قوله تعالى : { له معقبات } ، أي : لله تعالى ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار ، فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النهار جاء في عقبها ملائكة الليل . والتعقيب : العود بعد البدء ، وإنما ذكر بلفظ التأنيث لأن واحدها معقب ، وجمعه معقبة ، ثم جمع الجمع معقبات ، كما قيل : ابناوات سعد ورجالات بكر .
أخرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصالة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم - : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون " . قوله تعالى : { من بين يديه ومن خلفه } ، يعني : من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ، ومن خلفه : من وراء ظهره ، { يحفظونه من أمر الله } ، يعني : بأمر الله ، أي : يحفظونه بإذن الله تعالى ما لم يجيء المقدور ، فإذا جاء المقدور خلوا عنه . وقيل : يحفظونه من أمر الله : أي مما أمر الله به من الحفظ عنه . قال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك موكل به ، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال وراءك ! إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه . قال كعب الأحبار : لولا أن الله عز وجل وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفكم الجن . وقال عكرمة : الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونه من بين أيديهم ومن خلفهم . وقيل : الآية في الملكين القاعدين عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات ، كما قال الله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق-17 ] . قال ابن جريج : معنى يحفظونه أي : يحفظون عليه أعماله من أمر الله ، يعني : الحسنات والسيئات .
وقيل : الهاء في قوله { له } : راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى جؤيبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : له معقبات يعني لمحمد صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ، يعني : من شر الجن وطوارق الليل والنهار .
وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت هذه الآيات في عامر بن الطفيل ، وأربد بن ربيعة ، وكانت قصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ، وهما عامريان ، يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه ، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور وكان من أجل الناس . فقال رجل : يا رسول الله ، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك ، فقال : دعه فإن يرد الله به خيرا يهده . فأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد مالي إن أسلمت ؟ قال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين . قال : تجعل لي الأمر بعدك . قال : ليس ذلك إلي ، إنما ذلك إلى الله عز وجل ، يجعله حيث يشاء . قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر ، قال : لا . قال : فلماذا تجعل لي ؟ . قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها . قال : أو ليس ذلك إلى اليوم ؟ قم معي أكلمك . فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف ، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار أربد من خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه بالسيف ، فاخترط من سيفه شبرا ، ثم حبسه الله تعالى عنه ، فلم يقدر على سله ، وجعل عامر يومئ إليه ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما صنع بسيفه ، فقال : اللهم أكفنيهما بما شئت . فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته ، وولى عامر هاربا وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يمنعك الله تعالى من ذلك ، وأبناء قيلة ، يريد : الأوس والخزرج .
فنزل عامر بيت امرأة سلولية ، فلما أصبح ضم عليه سلاحه وقد تغير لونه ، فجعل يركض في الصحراء ، ويقول : ابرز يا ملك الموت ، ويقول الشعر ، ويقول واللات والعزى لئن أبصرت محمدا وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي ، فأرسل الله إليه ملكا فلطمه بجناحه فأرداه في التراب وخرجت على ركبتيه في الوقت غدة عظيمة ، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية . ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل عامر بن الطفيل بالطعن وأربد بالصاعقة ، وأنزل الله عز وجل في هذه القصة قوله : " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه " ، يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله . يعني تلك المعقبات من أمر الله ، وفيه تقديم وتأخير . وقال لهذين : { إن الله لا يغير ما بقوم } ، من العافية والنعمة ، { حتى يغيروا ما بأنفسهم } . من الحال الجميلة فيعصوا ربهم . { وإذا أراد الله بقوم سوءاً } ، أي : عذابا وهلاكا { فلا مرد له } أي : لا راد له { وما لهم من دونه من وال } ، أي : ملجأ يلجؤون إليه . وقيل : وال يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر رعايته لعباده فقال - تعالى - { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ اللَّهَ . . . } .
والضمير في { له } يعود إلى { من } في قوله { مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل } باعتبار تأويله بالمذكور .
و " معقبات " صفة لموصوف محذوف أى : ملائكة معقبات .
قال الشوكانى : " والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه . وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين . قال الزجاج : المعقبات ملائكة يأتى بعضهم بعقب بعض ، وإنما قال " معقبات " مع كون الملائكة ذكوراً ؛ لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة ، ثم جمع معقبة على معقبات .
قال الجوهرى : والتعقيب العود بعد البدء قال الله - تعالى - { ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } يقال : عقب الفرس في عدوه ، أى : جرى بعد جريه . وعقبه تعقيبا . أى : جاء عقبة و " من " في قوله { مِنْ أَمْرِ الله } بمعنى باء السببية .
والمعنى : لكل واحد من هؤلاء المذكورين ممن يسرون القول أو يجهرون به ، ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار ويحيطون به من جميع جوانبه لحفظه ورعايته ، ولكتابة أقواله وأعماله ، وهذا التعقيب والحفظ ، إنما هو بسبب أمر الله - تعالى - لهم بذلك .
قال ابن كثير : وفى الحديث الصحيح : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم - سبحانه - وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادى ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون " .
وفى الحديث الآخر : " إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحويهم وأكرموهم " أى : فاستحيوا منهم وأكرموهم بالتستر وغيره .
وقال عكرمة عن ابن عباس " يحفظونه من أمر الله ، قال ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه " .
ثم ساق - سبحانه - سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } .
أى : إن الله - تعالى - قد اقتضت سنته ، أنه - سبحانه - لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وخير بضده ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة إلى معصية ؛ ومن جميل إلى قبيح ، ومن صلاح إلى فساد .
وإذا أراد - سبحانه - بقوم سوءا من عذاب أو هلاك ما يشبهها بسبب إيثارهم الغى على الرشد ، فلا راد لقضائه ، ولا دافع لعذابه .
وما لهم من دونه - سبحانه - من وال أى من ناصر ينصرهم منه - سبحانه - ويرفع عنهم عقابه ، ويلى أمورهم ويلتجئون إليه عند الشدائد .
فالجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر عدل الله في شئون عباده ، وتحذير شديد لهم من الإِصرار على الشرك والمعاصى وجحود النعمة ، فإنه - سبحانه - لا يعصم الناس من عذابه عاصم . ولا يدفعه دافع .
قال الإِمام ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : أوحى الله إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله ، فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا تحول الله لهم لهم مما يحبون إلى ما يكرهون .
ثم قال : إن مصداق ذلك في كتاب الله { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .
وعن عمير بن عبد الملك قال : خطبنا على بن أبى طالب على منبر الكوفة فقال : كنت إذا سكت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدأنى ، وإذا سألته عن الخبر أنبأنى ، وإنه حدثنى عن ربه - عز وجل - قال : " قال الرب : وعزتى وجلالى وارتفاعى فوق عرشى ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتى ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتى ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابى إلى ما يحبون من رحمتى " .
( له معقبات من بين يديه ومن خلفه - يحفظونه - من أمر الله ) . .
والحفظة التي تتعقب كل إنسان ، وتحفظ كل شاردة وكل واردة وكل خاطرة وكل خالجة ، والتي هي من أمر الله ، لا يتعرض لها السياق هنا بوصف ولا تعريف . أكثر من أنها . ( من أمر الله ) . . فلا نتعرض نحن لها : ما هي ? وما صفاتها ? وكيف تتعقب ? وأين تكون ? ولا نذهب بجو الخفاء والرهبة والتعقب الذي يسبغه السياق . فذلك هو المقصود هنا ؛ وقد جاء التعبير بقدره ؛ ولم يجيء هكذا جزافا ؛ وكل من له ذوق بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذا الجو الغامض بالكشف والتفصيل !
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . .
فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم . فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى ، ولا يغير عزا أو ذلة ، ولا يغير مكانة أو مهانة . . . إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم . وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون . ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم ، ويجيء لاحقا له في الزمان بالقياس إليهم .
وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة ؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته ، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر ؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم . والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل . وهو يحمل كذلك - إلى جانب التبعة - دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله ، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه .
وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء ؛ لأنهم - حسب المفهوم من الآية - غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء :
( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) . .
يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة . وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم ، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم - إذا استحقوه بما في أنفسهم - ولا يعصمهم منه وال يناصرهم . .
وقوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أي : للعبد ملائكة يتعاقبون عليه ، حَرَس بالليل وحَرَس بالنهار ، يحفظونه من الأسواء{[15470]} والحادثات ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين و[ عن ]{[15471]} الشمال يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحدا{[15472]} من ورائه وآخر من قدامه ، فهو بين أربعة أملاك بالنهار ، وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان وكاتبان ، كما جاء في الصحيح : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم :
كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون " {[15473]} وفي الحديث الآخر : " إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحيوهم وأكرموهم " {[15474]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } والمعقبات من أمر الله ، وهي الملائكة .
وقال عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خَلَّوا عنه .
وقال مجاهد : ما من عبد إلا له{[15475]} مَلَك موكل ، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال الملك : وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه .
وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } قال : ذلك{[15476]} ملك من ملوك الدنيا ، له حرس من دونه حرس .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعني : ولي الشيطان ، يكون عليه الحرس . وقال عِكْرِمة في تفسيرها : هؤلاء الأمراء : المواكب من بين يديه ومن خلفه .
وقال الضحاك : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال : هو السلطان{[15477]} المحترس{[15478]} من أمر الله ، وهم أهل الشرك .
والظاهر ، والله أعلم ، أن مُرَاد ابن عباس وعِكْرِمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبيد{[15479]} يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم .
وقد روى الإمام أبو جعفر ابن جرير هاهنا حديثًا غريبا جدا فقال :
حدثني المثنى ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري ، حدثنا علي بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العبد ، كم معه من ملك{[15480]} ؟ فقال : " ملك على يمينك على حسناتك ، وهو آمر{[15481]} على الذي على الشمال ، إذا عملت حسنة كتبت عشرا ، فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : اكتب ؟ قال : لا لعله يستغفر الله ويتوب . فإذا قال ثلاثا قال :
نعم ، اكتب أراحنا الله منه ، فبئس القرين . ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا " . يقول الله : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وملك قائم على فيك لا يَدَع الحية أن تدخل في فيك ، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي{[15482]} ينزلون{[15483]} ملائكة الليل على ملائكة النهار ؛ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل " {[15484]} .
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا سفيان ، حدثني منصور ، عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة " . قالوا : وإياك يا رسول الله ، قال : " وإياي ، ولكن أعانني الله عليه{[15485]} فلا يأمرني إلا بخير " .
انفرد بإخراجه مسلم{[15486]} .
وقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قيل : المراد حفظُهم له من أمر الله . رواه علي بن أبي طلحة ، وغيره ، عن ابن عباس . وإليه ذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغيرهم .
وقال قتادة : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال : وفي بعض القراءات : " يحفظونه بأمر الله " .
وقال كعب الأحبار : لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن ، لرأى كل شيء من ذلك شياطين{[15487]} لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم ، إذا لتُخُطّفتم .
وقال أبو أمامة{[15488]} ما من آدمي إلا ومعه ملك يَذُود عنه ، حتى يسلمه للذي قدر له .
وقال أبو مِجْلَز : جاء رجل من مُرَاد إلى علي ، رضي الله عنه ، وهو يصلي ، فقال : احترس ، فإن ناسًا من مراد يريدون قتلك . فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر ، فإذا جاء القَدَرُ خَليا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حَصِينة{[15489]} . وقال بعضهم : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } بأمر الله ، كما جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله ، أرأيت رُقَى نسترقي بها ، هل ترد من قَدَر الله شيئا ؟ فقال : " هي من قَدَر الله " {[15490]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن جَهْم ، عن إبراهيم قال : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : أن قل لقومك : إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون ، ثم قال : إن مصداق{[15491]} ذلك في كتاب الله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه " صفة العرش " : حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي ، حدثنا أبو حنيفة اليمامي{[15492]} الأنصاري ، عن عمير بن عبد الله{[15493]} قال : خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة ، قال : كنت إذا سكتُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني ، وإذا سألته عن الخبر أنبأني ، وإنه حدثني عن ربه ، عز وجل ، قال : " قال الرب : وعزتي وجلالي ، وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهتُ من معصيتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي " {[15494]} .
اختلف المتأولون في غير عود الضمير من { له } : فقالت فرقة : هو عائد على اسم الله عز وجل المتقدم ذكره ، و «المعقبات » - على هذا الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم ، والحفظة لهم أيضاً - قاله الحسن ، وروى فيه عثمان بن عفان حديثاً{[6921]} عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول مجاهد والنخعي - والضمير على هذا في قوله : { يديه } وما بعده من الضمائر عائد على العبد المذكور في قوله : { من هو مستخف } [ الرعد : 10 ] و { من أمر الله } يحتمل أن يكون صفة ل { معقبات } ويحتمل أن يكون المعنى : يحفظونه من كل ما جرى القدر باندفاعه ، فإذا جاء المقدور الواقع أسلم المرء إليه .
وقال ابن عباس أيضاً{[6922]} : الضمير في { له } عائد على المذكور في قوله { من هو مستخف بالليل } [ الرعد : 10 ] وكذلك باقي الضمائر التي في الآية ، قالوا{[6923]} : و { معقبات } - على هذا - حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه{[6924]} ، قالوا : والآية - على هذا - في الرؤساء الكافرين ، واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة وجماعة ، قال عكرمة : هي المواكب خلفه وأمامه .
قال القاضي أبو محمد : ويصح على التأويل الأول الذي قبل هذا أن يكون الضمير في { له } للعبد المؤمن على معنى جعل الله له .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل عندي أقوى{[6925]} ، لأن غرض الآية إنما هو التنبيه على قدرة الله تعالى ، فذكر استواء { من هو مستخف } [ الرعد : 10 ] ومن هو { سارب } [ الرعد : 10 ] وأن { له معقبات } من الله تحفظه في كل حال ، ثم ذكر أن الله تعالى لا يغير هذه الحالة من الحفظ للعبد حتى يغير ما بنفسه .
قال القاضي أبو محمد : وعلى كلا التأويلين ليست الضمائر لمعين من البشر .
وقال عبد الرحمن بن زيد : الآية في النبي عليه السلام ، ونزلت في حفظ الله له من أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل في القصة التي ستأتي بعد هذا في ذكر الصواعق .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية وإن كانت بألفاظها تنطبق على معنى القصة فيضعف القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتقدم له ذكر فيعود الضمير في { له } عليه .
و «المعقبات » : الجماعات التي يعقب بعضها بعضاً ، فعلى التأويل الأول هي الملائكة ، وينظر هذا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة المغرب والصبح »{[6926]} ، وعلى التأويل الثاني : هي الحرس والوزعة الذين للملوك .
و { معقبات } جمع معقبة وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، والتعقيب - بالجملة - أن تكون حال تعقبها حال أخرى من نوعها ، وقد تكون من غير النوع ، ومنه معاقبة الركوب ومعاقبة الجاني ومعقب عقبة القدر والمعاقبة في الأزواج ، ومنه قول سلامة بن جندل : [ البسيط ]
وكرّنا الخيل في آثارهم رجعاً***كسر السنابك من بدء وتعقيب{[6927]}
وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر : «له معاقيب » قال أبو الفتح : هو تكسير معقب .
قال القاضي أبو محمد : بسكون العين وكسر القاف كمطعم ومطاعيم ، ومقدم ومقاديم .
وهي قراءة أبي البرهسم - فكأن معقباً جمع على معاقبة ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء المحذوفة في معاقبة ، والمعقبة ليست جمع معقب - كما ذكر ذلك الطبري وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر لأن تلك كجمل وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضاربة وضاربات{[6928]} .
وفي قراءة أبيّ بن كعب «من بين يديه ورقيب من خلفه » ، وقرأ ابن عباس : «ورقباء من خلفه » ، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ : «معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله » .
وقوله : { يحفظونه } يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون بمعنى يحرسونه ، ويذبون عنه : فالضمير محمول ليحفظ .
والمعنى الثاني أن يكون بمعنى حفظ الأقوال وتحصيلها ، ففي اللفظة حينئذ حذف مضاف تقديره : يحفظون أعماله ، ويكون هذا حينئذ من باب { واسأل القرية }{[6929]} [ يوسف : 82 ] وهذا قول ابن جريج .
وقوله : { من أمر الله } من جعل { يحفظونه } بمعنى يحرسونه كان معنى قوله : { من أمر الله } يراد به «المعقبات » ، فيكون في الآية تقديم وتأخير ، أي «له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ، ومن خلفه » قال أبو الفتح : ف { من أمر الله } في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع وهي «المعقبات » .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل هذا التأويل في قوله : { من أمر الله } مع التأويل الأول في { يحفظونه } .
ومن تأول الضمير في { له } عائد على العبد ، وجعل «المعقبات » الحرس ، وجعل الآية في رؤساء الكافرين - جعل قوله { من أمر الله } بمعنى يحفظونه بزعمه من قدر الله ، ويدفعونه في ظنه ، عنه ، ذلك لجهالته بالله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وبهذا التأويل جعلها المتأول في الكافرين . قال أبو الفتح : ف { من أمر الله } على هذا في موضع نصب ، كقولك حفظت زيداً من الأسد ، فمن الأسد معمول لحفظت وقال قتادة : معنى { من أمر الله } : بأمر الله ، أي يحفظونه مما أمر الله ، وهذا تحكم في التأويل ، وقال قوم : المعنى الحفظ من أمر الله ، وقد تقدم نحو هذا .
وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وعكرمة وجعفر بن محمد : «يحفظونه بأمر الله »{[6930]} .
ثم أخبر تعالى أنه لا يغير ما بقوم - بأن يعذبهم ويمتحنهم معاقباً - حتى يقع منهم تكسب للمعاصي وتغيير ما أمروا به من طاعة .
وهذا موضع تأمل لأنه يداخل هذا الخبر ما قررت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ، ومنه قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }{[6931]} [ الأنفال : 25 ] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم - وقد قيل له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ - قال : «نعم إذا كثر الخبث »{[6932]} إلى أشياء كثيرة من هذا .
فقوله تعالى في هذه الآية : { لا يغير ما بقوم حتى يغيروا } معناه حتى يقع تغيير إما منهم وإما من الناظر إليهم أو ممن هو منهم بسبب ، كما غير الله تعالى بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة .
فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير ، وثم أيضاً مصائب يريد الله بها أجر المصائب فتلك ليست تغييراً .
ثم أخبر تعالى أنه { إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له } ولا حفظ منه ، وهذا جرى في طريقة التنبيه على قدرة الله تعالى وإحاطته ، والسوء والخير بمنزلة واحدة في أنهما إذا أرادهما الله بعبد لم يردا ، لكنه خص السوء بالذكر ليكون في الآية تخويف ، واختلف القراء في - وال - فأماله بعضهم ولم يمله بعضهم ، والوالي الذي يلي أمر الإنسان كالولي هما من الولاية كعليم وعالم من العلم .