فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ} (11)

{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ( 11 ) }

{ لَهُ } الضمير راجع إلى { من } في قوله { مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } أي لكل من هؤلاء { مُعَقِّبَاتٌ } هي المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه وهم الحفظة من الملائكة تعتقبه في قول عامة المفسرين ؛ قال الزجاج : المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض قيل هم خمسة بالليل وخمسة بالنهار .

وفي الخطيب أنهم عشرون لكل إنسان عشرة بالليل وعشرة بالنهار ، وهو الذي في شرح الجوهرة ، وإنما قال معقبات مع كون الملائكة ذكورا لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة ثم جمع معقبة على معقبات ذكر معناه الفراء كما قيل أبناوات سعد ، ورجالات بكر .

وقيل أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة ، قال الجوهري : والتعقب العود بعد البدء قال الله تعالى : { ولى مدبرا ولم يعقب } وقرئ معاقيب جمع معقب وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ) ، الحديث أخرجه الشيخان{[990]} ، وقال ابن عباس هذه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة .

قلت العموم أولى ويدخل فيه سبب النزول دخولا أوليا .

{ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي من بين يدي من له المعقبات ؛ والمراد أن الحفظة من الملائكة يتعاقبون من جميع جوانبه ، وقيل المراد بالمعقبات الأعمال ومعنى من بين يديه ومن خلفه ما تقدم منها وما تأخر { يَحْفَظُونَهُ مِنْ } أجل { أَمْرِ اللّهِ } وقيل يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب ، وقيل يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، وقيل من شر طوارق الليل والنهار .

قال الفراء في هذا قولان :

أحدهما : أنه على التقديم والتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه .

والثاني : أن كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به ، قال الزجاج : المعنى حفظهم إياه من أمر الله أي مما أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله قال ابن الأنباري : وفي هذا قول آخر وهو أن من بمعنى الباء أي يحفظونه بأمر الله وإعانته واستظهره السفاقسي ، وقيل إن من بمعنى عن أي يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله لا من عند أنفسهم كقوله : { أطعمهم من جوع } أي عن جوع .

وقيل يحفظونه عن ملائكة العذاب وقيل يحفظونه من الجن والإنس فهي على بابها ، واختار ابن جرير أن المعقبات المواكب والحراس والجلاوزة بين أيدي الأمراء في حول السلطان على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء .

وقال ابن عباس : ذلك الحفظ من أمر الله بأمر الله وبإذن الله ، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحدا من أمر الله ومما قضاه الله عليه إلا بأمره وإذنه ، وعن قتادة مثله .

وعنه أيضا قال : ولي السلطان يكون عليه الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه يقول يحفظونه من أمري ، فإني إذا أردت بقوم سوءا فلا مرد له ، وقال أيضا الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم وعن خلفهم وعن شمالهم يحفظونهم من القتل ، ألم تسمع أن الله يقول { إِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } أي إذا أراد سوءا لم تغن الحرس عنه شيئا .

وعن عكرمة قال : هؤلاء الأمراء ، و عن ابن عباس قال : هم الملائكة تعقب بالليل تكتب على ابن آدم ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه .

وعن علي قال : ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق ، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر ، وقد ورد في ذكر الحفظة الموكلين بالإنسان أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الحديث .

{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } من النعمة والعافية { حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } من طاعة الله والحالة الجميلة بالحالة القبيحة ؛ والمعنى أنه لا يسلب قوما نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة ، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها ، قيل وليس المراد أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى يتقدم له ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير ، كما في الحديث أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سائل فقال : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث {[991]} .

{ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا } أي هلاكا وعذابا { فَلاَ مَرَدَّ } أي فلا راد { لَهُ } وقيل المعنى إذا أراد بقوم سوءا أعمى قلوبهم حتى يختاروا ما فيه البلاء { وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } يلي أمرهم ويلتجئون إليه فيدفع عنهم ما ينزل بهم من الله سبحانه من العقوبات ، أو من ناصر ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله .

والمعنى أنه لا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه .


[990]:مسلم / 632 – البخاري / 359.
[991]:مسلم 2880 – البخاري 1582.