الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (18)

قيل : هو واد بالشام كثير النمل .

فإن قلت : لم عدّي { أَتَوْا } بعلى ؟ قلت : يتوجه على معنيين أحدهما ؛ أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء ، كما قال أبو الطيب :

وَلَشُدَّ مَا قَرُبَتْ عَلَيْكَ الأَنْجُمُ ***

لما كان قرباً من فوق . والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره ، من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم . وقرئ «نُمُلة يا أيها النمل » ، بضم الميم وبضم النون والميم ، وكان الأصل : النمل ، بوزن الرجل ، والنمل الذي عليه الاستعمال : تخفيف عنه ، كقولهم : «السبع » في السبع . قيل : كانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس ، فنادت : { يا أيها النمل } : الآية ، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال . وقيل : كان اسمها طاخية . وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً - وهو غلام حدث - . فقال : سلوه عن نملة سليمان ، أكانت ذكراً أم أنثى ؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : من أين عرفت ؟ قال : من كتاب الله ، وهو قوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ } ولو كانت ذكراً لقال : قال نملة . وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى ، وهو وهي . وقرىء : «مسكنكم ولا يحطمنكم » بتخفيف النون ، وقرىء : «لا يحطمنكم » بفتح الحاء وكسرها . وأصله : يحتطمنكم . ولما جعلها قائلة والنمل مقولاً لهم كما يكون في أولي العقل : أجرى خطابهم مجرى خطابهم . فإن قتل : لا يحطمنكم ما هو ؟ قلت : يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر ، والذي جوّز أن يكون بدلاً منه : أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لا أرينك ههنا ، أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ ، ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها .