يعتبر ( في لحاق العلامة ){[38523]} البتة ، بدليل أنه لا يجوز ( قامت رَبْعَةٌ وأنت تعني رجلاً ، وكذلك ){[38524]} لا يجوز : قامت طلحة ، ولا حمزة - على مذكر - فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي ، وإنما يعتبر لفظ التأنيث والتذكير في باب العدد على معنى خاص أيضًا ، وهو أنا ننظر{[38525]} إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث من غير نظر إلى مدلوله ، فهناك له هذا الاعتبار ، وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود وإنما نبهتك على{[38526]} القدر المحتاج إليه .
وأما قوله : وأما النملة والقملة فلا يتميَّز ، يعني لا يتوصَّلُ لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة ، فإن الإطلاع على ذلك{[38527]} ممكن ، فهو أيضاً ممنوع إذ{[38528]} قد يمكن الإطلاع على ( ذلك ، وأن الإطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الإطلاع على ){[38529]} ذكورية النملة والقملة ، ومنعه أيضاً أن يقال هو الشاة وهو الحمامة ممنوع{[38530]} .
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر{[38531]} بن سليمان : «النّمُلُ » و «نَمُلَة » بضم الميم وفتح النون{[38532]} بزنة{[38533]} رجل وسمرة ، وسليمان التيمي{[38534]} بضمتين فيهما{[38535]} ، وتقدم أن ذلك لغات في الواحد والجمع . قوله «لاَ يَحْطِمَنَّكُم » ، فيه وجهان :
والثاني : أنه جواب للأمر{[38536]} .
أحدهما : أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب ، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ ، وفي المعنى للنمل ، أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم ، كقولهم : لا أَرَينَّك ههُنَا{[38537]} .
والثاني : أنه بدل من جملة الأمر قبله ، وهو «ادْخُلُوا » ، وقد تعرض الزمخشري لذلك{[38538]} ، فقال{[38539]} : فإن قلت : لا يحطمنكم ما هو ؟ قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر ، والذي جوَّز أن يكون بدلاً منه أنه{[38540]} في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم{[38541]} ، على طريقة : لاَ أَرَيَنَّكَ ههُنَا ، أرادت : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاءت بما هو أبلغ ، ونحوه{[38542]} :
3937 - عَجِبْتُ مِن نَفْسِي وَمِنْ إشْفَاقِهَا{[38543]} *** . . .
قال أبو حيان : أما تخريجه على أنه جواب الأمر ، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش ، فإنه مجزوم مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نهي{[38544]} يعني أن الأعمش قرأ : «لاَ يَحْطِمْكُمْ » بجزم الميم دون نون توكيد ، قال : وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا إن كان في شعر ، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا يجوز في جواب الأمر إلا في الشعر ، وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو . ومثال مجيء النون في جواب الشرط قوله الشاعر :
3938 - نَبَتُّمْ نَبَاتَ{[38545]} الخَيْزُرَانَةِ{[38546]} في الثَّرَى{[38547]} *** حَدِيثاً مَتَى مَا يَأْتِكَ الخَيْرُ يَنْفَعَا{[38548]}
3939 - فَمَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تُعْطِكُمْ *** ومَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تَمْنَعَا{[38549]}
قال سيبويه : وهو قليل في الشعر شبهوهُ بالنهي حيث كان مجزوماً غير واجب{[38550]} ، قال : وأما تخريجه على البدل فلا يجوز ، لأن مدلول «لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ » مخالف لمدلول «ادخُلُوا » ، وأما قوله : لأنه بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم{[38551]} ، فتفسير معنى لا إعراب ، والبدل من صفة الألفاظ ، نعم لو كان اللفظ القرآني : لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم ، لتُخُيِّل فيه البدل ، لأن الأمر بدخول المساكن نهي عن كونهم بظاهر الأرض .
وأما قوله : إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره ، فيسوغ زيادة الأسماء ، وهو{[38552]} لا يجوز ، بل الظاهر إسناد الحطم{[38553]} إلى جنوده ، وهو على حذف مضاف ، أي : خيل سليمان وجنوده ، أو نحو ذلك مما يصح تقديره{[38554]} ، انتهى .
أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون ، فقد سبقه إليه أبو البقاء ، فقال : وهو ضعيف ، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار{[38555]} . وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى . وأما قوله : فيسوغ زيادة الأسماء فهو{[38556]} لم يسوغ ذلك ، وإنما فسر المعنى - وعلى تقدير ذلك - فقد قيل به شائعاً{[38557]} . وجاء الخطاب في قولها «ادخلوا » كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم{[38558]} . وقرأ أُبَيّ : { ادْخُلْنَ مَساكِنَكُنَّ لاَ يَحْطمنَّكُن }{[38559]} - بالنون الخفيفة - جاء به على الأصل . وقرأ شهر به حوشب{[38560]} : «مَسْكَنَكم » بالإفراد{[38561]} وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء والنون مضارع حطمه بالتشديد{[38562]} . وقرأ الحسن أيضاً قراءتان : فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها{[38563]} والأصل : يَحطمَنَّكُمْ ، فأدغم وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في «لا يَهدِّي »{[38564]} ونحوه ، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد{[38565]} . والحطم : الكسرُ ، يقال منه : حطمتهُ ، ثم استعمل لكل كسر معناه ، والحطام : ما تكسر يبساً{[38566]} وغلب على الأشياء التافهة ، والحُطَم : السائق السريع ، كأنه يحطم الإبل{[38567]} ، قال :
3940 - قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسواقٍ حُطَمْ *** لَيْسَ برَاعِي إبِلٍ وَلاَ غَنَمْ
ولا بِجَزَّارٍ ظَهْرٍ وَضَمْ{[38568]} *** . . .
والحُطَمَة : من دركات النار ، ورجل حُطَمَةٌ للأكول{[38569]} ، تشبيهاً لبطنه بالنار{[38570]} ، كقوله :
3941 - كَأَنَّمَا فَي جَوْفِهِ تَنُّورُ{[38571]} *** . . .
وقوله : «وهُمْ لا يشعُرُونَ » جملة حالية{[38572]} .
قال الشعبي : كانت تلك النملة ذات جناحين{[38573]} ، فنادت { يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } ، ولم تقل : ادخلن ، لأنها لما جعلت لهم قولاً كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين{[38574]} ، «لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ » لا يكسرنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ، فسمع{[38575]} سليمان قولها ، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان . فإن قيل : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده ، وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض ؟ قيل : كانت جنوده ركباناً وفيهم مشاة على الأرض تطوى بهم ، وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان .
وقال المفسرون : علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا{[38576]} ظلم ، ومعنى الآية : أنكم لو لم تدخلوا مساكنكم وطئوكم ولم يشعروا بكم ، وروي أن سليمان لما دخل{[38577]} وادي النمل حبس جنده ، حتى دخل النمل بيوتهم{[38578]} . قال أهل المعاني : في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة : نادت ، ونبّهت ، وسمت ، وأمرت ، ونصت ، وحذرت ، وخصت ، وعمت ، وأشارت ، وأعذرت{[38579]} ، ووجهه : نادت : «يا » نبهت : «ها »{[38580]} سمت : «النمل » ، أمرت «ادخلوا » ، نصت : «مساكنكم » ، حذرت : «لا يحطمنكم » ، خصت : «سليمان » ، عمت و{[38581]} «جنوده » ، أشارت : «وَهُمْ » ، أعذرت : «لا يشعرون » .