ثم قال تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه } – الآية [ 11 ] : قيل المعنى ( الله عز وجل ){[35802]} معقبات ، وهي الملائكة/ تتعاقب على ابن آدم بالليل والنهار{[35803]} .
فالهاء في ( له ) لله{[35804]} ، والهاء في ( يديه ) ( و ) خلفه : للمستخفي بالليل ، والسارب بالنهار .
وقيل : الهاء في ( له ) تعود على ( من ) وهو المستخفي . ومعنى : من خلفه : ( من وراء ظهره ){[35805]} .
وروي أن عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله{[35806]} ! أخبرني عن العبد كم معه ملكا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ملك على يمينك على{[35807]} حسناتك ، وهو أمين على الذي على شمالك . فإذا فعلت حسنة كتب عشرا . ( و ){[35808]} إذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : اكتب ، فيقول له : لعله يستغفر الله ، ويتوب . فإذا لم يتب{[35809]} منها ، قال : نعم اكتب أراحنا الله منه ، فبئس القرين .
ما أقل مراقبته لله عز وجل{[35810]} ، وأقل استحياء ! يقول الله ( تعالى ){[35811]} :
{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }{[35812]} ، وملكان من بين يديك ، ومن خلفك . يقول الله تعالى{[35813]} : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله }[ 11 ] وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك{[35814]} ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان{[35815]} على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي ( محمد ){[35816]} صلى الله عليه وسلم . وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك ، وملكان على عينيك{[35817]} : فهؤلاء عشرة أملاك ، على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار ، لأن ملائكة الليل ينيبون{[35818]} ملائكة النهار . فهؤلاء عشرون ملك[ ا ] على كل آدمي ، وإبليس بالنهار ، وولده بالليل{[35819]} .
وروي أنهم يجتمعون عند صلاة العصر ، وصلاة الصبح{[35820]} .
وعن ابن عباس ، وعكرمة : أن المعقبات ( هنا ){[35821]} : الحرس الذين يتعاقبون على الأمراء من بين أيديهم ومن خلفهم{[35822]} .
قال الضحاك : هو السلطان يتحرس{[35823]} من الله ( سبحانه ){[35824]} .
وقال عكرمة : هي المواكب بين يدي الأمراء وخلفهم{[35825]} .
فتكون الهاء في ( له ) على هذا التأويل ( لمن ) . وهو المستخفي بالليل ، والسارب{[35826]} بالنهار . فوصفه الله ( عز وجل ){[35827]} ، أنه قد جعل لنفسه حرسا يحفظونه من حدوث أمر الله به ، لجهله بالله ( سبحانه ){[35828]} . وإن ذلك لا يرد عنه شيئا . وهذا القول اختيار الطبري{[35829]} : أن تكون المعقبات الحرس ، والأعوان مع الأمراء ، لأن ( له ) أقرب من ذكر المستخفي منه من ذكر الكبير المتعال . ويدل{[35830]} على صحة هذا المعنى قوله بعد ذلك : { وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له }{[35831]}[ 11 ] : أي : ليس ينفع هذا المذكور حرسه ، وتعاقبهم عليه ، ولا يرد ذلك عنه أمر الله ( سبحانه ){[35832]} . وقدره إذا أتاه . فالمعنى على هذا : أن الله عز وجل{[35833]} ، ذكر أن{[35834]} أهل معصيته يستخفون بالمعاصي بالليل ، ويظهرون بالنهار{[35835]} ، ويتمنعون عند أنفسهم بالحرس ، تحرسهم ، وتتعاقب عليهم .
ثم أخبرنا تعالى جل ذكره ، أنه إذا / أراد بهم سوءا ، وعقوبة لم ينفعهم حرسهم شيئا{[35836]} .
واختار النحاس القول الأول{[35837]} ، وهو أن يكون ( المعقبات ) : ( الملائكة ){[35838]} على ما تقدم ذكره{[35839]} ، واحتج فيه ( بما ){[35840]} رواه أبو هريرة من حديث مالك بن أنس رضي الله عنه{[35841]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لله ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار " {[35842]} الحديث .
ومن جعل ( المعقبات ) ملائكة كان قوله من أمر الله على وجهين :
أحدهما : أن تكون ( من ) بمعنى الباء{[35843]} ، أي : يحفظونه بأمر الله لهم أن يحفظوه حتى يأتيه ما قدر عليه ، فلا ينفع{[35844]} حفظهم إياه من قدر الله ( سبحانه ){[35845]} إذا جاءهم ( وهو ) قول ابن جبير{[35846]} .
والثاني : أن يكون المعنى له معقبات من أمر الله : من بين يديه ومن خلفه ، أي : المعقبات { من أمر الله }[ 11 ]{[35847]} هي{[35848]} : { يديه }{[35849]}[ 11 ] ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جريج{[35850]} . فتكون ( من ) متعلقة ( بمعقبات ) ، وهي لبيان{[35851]} الجنس . وعلى القول الأول : ( من ) بمعنى الياء ، وهي متعلقة ب( يحفظونه ) : أي : حفظهم له بأمر الله كان ، وإنما يحفظونه مما لم يقدر عليه .
وقيل : أمر الله هنا : الجن{[35852]} ، أي : يحفظونه من الجن . فتكون ( من ) على بابها متعلقة بالحفظ{[35853]} .
ومن جعل ( المعقبات ) حرس الملوك ، وأعوانهم ، كانت ( من ) على بابها متعلقة ب( يحفظونه ) . والمعنى : { يحفظونه }{[35854]}[ 11 ] من قدر الله على قولهم ، وظنهم ، ولا{[35855]} ينفع ذلك لأن الله إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له{[35856]} .
قال{[35857]} مجاهد : ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته{[35858]} من الجن والإنس والهوام . فما يأتيه منها شيء إلا قال له : وراءك{[35859]} .
وقال ابن جريج : معنى من أمر الله : أي : يحفظون عليه عمله ، وتقديره{[35860]} : له ملائكة تتعاقب عليه من أمر الله{[35861]} ، هي : تحفظ{[35862]} عمله عليه . فحذف العمل ، واتصل{[35863]} المضاف إليه ( ب ){[35864]}يحفظونه{[35865]} مثل : { واسأل القرية التي }{[35866]} ، ومثل { وهو واقع بهم }{[35867]} : أي : وعقابه واقع بهم ، فحذف العقاب ، وقامت الهاء مقامه ، فقام{[35868]} ضمير مرفوع ، لأن المحذوف مرفوعا كان .
وقال الحسن : المعنى : يحفظونه عن{[35869]} أمر الله{[35870]} ، ( فمن ) بمعنى : ( عن ) ، والمعنى : حفظهم إياه عن أمر الله{[35871]} ، كان ، لا من عند أنفسهم{[35872]} .
ثم قال تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } إلى قوله { وال }[ 11 ] : الهاء في قوله : { فلا مرد له } تعود على السوء ، وقيل : على الفرد ، وقيل : تعود على الله . أي لا مرد{[35873]} ( لله سبحانه : أي : لا راد{[35874]} له عن مراده . والمعنى{[35875]} : إن الله ، ( عز وجل ){[35876]} لا يغير ما بإنسان من نقمة ، وكراهة{[35877]} ابتدأه{[35878]} بها ، حتى يغير ما بنفسه من ظلمه{[35879]} ، وتعديه ، وتكره ما{[35880]} أمر به . فإذا غير وقعت به العقوبة{[35881]} .
وقيل : المعنى : أن الله لا يغير ما بقوم مؤمنين صالحين ، فيسميهم كافرين إلا أن يفعلوا ما ي( و ){[35882]}جب ذلك .
ويروى أن هذه الآيات { سوءا فلا } – وما بعده – نزَلن في عامر بن الطفيل{[35883]} ، وأربد{[35884]} بن قيس{[35885]} ، وذلك أن وفد بني عامر/ قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيهم عامر ( بن الطفيل ){[35886]} ، وأربد بن قيس . وكان في نفس عامر الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان من رؤساء{[35887]} قومه فقال عامر لأربد : إذا قدمنا على الرجل ، فإني شاغل عنك وجهه . فإذا فعلت ذلك فَاعْلُهُ بالسيف . فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم{[35888]} ، قال عامر : يا محمد خالني ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا والله حتى تؤمن بالله وحد لا شريك له " ، فكرر عامر على النبي ذلك ، والنبي يقول له : " حتى تؤمن{[35889]} بالله وحده لا ( شريك ){[35890]} له " ، وعامر ينتظر من أربد ما كان أمر به ، وجعل أربد لا يجيز{[35891]} شيئا . فلما رأى عامر أربد لا يفعل شيئا ، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخاليه ، قال{[35892]} : ( النبي ){[35893]} عليه السلام : " والله{[35894]} لأملأنها عليك خيلا ورجلا ، فلما ولى ( من عند ){[35895]} النبي صلى الله عليه وسلم{[35896]} . قال عامر لأربد : ويلك يا أربد ! أين ما{[35897]} كنت أمرتك به{[35898]} . والله ما كان على وجه{[35899]} الأرض رجل أخوف عندي منك على نفسي منك : وأيم الله ( لا أخافك بعد اليوم أبدا . قال له أربد : ويلك لا تعجل علي وأيم الله ){[35900]} ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبينه حتى ما أرى غيرك ، فأضربك بالسيف . فخرجوا راجعين{[35901]} إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ( عز وجل ){[35902]} على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه{[35903]} ، فمات في بيت امرأة من بني سلول ، فجعل يقول : يا بني عامر ! غدة كغدة{[35904]} البعير ، وموتا{[35905]} في بيت امرأة من بني سلول ، ثم خرج أصحابه بعده حتى قدموا أرض بني عامر ، فأتاهم قومهم ، فقالوا : ما وراءك يا أربد{[35906]} ؟ قال{[35907]} : لا ( شيء ){[35908]} لله ! لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء ، لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله{[35909]} ، فخرج أربد بعد مقالته{[35910]} هذه بيوم ، أو يومين معه جمل له{[35911]} يبيعه ، فأرسل الله ( عز وجل ){[35912]} عليه صاعقة ، فأحرقته وجمله{[35913]} .