الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ} (11)

{ لَهُ } أي لله تعالى { مُعَقِّبَاتٌ } ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل ، والتعقيب العود بعد المبدأ ، قال الله ولم يعقب وإنما ذكرها هنا بلفظ جمع التأنيث ؛ لأنّ واحدهما معقب وجمعه عقبة ، ثم جمع المعقبة معقبات فهي جمع الجمع . كما قيل أما قال قد حالات بكم وقوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يعني من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ومن خلفه من وراء ظهره .

قال ابن عباس : ملائكة يحفظونه من أمر الله من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء القدر خلوا عنه .

حماد بن سلمة عن عبدالله بن جعفر عن كنانه العمري قالوا : " دخل عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أسألك عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : ملك على يمينك يكتب حسناتك ، وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً ، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب ؟ قال : لا ، لعله يستغفر الله أو يتوب فإذا قال ثلاثاً قال : نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عزّ وجلّ وأقل استحياء منا يقول الله { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلاّ الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وآله ، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك ، وملكان على عينيك هؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار ؛ لأن ملائكة الليل أي ليسوا من ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي وإبليس مع بني آدم بالنهار وولده بالليل " .

قتادة وابن جريح : هذه ملائكة الله عزّ وجلّ يتعاقبون فيكم بالليل والنهار ، وذكر لنا أنّهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح .

همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ قالوا : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون " .

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال : ذكر [ أنّ ] ملكاً من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس فإذا جاء أمر الله لم ينفعوا شيئاً .

عكرمة : هؤلاء ملائكة من بين أيديهم ومن خلفهم لحفظهم .

شعبة عن شرفي عن عكرمة قال : الجلاوزة .

الضحاك : هو السلطان المحترس من الله وهم أهل الشرك ، وقوله { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } اختلفوا فيه فقال قوم : يعني : بأمر الله ، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض ، وهذا قول مجاهد وقتادة ورواية الوالبي عن ابن عباس ، وقال الآخرون : يحفظونه من أمر الله ما لم يجئ القدر .

لبيد عن مجاهد : ما من عبد إلاّ به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس الهوام فما منهم شيء بأمره يريده إلاّ قال فذاك لا يأتي بإذن الله عزّ وجلّ فيه فيصيبه .

وقال كعب الأحبار : لولا وكل الله بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا يحيطكم الجن .

وروى عمار بن أبي حفصة عن أبي مجلز قال : جاء رجل من مراد إلى علي ( رضي الله عنه ) وهو يصلي ، فقال : احترس فإنّ ناساً من مراد يريدون قتلك . فقال : إنّ مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإنّ الأجل جنة حصينة ، وقال أهل المعاني : إنّ أوامر الله عزّ وجلّ على وجهين أحدهما قضى حلوله ووقوعه بصاحبه ، فذلك ما لا يدفعه أحد ولا يغيره بشر ولا حتى الجن ، ولم يقض حلوله ووقوعه ، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظة كقصة يونس ( عليه السلام ) ، وقال ابن جريج : معناه ينصون من الله أمر الله يعني يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، وقال بعض المفسرين أن هذه الآية أنّ الهاء في قوله : { لَهُ } راجعة إلى رسول الله ( عليه السلام ) .

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } يعني محمد ( عليه السلام )من الرحمن حراس من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ، يعني من شر الجن والإنس ومن شر طارق الليل والنهار ، وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وزيد بن ربيعة وكانت قصتهما على ما روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح " عن ابن عباس قال : أقبل علينا . زيد بن ربيعة هو وعامر بن الطفيل يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في نفر من أصحابه ، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور ، وكان من أجمل الناس .

وقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل وهو مشرك .

فقال : دعه فإن يرد الله به خيراً بهذه ، فأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت ؟ قال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين ، قال : تجعل لي الأمر بعدك . قال : ليس ذلك إليَّ إنما ذاك إلى الله يجعله حيث يشاء .

قال : فاجعلني على الوبر وأنت على المدر ، قال الرجل : فماذا يجعل لي ؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها .

قال : أوليس ذلك لي اليوم ؟ قال : لا . قال : قم معي أُكلمك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يوصي إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فَدُرْ من ورائهِ بالسيف فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدار أربد بن ربيعة خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبراً ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على قتله وعامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما منع بسيفه .

فقال : اللهم أكفنيهما بما شئت ، فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف وولى عامر هارباً .

وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتياناً مرداً .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة "

يعني الأوس والخزرج ، فنزل عامر ببيت امرأة سلولية فأنشأ يقول :

بخير أبيت اللعن إن شئت ودّنا *** فإن شئت حرباً بائس ومصدق

وإن شئت نسيا ما يُكفّيك أمرهم *** يكبون كبش العارفين تألق

فلما أصبح ضم إليه سلاحه وقد تغير لونه ، وهو يقول :

واللات لئن أصحر محمد إلي وصاحبه عني ملك الموت لأُنفذنهما برمحي ، فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكاً فلطمه بجناحه فأذراه في التراب ، وخرجت على ركبته غدة في الوقت كغدة البعير فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : غدة كغدة البعير وموت في السلولية ثم مات على ظهر فرسه .

لعمري وما عمري علي بهين *** لقد شان حمر الوجه طعنة مسهر

لقد علم المزنوق أني أكرّ *** على جمعهم كرّ المنيح المشهر

وأزود من وقع السنان زجرته *** وأخبرته أني امرؤ غير مقصر

وأخبرته أن الفرار خزاية *** على المرء ما لم يبل عذراً فيعذر .

لقد علمت عليا هوازن أنني *** أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر

فجعل يركض في الصحراء ويقول : أبرز يا ملك الموت ، ثم أنشأ يقول :

ألا قرب المزنوق ولتجد ما أرى *** نفر بيوم شره غير حامد .

ألا قرباه إن غاية حرمنا *** إذا قرب المزنوق بين الصفايد

ومن عامر قدن إذا ما دعوتهم*** أجابوا ولبى منهم كل ماجد

وكان بعضهم يعيّر بعضاً النزول على سلولية ولذلك ركب فرسه ليموت خارجاً من بيتها ما أحس بالموت ، ثم دعا بفرسه يركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره .

فأجاب الله تعالى دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم وقتل عامراً بالطاعون وأربد بالصاعقة ، فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثي فمنها هذه :

. . . . . . . . . . . . وانا لك فاذهب *** والحق بأسرتك الكرام الغيب

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

يتآكلون مغالة وملاذة *** ويعاب قائلهم وإن لم يشغب

فنعد في هذا وقل في غيره *** واذكر شمائل من أخ لك معجب

إنّ الرزيئة لا رزيئة بعدها *** فقدان كل أخ كضوء الكوكب

من معشر بنت لهم آباؤهم *** والعز لا يأتي بغير تطلب

يا أربد الخير الكريم جدوده *** أفردتني أمشي بقرن أعضب

ومنها قوله :

ما أن تعزي المنون من أحد *** لا والد مشنق ولا ولد

أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نوء السِّماك والأسد

فعين هلا بكيت أربد *** قمنا وقام النساء في كبد

فجّعني البرق والصواعق بال***فارسِ يوم الكريمة النّجُد

فأنزل الله تعالى في هذه القصة { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ } الآية { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } يحفظونه { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } يعني تلك المعقبات من أمر الله وهي مقدم ومؤخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه تلك المعقبات من أمر الله وقال الذين [ آمنوا : ] { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .

وقرأ { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } حتى بلغ { وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } من العافية والنعمة { حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } من الحال لا [ . . . . . . . . . ] فيعصون ربهم ويظلمون بعضهم بعضاً .

{ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا } عذاباً وهلاكاً { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } علمها المخاوف بالله وقيل : وال ولي أمرهم ما يدفع العذاب عنهم