البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ} (11)

وقال ابن عباس : هو عائد على من قوله : ومن هو مستخف ، وكذلك في باقي الضمائر التي في الآية .

قال ابن عطية : والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قال : والآية على هذا في الرؤساء الكافرين .

واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة وجماعة .

وقال الضحاك : هو السلطان المحرس من أمر الله .

وذكر الماوردي أنّ الكلام على هذا التأويل نفي تقريره لا يحفظونه من أمر الله انتهى .

وحذف لا ، لا في الجواب قسم بعيد .

قال المهدوي : ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى : يحفظونه من الله على ظنه وزعمه .

وقيل : الضمير في له عائد على الله تعالى أي : لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه ، والمعقبات على هذا الملائكة الحفظة على العباد وأعمالهم ، والحفظة لهم أيضاً .

وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول مجاهد والنخعي .

وقيل : الضمير في له عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب ، وقد جرى ذكره في قوله : { لولا أنزل عليه آية من ربه } والمعنى : أنّ الله تعالى جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم حفظة من متمردي الجن والإنس .

قال أبو زيد : الآية في النبي صلى الله عليه وسلم نزلت في حفظ الله له من أربد بن قيس ، وعامر بن الطفيل ، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق .

والقول الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر .

ويقول : لما تقدم أنّ من أسر القول ومن جهر به ، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار ، مستو علم الله تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء ، ذكر أيضاً أن لذلك المذكور معقبات : جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته .

ومعقب : وزنه مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ، لأن بعضهم يعقب بعضاً ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه .

وقال الزمخشري : والأصل معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف كقوله : { وجاء المعذرون } يعني المعتذرون .

ويجوز معقبات بكسر العين ، ولم يقرأ به انتهى .

وهذا وهم فاحش ، لا تدغم التاء في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا من كلمة ولا من كلمتين .

وقد نص التصريفيون على أنْ القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما .

وأما تشبيهه بقوله : وجاء المعذرون ، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون ، وقد تقدم في براءة توجيهه ، وأنه لا يتعين ذلك فيه .

وأما قوله : ويجوز معقبات بكسر العين ، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف .

وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش ، والمعقبات جمع معقبة .

وقيل : الهاء في معقبة للمبالغة ، فيكون كرجل نسابة .

وقيل : جمع معقبة ، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، جمعت باعتبار كثرة الجماعات ، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري .

وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر ، لأنّ ذلك كجمل وجمال وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله : ابن عطية .

وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أراد بقوله : جمع معقب ، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب ، وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد ، من حيث أنْ يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الأخبار .

وفي عود الضمير لقوله : العلماء قائلة كذا ، وقولهم الرجال وأعضادها ، وتشبيه الطبري ذلك برجل ورجال ورجالات من حيث المعنى ، لا من حيث صناعة النحويين ، فبين أنّ معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع ، وأن معقبات من حيث استعمل جمعاً لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال .

وقرأ عبيد بن زياد على المنبر له المعاقب ، وهي قراءة أبي وإبراهيم .

وقال الزمخشري : وقرىء له معاقيب .

قال أبو الفتح : هو تكسير معقب بسكون العين وكسر القاف ، كمطعم ومطاعيم ، ومقدم ومقاديم ، وكان معقباً جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء المحذوفة في معاقبة .

وقال الزمخشري : جمع معقب أو معقبة ، والياء عوض من حذف أحد القافين في التكسير .

وقرىء له معتقبات من اعتقب .

وقرأ أبي من بين يديه ، ورقيب من خلفه .

وقرأ ابن عباس : ورقباء من خلفه ، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ معقبات من خلفه ، ورقيب من بين يديه .

وينبغي حمل هذه القراآت على التفسير ، لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون .

والظاهر أن قوله تعالى : من أمر الله متعلق بقوله : يحفظونه .

قيل : مِن للسبب كقولك : كسرته من عرى ، ويكون معناها ومعنى الباء سواء ، كأنه قيل : يحفظونه بأمر الله وبإذنه ، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك .

قال ابن جريج : يحفظون عليه عمله ، فحذف المضاف .

وقال قتادة : يكتبون أقواله وأفعاله .

وقراءة علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وزيد بن علي ، وجعفر بن محمد : يحفظونه بأمر الله ، يؤيد تأويل السببية في من وفي هذا التأويل .

قال الزمخشري : يحفظونه من أجل أمر الله تعالى أي : من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه .

وقال ابن عطية ، وقتادة : معنى من أمر الله ، بأمر الله أي : يحفظونه بما أمر الله ، وهذا تحكم في التأويل انتهى .

وليس بتحكم وورود من للسبب ثابت من لسان العرب .

وقيل : يحفظونه من بأس الله ونقمته كقولك : حرست زيداً من الأسد ، ومعنى ذلك : إذا أذن الله لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب كقوله تعالى : { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } يصير معنى الكلام إلى التضمين أي : يدعون له بالحفظ من نقمات الله رجاء توبته .

ومن جعل المعقبات الحرس ، وجعلها في رؤساء الكفار فيحفظونه معناه : في زعمه وتوهمه من هلاك الله ، ويدفعون قضاءه في ظنه ، وذلك لجهالته بالله تعالى ، أو يكون ذلك على معنى التهلك به ، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلاً الثبوت في ذلك الوصف ، وفي الحقيقة هو منتصف ، ولذلك حمل بعضهم يحفظونه على أنه مراد به : لا يحفظونه ، فحذف لا .

وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة كما ذكرنا بيحفظونه ، وهي في موضع نصب .

وقال الفراء وجماعة : في الكلام تقديم وتأخير أي : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه .

وروي هذا عن مجاهد ، والنخعي ، وابن جريج ، فيكون من أمر الله في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع ، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي : كائنة من أمر الله تعالى ، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير ، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر : أحدها : من بين يديه ومن خلفه أي : كائنة من بين يديه .

والثانية : يحفظونه أي : حافظات له .

والثالثة : كونها من أمر الله ، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله : يحفظونه ، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين : إحداهما : يحفظونه من بين يديه ومن خلفه .

والثانية : قوله : من أمر الله أي : كائنة من أمر الله .

غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور ، وذلك شائع فصيح ، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة ، في الحفظ آكد ، فلذلك قدم الوصف بها .

وذكر أبو عبد الله الرازي في الملائكة الموكلين علينا ، وفي الكتبة منهم أقوالاً عن المنجمين وأصحاب الطلمسات ، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره .

ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها ، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم ، وإن كان الصادر منهم خيراً وشراً ، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم ، وإهمال أمره بالطاعة ، واستبدالها بالمعصية .

فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة ، وتحذير لوبال المعصية .

والظاهر أنْ لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي .

قال ابن عطية : وهذا الموضع مؤول ، لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس ، ومنه قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن } الآية .

" وسؤالهم للرسول صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : «نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة » "

فمعنى الآية : حتى يقع تغيير إما منهم ، وإما من الناظر لهم ، أو ممن هو منهم تسبب ، كما غير الله تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا في أمثله الشريعة .

فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير .

وثم أيضاً مصائب يزيد الله بها أجر المصاب ، فتلك ليست تغييراً انتهى .

وفي الحديث : « إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب » وقيل : هذا يرجع إلى قوله : { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي ، إلا إن علم الله تعالى أنّ فيهم ، أو في عقبهم من يؤمن ، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال .

وما موصولة صلتها بقوم ، وكذا ما بأنفسهم .

وفي ما إبهام لا يتغير المراد منها : إلا بسياق الكلام ، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى ، والتقدير : لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته .

والسوء يجمع على كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب ، وغير ذلك من البلاء .

ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله : سوء ، وإلا فالسوء والخير إذا أراد الله تعالى شيئاً منها فلا مرد له ، فذكر السوء مبالغة في التخويف .

وقال السدي : من وال من ملجأ .

وقال الزمخشري : ممن يلي أمرهم ، ويدفع عنهم .

وقيل : من ناصر يمنع من عذابه .