اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ} (11)

قوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } الضمير فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه عائد على " مِنْ " المكررة ، أي : لمن أسرّ القول ، ولمن جهر به ولمن استخفى : " مُعَقباتٌ " ، أي : جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً .

الثاني : أنه يعود على " مِنْ " الأخيرة ، وهو قول ابن عبَّاسٍ .

قال ابن عطية : والمعقبات على هذا : حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قالوا : والآية على هذا في الرؤساء الكفار ، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ المارودي ذكر على هذا التأويل : أنَّ الكلام نفي ، والتقدير : لا يحفظونه ، وهذا ينبغي ألاّ يسمع ألبتة ، كيف يبرز كلام موجب ، ويراد به نفي ، وحذف " لا " إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً في جواب قسم ، نحو { تَالله تَفْتَأُ } [ يوسف : 85 ] وقد تقدَّم تحريره وإنّضما معنى الكلام كما قال المهدويُّ : يحفظونه من أمر الله في ظنه ، وزعمه .

الثالث : أن الضمير في " لهُ " يعود على الله تعالى وفي " يَحْفظُونَهُ " للبعد أي : للهِ ملائكة يحفظون العبد من الآفات ، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن رضي الله عنه .

الرابع : عود الضميرين على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب ، ولتقدُّم ما يشعر به في قوله : " لوْلاَ أنْزِلَ عليْهِ " .

و " مُعقِّباتٌ " جمع معقب بزنة مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ؛ لأن بعضهم يعقبُ بعضاً ، أو لأنَّهم يعقبون ما يتكلَّم به .

وقال الزمخشري : " والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، كقوله : { وَجَآءَ المعذرون } [ التوبة : 90 ] فلا يتعيَّن أن يكون أصله " المُتعذِّرُون " وقد تقدَّم توجيهه ، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه .

وأما قوله : ويجوز " مُعِّبات " بكسر العين ، فهذا لا يجوز ؛ لأنه بناه على أن أصله : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، وقد بيَّنا أن ذلك وهم فاحشٌ وفي " مُعَقِّباتٌ " احتمالان :

أحدهما : أن يكون معقبة بمعنى معقب ، والتَّاء للمبالغة ، كعلاَّمة ، ونسَّابة . أي : ملك معقب ، ثم جمع هذا كعلامات ، ونسَّابات .

والثاني : أن يكون معقبة صفة لجماعة ، ثم جمع هذا الوصف ، وذكر ابنُ جريرٍ : أن معقبة جمع معقب ، وشبه ذلك ب " رَجُلٍ ، ورجالٍ ، ورِجَالاتٍ " . قال أبو حيَّان : وليس كما ذكر ، إنما ذلك ك " جَمَلٍ ، وجِمَالٍ ، وجمالاتٍ " ومعقب ، ومعقبات إنَّما هو كضارب ، وضاربات .

ويمكن أن يجاب عنه : بأنه يمكن أن يريد بذلك أنَّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث " معقب " ، فصار مثل : " الواردة " للجماعة الذين يريدون ، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنَّ جموع التَّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار ، وعود الضَّمير ، ومنه قولهم : الرِّجحالُ وأعضادها ، والعلماء ذاهبةٌ إلى كذا ، وتشبيهنه ذلك برجل ، ورجالات من حيث المعنى لا الصناعة " .

وقرأ أبي ، وإبراهيم ، وعبيد الله بن زيادٍ : له معاقيب .

قال الزمخشريُّ : " جمع معقب ، أو معقبة ، والياء عوضٌ من حذف إحدى القافين في التكسير " .

ويوضح هذا ما قاله ابنُ جنِّي ؛ فإنه قال : " مَعَاقِيب " تكسير مَعْقِب بسكون العين ، وكسر القاف ، ك " مُطْعِم ، مطاعم " و " مَقْدِم ، ومَقَادِيم " ، فكأن " مُعْقباً " جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في " معاقيب " عوضاً من الهاء المحذوفة في " مُعَاقبةٍ " .

فصل

قال : المعقب من كلِّ شيء ما خلف يعقب ما قبله ، ويجوز أن يكون عقبه ، إذا جاء على عقب ، والمعنى في كلا الوجهين واحد .

والتَّعقيب : العود بعد البدءِ ، وإنَّما ذكر بلفظ التَّأنيث ؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة ، ثم جمع المعقبة معقبات ، كقولك : رجالات مكسر ، وقد تقدَّم .

وفي المراد ب " المعقبات " قولان :

أشهرهما : أن المراد الحفظة ، وإنَّمام وصفوا بالمعقبات ، إما لأجل أن ملائكة اللَّيل تعقب ملائكة النَّهار ، وبالعكس ، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ ، والكتابة ، وكل من عمل عملاً ثم معاد إليه ؛ فقد عقَّبهُ .

فعلى هذا المراد من المعقبات : ملائكة الليل ، والنَّهار ، قال تعالى جلًَّ ذكره { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } [ الانفطار : 10 ، 11 ، 12 ، 13 ] .

قوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل " مُعقِّباتٌ " ويجوز أن يتعلق ب : مُعقِّباتٌ " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبراً والكلامم على هذه الأوجه تام عند قوله : { وَمِنْ خَلْفِهِ } .

وقد عبَّر ِأبو البقاء ، رحمه الله عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة ، وهي قوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يكون صفة ل " مُعقِّباتٌ " ، وأن يكون ظرفاً ، وأن يكون حالاً من الضمير الذي فيه ، فعلى هذا يتمُّ الكلام عنده " انتهى " .

ويجوز أن يتعلق ب " يَحْفَظُونَه " أي : يحفظونه من بين يديه ، ومن خلفه .

فإن قيل : كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحدٍ ، وهما " مِنْ " الداخلة على " بَيْنِ " و " مِنْ " الداخلة على : " أمْرِ اللهِ " ؟ .

فالجواب : أنَّ " مِنْ " الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه .

قوله : " يَحْفَظُونهُ " يجوز أن يكون صفة ل " مُعقِّباتٌ " ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [ خبراً ] ، و " مِنْ أمْرِ اللهِ " متعلق به ، و " مِنْ " إمَّا للسَّببِ أي : بسبب أمر الله .

ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ ، وابن عبَّاسٍ ، وزيد بن عليّ ، وعكرمة رضي الله عنهم : بأمر الله .

وقيل : المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله ، فحذف المضاف .

قال ابن الأنباري : كلمة " مِنْ " معناها الباء ، وتقديره : يحفظونه بأمر الله وإعانته ، والدَّليل عليه : أنه لا بد من المصير إليه ؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة ، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله ، ممَّا قضاه الله عليه ؛ وإمَّا أن تكون على بابها .

قال أبُو البقاء : " مِنْ أمْرِ اللهِ " من الجنِّ ، والإنس ، فتكون " مِنْ " على بابها .

" يعني : أن يراد بأمر الله : نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس ، والجن ، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية " .

ويجوز أن تكون بمعنى " عَنْ " ، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل : " مُعقِّباتٍ " أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } وبكونها " يَحفظه " ، وبكونها " مِنْ أمْرِ اللهِ " ولكن يتقدَّم الصوف بالجملة على الوصف بالجار ، وهو جائزٌ فصيحٌ ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين :

الأول : أنه على التَّقديم ، والتأخير ، والتقدير : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه .

قال شهاب الدِّين رحمه الله : " والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه " .

والثاني : أن فيه إضماراً ، أي : ذلك الحفظ من أمر الله ، أي : ممَّا أمر الله به ، فحذف الاسم ، وأبقى خبره ، كما يكتب على الكيس : ألفان ، والمراد الذي فيه ألفان .

فصل

ذكر المفسرون : أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل ، والنهار ؛ فإذا صعدت ملائكمة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النَّهار ، جاء في عقبها ملائكة الليل .

لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللِّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُواة فيكُم ؛ فيَسْألهُم وعو أعملُ بِهِم : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي ؟ فَيقُولُون : تَركْنَاهُم ، وهُمْ يُصَلُّونَ ، وأتَيْنَاهُمْ ، وهُمْ يُصَلُّون " .

وقوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعنى من قدام ، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار ، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر ، فإذا جاء القدر خلوا عنه .

وقيل : يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه .

قال مجاهدٌ : ما من عبدٍ إلا وله ملك وكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس ، والهوام .

وقيل : المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين ، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات " يحفظونه " أي يحفظون عليه ، " من أمر الله " يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق . 18 ] .

وقال عبدالرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة ، وكانت قصَّتهما على ماروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : " أقبل عامر بن الطُّفيل ، وأربد بن ربيعة ، وهما عامريان يريدان رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه ، فدخلا المسجد ، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ ، وكان أعورَ ، وكان من أجمل النَّاس ، فقال رجل : يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال : دعه ؛ فإن يرد الله به خيراً يهده ، مفأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : لك ما للمسلمين ، وعليك ما على المسلمين ، قال : تجعلي لي الأمر بن بعدك ؛ قال : ليس ذلك إليَّ ، إنما ذلك إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاءُ ، فقال : تجعلني على الوبر والمدرِ ، قال : لا ، قال : فما تجعل لي ؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال : أوليس ذلك لي اليوم ، قم معي أكلمك ، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة : إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه ، فاضربه بالسيف ، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه ، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه ، فاخترط من سيفه شبراً ، ثمَ حبسه الله عزَّ وجلَّ عنده ، فلم يقدر على سلّه ، وجعل عامرُ يومىء إليه ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه ، فقال : " اللَّهُمَّ أكْفِنِيهما بِمَا شِئْتَ " فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم مصحوٍ صائفٍ ، فأحرقته ، وولّى عامر بنُ الطفيل هارباً ، وقال : يا محمد ! دعوت ربك فقتل أربد ، والله لأملأنَّها عليك خيلاً جرداً ، وفتياناً مرداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يَمْنَعُكَ اللهُ مِنْ هذا ، وأبْناءُ قيْلة " يريد الأوس ، والخزرج ؛ فنزل عامرٌ بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح ، ضم عليه سلاحه ، وقد تغير لونه ، فخرج يركض في الصحراء ويقول : ابرز يا ملك الموت ، ويقول الشِّعر ، ويقول : واللات لئن أصبح لي محمداً وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي ؛ فأرسل الله تبارك وتعالى ملكاً فلطمه بجناحه ، فأذراه في التراب ، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة ، فعاد إلى بيت السلولية ، وهو يقول : " غُدَّةٌ كغُدةِ البَعيرِ ، ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُوليَّة " ، ثم دعا بفرسه ، فركبه ، ثمَّ أجراه حتَّى مات على ظهره ، فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتلَ عامرٌ بالطعن ، وأربد بالصَّاعقة " ، وأنزل الله في هذه القصَّة : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } يعنى للرسول صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله ، يعني : تلك المعقبات من أمر الله ، وفيه تقديم وتأخير .

ونقل عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله أن المراد يستوي في علم الله السرُّ ، والجهر ، والمستخفي في ظلمة اللَّيل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين ، والأنصار ، وهم الملوك ، والأمراء فمن لجأ إلى الله فلن يفوِّت الله سبحانه وتعالى أمره ، ومن سار نهاراً بالمعقبات ، وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه حراسه من الله تعالى والمعقب هو العون ؛ لأنه إذا نصر هذا وذاك ؛ فلا بد وأن ينصر ذاك هذا ؛ فنصر كل واحد منهما معاقبة لنصرة الآخر ؛ فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ، وقدره ، وهم وإن ظنُّوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ، ومن قضائه ؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتَّة .

والمقصود من الكلام : بعث السلاطين ، والأمراء ، والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره من الله ، ويعلولوا على حفظه وعصمته ولا يعولوا في دعفها على الأعوان والأنصار ؛ ولذلك قال تعالى جل ذكره بعده : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } .

قال القرطبي : " قيل : إن في الكلام نفياً محذوفاً تقديره : لا يحفظونه من أمر الله تعالى ذكره الماورديُّ .

قال المهدوي : ومن جعل المعقٍِّبات : الحرس ، فالمعنى : م يحفظونه من أمر الله على ظنه ، وزعمه .

وقيل : سواء من أسر القول ، ومن جهر ، فله حراس ، وأعوان يتعاقبون عليه ، فيحملونه على المعاصي ، و " يَحْفظُونَهُ " من أن ينجع فيه وعظٌ .

قال القشيريُّ : وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب ، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار ، فيصير ذلك سبباً للعقوبة ، فكأنه الذي يحل العقوبة " .

وقال عبدالرحمن بن زيد : " المعقِّبات : ما تعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده " .

قال الماورديُّ : " ومن قال بهذا القول ، ففي تأويل قوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } وجهان :

أحدهما : يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله ، قاله الضحاك .

الثاني : يحفظونه من الجنِّ ، والهوام المؤذية ، ما لم يأت قدرٌ ، قاله أبو أمامة ، وكعب الأحبار رضي الله عنهما فإذا جاء القدر خلوا عنه ؟ .

قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } : من العافية والنعمة { حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } من [ الحالة الجميلة ] فيعصون ربَّهم .

قال الجبائي ، والقاضي : هذه الآية تدلُّ على مسألتين :

الأولى : أنَّه سبحانه لا يعاقبُ أطفال المشركين بذنوب آبائهم ؛ لأنَّهم لم يغيِّروا ما بأنفسهم من نعمه ، فيغير الهلن حالهم من النِّعمة إلى العذاب .

الثانية : قالوا : الآية تدلُّ على بطلان قول المجبرة : إنَّه تعالى ابتدأ العبد بالضَّلال ، والخذلان أوَّل ما يبلغ ؛ لأنَّ ذلك أبلغ في العقاب ، مع أنَّه ما كان منه تغيير .

قال ابن الخطيب : " والجواب أن ظاهر الآية يدل على أن فعل الله تعالى في التغيير يترتب على فعل العبد ، وقوله { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ التكوير : 29 ] يدلُّ على أن فعله مقدم على فعل العبد ، فوقع التَّعارض .

وقوله تعالى : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } يدلُّ على أنَّ العبد غير مستقل بالفعل ، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان ، ولكان قادراً على ردّ ما أراد الله تعالى من كفر ، وحينئذٍ بطل قوله : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } ؛ فثبت أنَّ الآية السابقة ، وإن أشعرب بمذهبهم إلا أن هذا من أقوى الدلائل على مذهبنا .

روى الضحاك عن ابن عبَّاس رضي الله عنه : لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه : لا رادّ لعذابي ، و لاناقض لحكمي : { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } ، أي : ليس لهم من دون الله من يتولاهم ، ويمنع قضاء الله عنهم ، أي : مال هم والٍ يتولَّى أمرهم ، ويمنع العذاب عهم .

قوله : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ } " العامل في " إذَا " محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره : لم يرد أو وقع ، أو نحوهما ، ولا يعمل فيها جوابها ؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعملُ فيما قبلها .