معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

{ وإنك لعلى خلق عظيم } قال ابن عباس ومجاهد : دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه ، وهو دين الإسلام . وقال الحسن : هو آداب القرآن . سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن . وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله ، والمعنى إنك لعلى الخلق الذي أمرك الله به في القرآن . وقيل : سمى الله خلقه عظيماً ، لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله : { خذ العفو }( الأعراف -199 ) الآية . وروينا عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق ، وتمام محاسن الأفعال " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله ، حدثنا إسحاق ابن منصور ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ليس بالطويل البائن ولا بالقصير " .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعى ، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء صنعته : لم صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لم تركته ؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً ، ولا مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت مسكاً ولا عطراً كان أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرني ، حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، وكان يقول : خياركم أحاسنكم أخلاقا " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس ، حدثنا مروان الفزاري ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس " أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال : يا أم فلان ، اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك ، قال : ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قضى حاجتها " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل قال : قال لي محمد بن عيسى ، حدثنا هشام ، أنبأنا حميد الطويل ، حدثنا أنس بن مالك قال : " إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا عمران بن زيد التعلبي ، عن زيد بن العمي عن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده ، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه ، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له " .

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد ، أنبأنا أبو القاسم الخزاعي ، أنبأنا الهثيم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا هرون بن إسحق الهمداني ، حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا ضرب خادماً ولا امرأة " .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني مالك بن إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس قال : " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي ، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضحك ، ثم أمر له بعطاء " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا علي المديني ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن يعلى بن مملك ، عن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن ، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، أنبأنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا داود بن يزيد الأودي سمعت أبي يقول سمعت أبا هريرة يقول : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان : الفرج والفم ، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة : تقوى الله وحسن الخلق " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن عبد الحكم ، أنبأنا أبي وشعيب قالا : حدثنا الليث عن ابن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد المطلب بن عبد الله عن عائشة ، قالت : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

ثم أثنى - سبحانه - عليه بأجمل ثناء وأطيبه فقال : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .

والخلق - كما يقول الإِمام الرازي - ملكة نفسانية ، يسهل على المتصف بها الإِتيان بالأفعال الجميلة . . . و . . .

والعظيم : الرفيع القدر ، الجليل الشأن ، السامى المنزلة .

أي : وإنك - أيها الرسول الكريم - لعل دين عظيم ، وعلى خلق كريم ، وعلى سلوك قويم ، في كل ما تأتيه وما تتركه من أقوال وأفعال . .

والتعبير بلفظ " على " يشعر بتمكنه صلى الله عليه وسلم ورسوخه في كل خلق كريم . وهذا أبلغ رد على أولئك الجاهلين الذين وصفوه بالجنون ، لأن الجنون سفه لا يحسن معه التصرف . أما الخلق العظيم ، فهو أرقى منازل الكمال ، في عظماء الرجال .

وإن القلم ليعجز عن بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة ، من ثناء من الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم .

قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره ، لهذه الآية ما ملخصه : قال قتادة : ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل السيدة عائشة عن معنى هذه الآية ، فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن . .

ومعنى هذا ، أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمرا ونهيا ، سجية له وخلقا وطبعا ، فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه ، هذا ما جبله الله عليه من الخلق الكريم ، كالحكمة ، والعفة ، والشجاعة ، والعدالة . .

وكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم جماع كل خلق عظيم وهو القائل : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم :

( وإنك لعلى خلق عظيم ) . .

وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم ؛ ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود ! ويعجز كل قلم ، ويعجز كل تصور ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود ، وهي شهادة من الله ، في ميزان الله ، لعبد الله ، يقول له فيها : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين !

ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] تبرز من نواح شتى :

تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال ، يسجلها ضمير الكون ، وتثبت في كيانه ، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله .

وتبرز من جانب آخر ، من جانب إطاقة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لتلقيها . وهو يعلم من ربه هذا ، قائل هذه الكلمة . ما هو ? ما عظمته ? ما دلالة كلماته ? ما مداها ? ما صداها ? ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة ، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين .

إن إطاقة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لتلقي هذه الكلمة ، من هذا المصدر ، وهو ثابت ، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب . . تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن . . هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل .

ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة ، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة . وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه . ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر . أعظم بصدورها عن العلي الكبير . وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير ، وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا . لا يتكبر على العباد ، ولا ينتفخ ، ولا يتعاظم ، وهو الذى سمع ما سمع من العلى الكبير !

والله أعلم حيث يجعل رسالته . وما كان إلا محمد [ صلى الله عليه وسلم ] بعظمة نفسه هذه - من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى . فيكون كفئا لها ، كما يكون صورة حية منها .

إن هذه الرسالة من الكمال والجمال ، والعظمة والشمول ، والصدق والحق ، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء . فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء . في تماسك وفي توازن ، وفي طمأنينة . طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم . ثم يتلقى - بعد ذلك - عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته ، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة . ويعلن هذه كما يعلن تلك ، لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك . . وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم . والعبد الطائع . والمبلغ الأمين .

إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة . وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة . وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر . وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها . وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار !

ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لهذه الكلمة من ربه ، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان . . لقد كان - وهو بشر - يثني على أحد أصحابه ، فيهتزكيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم . . وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر . وأصحابه يدركون أنه بشر . إنه نبي نعم . ولكن في الدائرة المعلومة الحدود . دائرة البشرية ذات الحدود . . فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله . وهو يعلم من هو الله . هو بخاصة يعلم من هو الله ! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه . ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير . . . إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير ! ! !

إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة . . إنه محمد - وحده - هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني . إنه محمد - وحده - هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية ؛ حتى لتتمثل في شخصه حية ، تمشي على الأرض في إهاب إنسان . . إنه محمد - وحده الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام . والله أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم . وأعلن في الأخرى أنه - جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته ، يصلي عليه هو وملائكته ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) . وهو - جل شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم . .

ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله ؛ وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية .

والناظر في هذه العقيدة ، كالناظر في سيرة رسولها ، يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها ، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء . . الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل ، ومطابقتهما معا للنية والضمير ؛ والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل ، والاعتداء على الحرمات والأعراض ، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور . . والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك ، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع . وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء .

والرسول الكريم يقول : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . . فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل . وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم . وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية ، وصورة رفيعة ، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . . فيمجد بهذا الثناء نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم ، ويشد به الأرض إلى السماء ، ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم .

وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام . فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة ، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقا ؛ وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل . إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء . تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق . وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة ، كي يحققوا إنسانيتهم العليا ، وكي يصبحوا أهلا لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض ؛ وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) . . ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض ؛ إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر ، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد ومن كل قيد .

ثم إنها ليست فضائل مفردة : صدق . وأمانة . وعدل . ورحمة . وبر . . . . إنما هي منهج متكامل ، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية ؛ وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعا ، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله . لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة !

وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وتمثلت في ثناء الله العظيم ، وقوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

وقوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال العوفي ، عن ابن عباس : أي : وإنك لعلى دين{[29147]} عظيم ، وهو الإسلام . وكذلك قال مجاهد ، وأبو مالك ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وابن زيد .

وقال عطية : لعلى أدب عظيم . وقال مَعْمَر ، عن قتادة : سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : كان خلقه القرآن ، تقول كما هو في القرآن .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة قوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ذكر لنا أن سعد{[29148]} بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى{[29149]} عن سعد بن هشام قال : سألت عائشة فقلت : أخبريني يا أم المؤمنين - عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : أتقرأ القرآن ؟ فقلتُ : نعم . فقالت : كان خلقه القرآن{[29150]} .

هذا حديث طويل . وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه ، من حديث قتادة بطوله{[29151]} وسيأتي في سورة " المزمل " إن شاء الله تعالى .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا يونس ، عن الحسن قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن{[29152]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا شريك ، عن قيس بن وهب ، عن رجل من بني سواد قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : أما تقرأ القرآن : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ؟ قال : قلت : حدثيني عن ذاك . قالت : صنعت له طعامًا ، وصنعت له حفصة طعامًا ، فقلت لجاريتي : اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبلُ فاطرحي الطعام ! قالت : فجاءت بالطعام . قالت : فألقت{[29153]} الجارية ، فوقعت القصعة فانكسرت - وكان نِطْعًا {[29154]} - قالت : فجمعه رسول الله وقال : " اقتضوا - أو : اقتضى - شك أسود - ظَرفًا مكان ظَرفِك " . قالت : فما قال شيئًا{[29155]} .

وقال ابن جرير : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس ، حدثنا أبي ، حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن سعد{[29156]} بن هشام : قال : أتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها : أخبريني بخلُق النبي{[29157]} صلى لله عليه وسلم . فقالت : كان خلقه القرآن . أما تقرأ : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }

وقد روى أبو داود والنسائي ، من حديث الحسن ، نحوه{[29158]}

وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، وأخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبَير بن نفير قال : حججتُ فدخلتُ على عائشة ، رضي الله عنها ، فسألتها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن .

وهكذا رواه أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي . ورواه النسائي في التفسير ، عن إسحاق بن منصور ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، به{[29159]}

ومعنى هذا أنه ، عليه السلام ، صار امتثالُ القرآن ، أمرًا ونهيًا ، سجية له ، وخلقًا تَطَبَّعَه ، وترك طبعه الجِبِلِّي ، فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه . هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم ، من الحياء والكرم والشجاعة ، والصفح والحلم ، وكل خلق جميل . كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي : " أف " قط ، ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته ؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم{[29160]}

وقال البخاري : [ حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله ]{[29161]} حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها ، وأحسن الناس خلقًا ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير{[29162]}

والأحاديث في هذا كثيرة ، ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب " الشمائل " .

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له قط ، ولا امرأة ، ولا ضرب بيده شيئًا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله . ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا ، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله ، فيكون هو ينتقم لله ، عز وجل{[29163]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق " . تفرد به{[29164]}


[29147]:- (1) في أ: "لعلى خلق".
[29148]:- (2) في أ: "أ، سعيد".
[29149]:- (3) في أ: "زرارة بن أبي أوفي".
[29150]:- (4) تفسير عبد الرزاق (2/245).
[29151]:- (5) صحيح مسلم برقم (746).
[29152]:- (6) المسند (6/216).
[29153]:- (7) في أ: "فالتفتت".
[29154]:- (8) في هـ، م، أ: "نطع"، والمثبت من المسند.
[29155]:- (1) المسند (6/11).
[29156]:- (2) في هـ، أ: "سعيد"، والمثبت من م وتفسير الطبري.
[29157]:- (3) في م: "رسول الله".
[29158]:- (4) تفسير الطبري (29/13) وسنن أبي داود برقم (1352) وسنن النسائي (3/220).
[29159]:- (5) تفسير الطبري (29/13) والمسند (6/188) وسنن النسائي الكبرى برقم (11138).
[29160]:- (6) صحيح البخاري برقم (6038) وصحيح مسلم برقم (2309).
[29161]:- (7) زيادة من م، أ، وصحيح البخاري.
[29162]:- (8) صحيح البخاري برقم (3549).
[29163]:- (1) المسند (6/232).
[29164]:- (2) المسند (2/381).