ثم ضرب مثلا فقال : { أفمن يمشي مكباً على وجهه } راكباً رأسه في الضلالة والجهالة ، أعمى العين والقلب لا يبصر يميناً ولا شمالاً وهو الكافر . قال قتادة : راكبا على المعاصي في الدنيا فحشره الله على وجهه يوم القيامة ، { أهدى أمن يمشي سوياً } معتدلاً يبصر الطريق وهو ، { على صراط مستقيم } وهو المؤمن . قال قتادة : يمشي يوم القيامة سوياً .
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لأهل الإِيمان وأهل الكفر ، وأهل الحق وأهل الباطل ، فقال - سبحانه - : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
والمُكِب : هو الإِنسان الساقط على وجهه ، يقال : كبَّ فلان فلانا وأكبه ، إذا صرعه وقلبه بأن جعل وجهه على الأرض . . فهو اسم فاعل من أكب .
وقوله : { أهدى } مشتق من الهدى ، وهو معرفة طريق الحق والسير فيها ، والمفاضلة هنا ليست مقصودة ، لأن الذى يمشي مكبا على وجهه ، لا شئ عنده من الهداية أو الرشد إطلاقا حتى يفاضل مع غيره ، وفيه لون من التهكم بهذا المكب على وجهه .
و " السوي " هو الإِنسان الشديد الاستواء والاستقامة ، فهو فعيل بمعنى فاعل .
ومنه قوله - تعالى - حكاية عما قاله إبراهيم - عليه السلام - لأبيه - : { ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً }
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى . . . } : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه ، كمثل من يمشي مكبا على وجهه ، أي : يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه ، أي : لا يدري أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال ، أهذا أهدى { أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً } أي : منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي على طريق واضح بين ، وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة .
هذا مثلهم في الدنيا ، وكذلك يكونون في الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشي سويا على صراط مستقيم . . وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى النار . .
وروى الإِمام أحمد عن أنس قال : " قيل يا رسول الله ، كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال : " أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم "
وقال الجمل : هذا مثل للمؤمن والكافر ، حيث شبه - سبحانه - المؤمن في تمسكه بالدين الحق ، ومشيه على منهاجه ، بمن يمشي في الطريق المعتدل ، الذي ليس فيه ما يتعثر به . .
وشبه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل ، بمن يمشي في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض ، فيتعثر ويسقط على وجهه ، وكلما تخلص من عثرة وقع في أخرى .
فالمذكور في الآية هو المشبه به ، والمشبه محذوف ، لدلالة السياق عليه . .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد لفتت أنظار الناس إلى التفكر والاعتبار ، ووبخت المشركين على جهالاتهم وطغيانهم ، وساقت مثالا واضحا للمؤمن والكافر ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة .
ولقد كانوا - مع هذا - يتهمون النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه بالضلال ؛ ويزعمون لأنفسهم أنهم أهدى سبيلا ! كما يصنع أمثالهم مع الدعاة إلى الله في كل زمان . ومن ثم يصور لهم واقع حالهم وحال المؤمنين في مشهد حي يجسم حقيقة الحال :
( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ? أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ? ) . . والذي يمشي مكبا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلا لا على رجليه في استقامة كما خلقه الله ، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه ، ثم ينهض ليعثر من جديد ! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر ، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول ! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيما سويا في طريق لا عوج فيه ولا عثرات ، وهدفه أمامه واضح مرسوم ? !
إن الحال الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله ، المحروم من هداه ، الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته ، لأنه يعترضها في سيره ، ويتخذ له مسارا غير مسارها ، وطريقا غير طريقها ، فهو أبدا في تعثر ، وأبدا في عناء ، وأبدا في ضلال .
والحال الثانية هي حال السعيد المجدود المهتدي إلى الله ، الممتع بهداه ، الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور ، الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد . وهو موكب هذا الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء .
إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد . وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال . .
فأيهما أهدى ? وهل الأمر في حاجة إلى جواب ? إنما هو سؤال التقرير والإيجاب !
ويتوارى السؤال والجواب ليتراءى للقلب هذا المشهد الحي الشاخص المتحرك . . مشهد جماعة يمشون على وجوههم ، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق . ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات ، مستقيمة الخطوات ، في طريق مستقيم ، لهدف مرسوم .
إنه تجسيم الحقائق ، وإطلاق الحياة في الصور ، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير . .
ثم قال : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ؟ : وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مُكبّا على وجهه ، أي : يمشي منحنيا لا مستويا ، على وجهه ، أي : لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب ؟ بل تائه حائر ضال ، أهذا أهدى { أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا } أي : منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : على طريق واضح بين ، وهو في نفسه مستقيم ، وطريقه مستقيمة . هذا مثلهم في الدنيا ، وكذلك يكونون في الآخرة . فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم ، مُفض به إلى الجنة الفيحاء ، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم ، { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ }
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا ابن نُمَير ، حدثنا إسماعيل ، عن نُفَيع قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قيل : يا رسول الله ، كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال : " أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم " {[29116]} .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق [ يونس بن محمد ، عن شيبان ، عن قتادة ، عن أنس ، به نحوه ]{[29117]} {[29118]} .
{ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى } يقال كببته فأكب وهو من الغرائب ، كقشع الله السحاب فأقشع ، والتحقيق أنهما من باب أنفض ، بمعنى صار ذا كب وذا قشع ، وليس مطاوعي كب وقشع ، بل المطاوع لهما انكب وانقشع . ومعنى مكبا أنه يعثر كل ساعة ويخر على وجهه ، لو عورة طريقه واختلاف أجزائه ، ولذلك قابله بقوله : { أمن يمشي سويا } قائما سالما من العثار على صراط مستقيم ، مستوي الأجزاء والجهة . والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين ، والدينين بالمسلكين . ولعل الاكتفاء بما في الكب من الدلالة على حال المسلك ، للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمى طريقا ، كمشي المتعسف في مكان متعاد غير مستو ، وقيل المراد بالمكب الأعمى ، فإنه يتعسف فينكب ، وبالسوي البصير ، وقيل من يمشي مكبا هو الذي يحشر على وجهه إلى النار ، ومن يمشي سويا الذي يحشر على قدميه إلى الجنة .
واختلف أهل التأويل في سبب قوله : { أفمن يمشي مكباً } الآية ، فقال جماعة من رواة الأسباب : نزلت مثلاً لأبي جهل بن هشام وحمزة بن عبد المطلب ، وقال ابن عباس وابن الكلبي وغيره : نزلت مثلا لأبي جهل بن هشام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد والضحاك : نزلت مثالاً للمؤمنين والكافرين على العموم ، وقال قتادة : نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وإن الكفار يمشون فيها على وجوههم ، والمؤمنون يمشون على استقامة ، وقيل للنبي : كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ قال : «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجله ، قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه »{[11221]} .
قال القاضي أبو محمد : فوقف الكفار على هاتين الحالتين حينئذ ، ففي الأقوال الثلاثة المشي مجاز يتخيل ، وفي القول الرابع هو حقيقة يقع يوم القيامة . ويقال : أكب الرجل ، إذا رد وجهه إلى الأرض ، وكبه : غيره ، قال عليه السلام : «وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم »{[11222]} ، فهذا الفعل خلاف للباب : أفعل لا يتعدى وفعل يتعدى ، ونظيره قشعت الريح السحاب فأقشع ، و { أهدى } في هذه الآية أفعل من الهدى .
هذا مثَل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين : كافر ومؤمن ، لأنه جاء مفرعاً على قوله : { إن الكافرون إلاّ في غرور } [ الملك : 20 ] وقوله : { بل لَجُّوا في عتوّ ونفور } [ الملك : 21 ] وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله : { أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم } [ الملك : 20 ] { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } [ الملك : 21 ] ، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثَللِ السوء ، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول ، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء . ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المُنصِف نحو { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال .
والذي انقدح لي : أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله : { على صراط مستقيم } فلا بد من اعتبار مَشي المكبّ على وجهه مشياً على صراط مُعْوجّ ، وتعين أن يكون في قوله : { مكباً على وجهه } استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطاً معوجاً في تأمله وترسُّمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضلّ فيه ، بحال المكِبّ على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله : { سَوِيّاً } المشعر بأن { مُكباً } أطلق على غير السوي وهو المنحني المطأطىء يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود .
فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطفُ على بعض القبائل من بعض ، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات ، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيلة إله أو آلهة فتقسموا الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول ، وكذلك حال أهل الإِشراك في كل زمان ، ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله : { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } [ يوسف : 39 ] . ويُنَور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] وقوله : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين } [ يوسف : 108 ] ، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإِسلام بالسُّبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام ، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبهاً بالسبيل وسالكُه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله : { وما أنا من المشركين } [ يوسف : 108 ] .
فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله { يمشي مكبّاً على وجهه } تشبيه لحال المشرك في تقسُّم أمره بين الآلهة طلباً للذي ينفعه منها الشاكّ في انتفاعه بها ، بحال السائر قاصداً أرضاً معينة ليست لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلُغ إلى مقصده فيبقى حائراً متوسماً يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإِبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة .
وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليها بقوله : { مكباً على وجهه } بتشبيه حال المتحيّر المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض .
وقوله : { أمَّن يمشي سويّاً } تشبيه لحال الذي آمن بربّ واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق ، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلاّ إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره .
وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني .
والفاء التي في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا ، والاستفهام تقريري .
والمُكِب : اسم فاعل من أكَب ، إذا صار ذا كَبّ ، فالهمزة فيه أصلها لإِفادة المصير في الشيء مثل همزة : أقشع السحابُ ، إذا دخل في حالة القشع ، ومنه قولهم : أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم ، وأرملوا إذا فني زادهم ، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعدياً والمهموز قاصراً .
و { أهدى } مشتق من الهُدَى ، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكباً على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى : { قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } [ يوسف : 33 ] في قول كثير من الأيمة . ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام .
والسويّ : الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى : { أهْدِك صراطاً سوياً } [ مريم : 43 ] . و ( أم ) في قوله : { أمن يمشي سوياً } حرف عطف وهي ( أم ) المعادلة لهمزة الاستفهام . و ( مَن ) الأولى والثانية في قوله : { أفمن يمشي مكباً } أو قوله : { أمن يمشي سوياً } موصولتان ومحْملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين ، وقيل : أريد شخص معيّن أريد بالأولى أبو جهل ، وبالثانية النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر أو حمزة رضي الله عنهما .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {أفمن يمشي مكبا على وجهه} يعني الكافر يمشي ضالا في الكفر أعمى القلب، يعني أبا جهل بن هشام، {أهدى أمن يمشي سويا} يعني النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا مهتديا، نقي القلب.
{على صراط مستقيم} يعني طريق الإسلام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"أَفَمَنْ يَمْشِي "أيها الناس "مُكِبّا على وَجْهِهِ" لا يبصر ما بين يديه، وما عن يمينه وشماله "أهْدَى": أشدّ استقامة على الطريق، وأهدى له، "أمْ مَنْ يَمْشِي سَويّا" مَشْي بني آدم على قدميه "على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، يقول: على طريق لا اعوجاج فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم}
أحدها: في هذه الآية تذكير وتنبيه وتخويف وتهويل وتعريف حال، هي خلاف ما هم عليها في الحال.
والثاني: ذكر الصراط في الذي يمشي مكبا، هو على الإضمار؛ كأنه يقول: {أفمن يمشي مكبا على} غير الصراط {أهدى أمّن يمشي سويا على صراط مستقيم} فيكون هذا تذكيرا وتنبيها وتسفيها لأحلامهم، لأن الذين آثروا الإيمان، وسلكوا طريقه، فإنما سلكوه بالحجج والبراهين. والذين آثروا الكفر آثروه من غير حجة، بل حيرتهم وسفههم هما اللذان دعواهم إلى التزام الكفر والتديّن به. ومن آثر الحيرة والعمى على الهدى والرشاد فهو سفيه.
والثالث: أن يكون قوله: {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى} أي أهدى طريقا {أمن يمشي سويا على صراط مستقيم}؟ وحق هذا الكلام أن يقال: بل الذي مشى على صراط مستقيم، هو الأهدى من الذي يختار الطريق المعوج الزائغ عن الرشاد.
فيكون في الوجه الأول معنى التخويف والتنبيه جميعا، وفي الوجه الثاني تذكير وتنبيه، وقولنا بأن فيه تعريف حال خلاف الحال التي هم عليها: إن كل واحد من الفريقين، أعني به أهل الإسلام وأهل الكفر، يزعم أنه على الهدى، والفريق الآخر على الضلال. وإذا اتفقت الدعاوى على تضليل أحد الفريقين، فلا بد أن يكون جزاء الضال غير جزاء المهتدي، وجزاء الوالي غير جزاء العدو. ثم الدنيا على الفريقين على جهة واحدة، فلا بد من تثبيت دار أخرى، والقول بها للجزاء، فيكون فيما ذكروا إيجاب القول بالبعث والإقرار به. فهذا الذي ذكرنا يعرّفهما حال خلاف الحالة التي هم عليها، لأن الذي يمشي مكبا على غير الطريق، هو الأعمى الذي لا يبصر، والمقعد الذي لا يقوى على المشي، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم، هو الذي ليست به زمانة، ولا به عمى، يمنعه عن الصراط. فيكون قوله: {يمشي مكبا على وجهه} هو الأعمى، والذي {يمشي سويا على صراط مستقيم} هو السميع البصير، فيكون معناه ما قال في سورة هود: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا}؟ [الآية: 24]...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} راكباً رأسه في الضلالة والجهالة، وهو الكافر. وقال قتادة: هو الكافر أكبّ على معاصي الله في الدنيا، فحشره الله يوم القيامة على وجهه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وفى الآية دلالة على وجوب النظر في الدين، لأنه تعالى ضرب المثل بالناظر في ما يسلكه حتى خلص إلى الطريق المستقيم فمدحه بهذا، وذم التارك للنظر مكبا على وجهه لا يثق بسلامة طريقه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت ما معنى {يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ}؟ وكيف قابل {يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ}؟ قلت: معناه: يمشي معتسفاً في مكان معتاد غير مستو، فيه انخفاض وارتفاع، فيعثر كل ساعة فيخر على وجهه منكباً، فحاله نقيض حال من يمشي سوياً، أي: قائماً سالماً من العثور والخرور. أو مستوي الجهة قليل الانحراف، خلاف المعتسف الذي ينحرف هكذا وهكذا على طريق مستو. ويجوز أن يراد الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف، فلا يزال ينكب على وجهه، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصر، الماشي في الطريق المهتدي له، وهو مثل للمؤمن والكافر.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
أحدهما: أن المشي هنا استعارة في سلوك طريق الهدى والضلال في الدنيا.
والآخر: أنه حقيقة في المشي في الآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا فعل من لا بصر له ولا بصيرة، سبب عنه قوله ممثلاً للموحد والمشرك بسالكين، ولدينيهما بمسلكين: {أفمن يمشي} أي على وجه الاستمرار {مكباً} أي داخلاً بنفسه في الكب وصائرا إليه، وهو السقوط {على وجهه} وهو كناية عن السير على رسم مجهول وأثر معوج معلول، على غير عادة العقلاء لخلل في أعضائه، واضطراب في عقله ورأيه، فهو كل حين يعثر فيخر على وجهه، لأنه لعدم نظره يمشي في أصعب الأماكن لإمالة الهوى له عن المنهج المسلوك، وغلبة الجهل عليه فهو بحيث لا يكون تكرار المشاق عليه زاجراً له عن السبب الموقع له فيه، ولم يسم سبحانه وتعالى ممشاه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك. ولما كان ربما صادف السهل لا عن بصيرة بل اتفاقاً قال: {أهدى} أي أشد هداية {أمّن يمشي} دائماً مستمراً {سوياً} قائماً رافعاً رأسه ناصباً وجهه سالماً من العثار، لأنه لانتصابه يبصر ما أمامه وما عن يمينه وما عن شماله {على صراط} أي طريق موطأ واسع مسلوك سهل قويم {مستقيم} أي هو في غاية القوم.
هذا مثل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، فإنه يتبع الفطرة الأولى السليمة عن شهوة أو غضب أو شائبة حظ، والأول مثل الكافر، حاله في سيره إلى الله حال المكب، أي الذي كب نفسه بغاية الشهوة على وجهه، لا يرى ما حوله ولا يشعر بما أحاط به، ولا ينظر في الآيات ولا يعتبر بالمسموعات، فهو اليوم شيء باطن لظهر يوم القيامة، فيحشر على وجهه إلى النار جزاء لرضاه بحالته هذه في هذه الدار، فيظهر له سبحانه ما أبطن له اليوم، والمؤمن بخلاف ذلك فيهما، والآية من الاحتباك: ذكر الكب أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والمستقيم ثانياً دليلاً على المعوج أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم وأسر ما للمسلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كانوا -مع هذا- يتهمون النبي [صلى الله عليه وسلم] ومن معه بالضلال؛ ويزعمون لأنفسهم أنهم أهدى سبيلا! كما يصنع أمثالهم مع الدعاة إلى الله في كل زمان. ومن ثم يصور لهم واقع حالهم وحال المؤمنين في مشهد حي يجسم حقيقة الحال: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى؟ أم من يمشي سويا على صراط مستقيم؟).. والذي يمشي مكبا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلا لا على رجليه في استقامة كما خلقه الله، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه، ثم ينهض ليعثر من جديد! وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقة والعسر والتعثر، ولا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيما سويا في طريق لا عوج فيه ولا عثرات، وهدفه أمامه واضح مرسوم؟! إن الحال الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله، المحروم من هداه، الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته، لأنه يعترضها في سيره، ويتخذ له مسارا غير مسارها، وطريقا غير طريقها، فهو أبدا في تعثر، وأبدا في عناء، وأبدا في ضلال. والحال الثانية هي حال السعيد المجدود المهتدي إلى الله، الممتع بهداه، الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور، الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد. وهو موكب هذا الوجود كله بما فيه من أحياء وأشياء. إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد. وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال.. فأيهما أهدى؟ وهل الأمر في حاجة إلى جواب؟ إنما هو سؤال التقرير والإيجاب! ويتوارى السؤال والجواب ليتراءى للقلب هذا المشهد الحي الشاخص المتحرك.. مشهد جماعة يمشون على وجوههم، أو يتعثرون وينكبون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق. ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات، مستقيمة الخطوات، في طريق مستقيم، لهدف مرسوم. إنه تجسيم الحقائق، وإطلاق الحياة في الصور، على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا مثَل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين: كافر ومؤمن، لأنه جاء مفرعاً على قوله: {إن الكافرون إلاّ في غرور} [الملك: 20] وقوله: {بل لَجُّوا في عتوّ ونفور} [الملك: 21] وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله: {أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم} [الملك: 20] {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} [الملك: 21]، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثَلِ السوء، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء. ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المُنصِف نحو {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال.
والذي انقدح لي: أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله: {على صراط مستقيم} فلا بد من اعتبار مَشي المكبّ على وجهه مشياً على صراط مُعْوجّ، وتعين أن يكون في قوله: {مكباً على وجهه} استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطاً معوجاً في تأمله وترسُّمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضلّ فيه، بحال المكِبّ على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله: {سَوِيّاً} المشعر بأن {مُكباً} أطلق على غير السوي وهو المنحني المطأطئ يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود.
فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطفُ على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيلة إله أو آلهة فتقسموا الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإِشراك في كل زمان، ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39]. ويُنَور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] وقوله: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف: 108]، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإِسلام بالسُّبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبهاً بالسبيل وسالكُه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله: {وما أنا من المشركين} [يوسف: 108].
فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله {يمشي مكبّاً على وجهه} تشبيه لحال المشرك في تقسُّم أمره بين الآلهة طلباً للذي ينفعه منها الشاكّ في انتفاعه بها، بحال السائر قاصداً أرضاً معينة ليست لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلُغ إلى مقصده فيبقى حائراً متوسماً يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإِبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة.
وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليها بقوله: {مكباً على وجهه} بتشبيه حال المتحيّر المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض.
وقوله: {أمَّن يمشي سويّاً} تشبيه لحال الذي آمن بربّ واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلاّ إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره.
وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني.
والفاء التي في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا، والاستفهام تقريري.
والمُكِب: اسم فاعل من أكَب، إذا صار ذا كَبّ، فالهمزة فيه أصلها لإِفادة المصير في الشيء مثل همزة: أقشع السحابُ، إذا دخل في حالة القشع، ومنه قولهم: أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم، وأرملوا إذا فني زادهم، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعدياً والمهموز قاصراً.
و {أهدى} مشتق من الهُدَى، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكباً على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى: {قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} [يوسف: 33] في قول كثير من الأئمة. ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام.
والسويّ: الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى: {أهْدِك صراطاً سوياً} [مريم: 43]. و (أم) في قوله: {أمن يمشي سوياً} حرف عطف وهي (أم) المعادلة لهمزة الاستفهام. و (مَن) الأولى والثانية في قوله: {أفمن يمشي مكباً} أو قوله: {أمن يمشي سوياً} موصولتان ومحْملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين، وقيل: أريد شخص معيّن أريد بالأولى أبو جهل، وبالثانية النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر أو حمزة رضي الله عنهما
والصراط السوي هو الطريق المستقيم الذي يوصلك للغاية بأيسر مشقة وفي أقصر وقت، وهو الطريق الذي لا التواء فيه بحيث يكون أقرب المسافات إلى الهدف، فالطريق إذا التوى انحرف عن الهدف.
وما هو الصراط؟ إنه الطريق الموصلة إلى الغاية، والصراط المستقيم هو أقصر الطرق إلى تحقيق الغاية، فأقصر طريق بين نقطتين هو الطريق المستقيم، ولذلك إذا كنت تقصد مكانا فأقصر طريق تسلكه هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه، ولكنه مستقيم تماما.
والبعد عن الطريق المستقيم لا يبدأ بانحراف كبير، بل بانحراف صغير جدا، ولكنه ينتهي إلى تباعد كبير.