قوله تعالى : { قل أرأيتم } معناه : أخبروني ماذا تقولون ، { إن كان } يعني القرآن ، { من عند الله وكفرتم به } يا أيها المشركون ، { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } المثل : صلة ، يعني : عليه ، أي على أنه من عند الله ، { فآمن } يعني الشاهد ، { واستكبرتم } عن الإيمان به ، وجواب قوله : إن كان من عند الله محذوف ، على تقدير : أليس قد ظلمتم ؟ يدل على هذا المحذوف قوله : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقال الحسن : جوابه ، ( فمن أضل منكم ) ، كما قال في سورة السجدة . واختلفوا في هذا الشاهد ، قال قتادة والضحاك : هو عبد الله بن سلام ، شهد على نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به ، واستكبر اليهود فلم يؤمنوا .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن أبي بكر ، حدثنا حميد ، عن أنس قال : " سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف النخل ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبريل آنفاً ، قال : جبريل ؟ قال : نعم ، قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : { قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله }( البقرة-97 ) ، فأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني ، فجاءت اليهود ، فقال لهم : أي رجل عبد الله فيكم ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج عبد الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا ، فانتقصوه ، قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن يوسف قال : سمعت مالكاً يحدث عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام " ، وفيه نزلت هذه الآية : { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } قال : ( لا أدري ) قال الراوي مالك الآية أو في الحديث . وقال الآخرون الشاهد هو موسى بن عمران . وقال الشعبي قال مسروق في هذه الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن آل حم نزلت بمكة ، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة ، ونزلت هذه الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه ، ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد صلى الله عليه وسلم على القرآن ، وكل واحد يصدق الآخر . وقيل : هو نبي من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم فلم تؤمنوا .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى ، أن يذكرهم بإيمان العقلاء من أهل الكتاب بهذا الدين ، لعلهم عن طريق هذا التذكير يقلعون عن كفرهم وعنادهم فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ } .
أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين : أخبرونى إن كان هذا الذى أوحاه الله - تعالى - إلىّ من قرآن ، هو من عنده - تعالى - وحده ، والحال أنكم كفرتم به ألستم فى هذه الحالة تكونون ظالمين لأنفسكم وللحق الذى جئتكم به من عند خالقكم ؟ لا شك أنكم فى هذه الحالة تكونون ظالمين جاحدين .
وقوله - سبحانه - : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم . . } معطوف على ما قبله على سبيل التأكيد لظلمهم .
أى : أخبرونى إن كان هذا القرآن من عند الله ، والحال أنكم قد كفرتم به ، مع أن شهادا من بنى إسرائيل الذين تثقون بشهادتهم ، قد شهد على مثل القرآن بالصدق . لاتفاق التوراة والقرآن على وحدانية الله - تعالى - وعلى أن البعث حق ، وعلى أن الجزاء حق . . فآمن هذا الشاهد بالقرآن وبمن جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستكبرتم أنتم عن الإِيمان . .
ألستم فى هذا الحالة تكونون على رأس الظالمين الجاحدين لكل ما هو حق وصدق ؟ ! فجواب الشرط فى الآية محذوف . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا ومع ذلك لم تؤمنوا فقد كفرتم وظلمتم ، والله - تعالى - لا يهدى القوم الذين من شأنهم استحباب الظلم على العدل ، والعمى على الهدى .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } قال صاحب الكشاف - رحمه الله - : جواب الشرط محذوف وتقديره . إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ، ألستم ظالمين ، ويدل على هذا المحذوف قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .
والشاهد من بنى إسرائيل : عبد الله بن سلام . . وفيه نزل : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ . . . } .
والضمير للقرآن . أى : على مثله فى المعنى ، وهو ما فى التوارة من المعانى المطابقة لمعانى القرآن من التوحيد والوعيد وغير ذلك .
وعلى رأى صاحب الكشاف تكون الآية مدنية فى سورة مكية ، لأن إيمان عبد الله بن سلام - رضى الله عنه - كان بالمدينة ولم يكن بمكة .
ومن المفسرين من يرى أن الآية الكريمة نزلت فى شأن من كل من آمن من أهل الكتاب ، وأنها لم تنزل فى عبد الله بن سلام بصفة خاصة . .
قال الإِمام ابن كثير : وهذا الشاهد اسم جنس ، يعم عبد الله بن سلام وغيره ، فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام ، وهذه كقوله - تعالى - : { وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } قال مسروق والشعبى : ليس بعبد الله بن سلام . هذه الآية مكية ، وإسلامه كان بالمدينة . .
وقال مالك عن ابى النضر ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشى على الأرض : " إنه من أهل الجنة " إلا لعبد الله بن سلام ، قال : وفيه نزلت : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ } . . وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة .
وعلى آية حال فالمقصود من الآية الكريمة إثبات أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق فيما يبلغه عن ربه ، وأن العقلاء من أهل الكتاب قد شهدوا بذلك ، وآمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - فكان من الواجب على المشكرين - لو كانوا يعقلون -أن يقعلوا عن عنادهم ، وأن يتبعوا الحق الذى جاءهم به النبى - صلى الله عليه وسلم - .
ثم يواجههم بشاهد قريب ، لشهادته قيمتها ، لأنه من أهل الكتاب الذين يعرفون طبيعة التنزيل :
( قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ، فآمن واستكبرتم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
وقد تكون هذه واقعة حال ، ويكون واحد أو أكثر من بني إسرائيل ، عرف أن طبيعة هذا القرآن هي طبيعة الكتب المنزلة من عند الله ، بحكم معرفته لطبيعة التوراة . فآمن . وقد وردت روايات أنها نزلت في عبد الله ابن سلام . لولا أن هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة . وقد ورد كذلك أن هذه الآية مدنية توكيدا لنزولها في شأن عبد الله - رضي الله عنه - . كما ورد أنها مكية وأنها لم تنزل فيه .
وقد تكون إشارة إلى واقعة أخرى في مكة نفسها . فقد آمن بعض أهل الكتاب على قلة في العهد المكي .
وكان لإيمانهم ، وهم أهل كتاب ، قيمته وحجيته في وسط المشركين الأميين . ومن ثم نوه به القرآن في مواضع متعددة ، وواجه به المشركين الذين كانوا يكذبون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
وهذا الأسلوب في الجدل : قل : أرأيتم إن كان من عند الله . . . الخ يراد به زعزعة الإصرار والعناد في نفوس أهل مكة ، وإثارة التخوف في نفوسهم والتحرج من المضي في التكذيب . ما دام أن هذا القرآن يحتمل أن يكون من عند الله حقا كما يقول محمد . وفي هذه الحالة تكون العاقبة وخيمة . فأولى لهم أن يحتاطوا لهذا الفرض ، الذي قد يصح ، فيحل بهم كل ما ينذرهم به . ومن الأحوط إذن أن يتريثوا في التكذيب ، وأن يتدبروا الأمر في حرص وفي حذر ، قبل التعرض لتلك العاقبة الوخيمة . وبخاصة إذا أضيف إلى ذلك الاحتمال أن واحدا أو أكثر من أهل الكتاب يشهد بأن طبيعته من طبيعة الكتاب قبله ؛ ويتبع هذا التذوق بالإيمان . بينما هم الذين جاء القرآن لهم ، وبلغتهم ، وعلى لسان رجل منهم ، يستكبرون ويكفرون . . وهو ظلم بين وتجاوز للحق صارخ ، يستحق النقمة من الله وإحباط الأعمال : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ولقد سلك القرآن شتى السبل ، واتبع شتى الأساليب ، ليواجه شكوك القلب البشري وانحرافاته وآفاته ؛ ويأخذ عليها المسالك ؛ ويعالجها بكل أسلوب . وفي أساليب القرآن المتنوعة زاد للدعوة والدعاة إلى هذا الدين . . ومع اليقين الجازم بأن هذا القرآن من عند الله فقد استخدم أسلوب التشكيك لا أسلوب الجزم للغرض الذي أسلفنا . وهو واحد من أساليب الإقناع في بعض الأحوال . .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين لهذا القرآن لما جاءهم هذا سحر مبين "أرأيْتُمْ "أيها القوم "إنْ كانَ" هذا القرآن "مِنْ عِنْدِ اللّهِ" أنزله عليّ "وكَفَرْتُمْ" أنتم "بِهِ" يقول: وكذّبتم أنتم به.
وقوله: "وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ"؛ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: وشهد شاهد من بني إسرائيل، وهو موسى بن عمران عليه السلام على مثله، يعني على مثل القرآن، قالوا: ومثل القرآن الذي شهد عليه موسى بالتصديق التوراة... عن مسروق في هذه الآية: "وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ" فخاصم به الذين كفروا من أهل مكة، التوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم... قال مسروق: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، ما نزلت إلا بمكة، وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه، قال: فنزلت "قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ" قال: فالتوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بالتورَاة وبرسولهم، وكفرتم...
وقال آخرون: عنى بقوله: "وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ" عبد الله بن سلام، قالوا: ومعنى الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل هذا القرآن بالتصديق. قالوا: ومثل القرآن التوراة...
والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل، لأن قوله: "قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ" في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجا عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدّم الخبر عنهم معنى، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك، وشهد عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني على مثل القرآن، وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمدا مكتوب في التوراة أنه نبيّ تجده اليهود مكتوبا عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبيّ.
وقوله: "فآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ" يقول: فآمن عبد الله بن سلام، وصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من عند الله، واستكبرتم أنتم على الإيمان بما آمن به عبد الله بن سلام معشر اليهود.
"إنّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ" يقول: إن الله لا يوفّق لإصابة الحقّ، وهدى الطريق المستقيم، القوم الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بإيجابهم لها سخط الله بكفرهم به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
والأشبه في هذا أن يكون قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} التوراة أو موسى عليه السلام على ذلك بقوله تعالى: {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مُصدّق لسانا عربيا} [الأحقاف: 12] شهِد كتاب رسول الله ورسوله عليه السلام، والله أعلم، ولأن عبد الله ابن سلام إنما أسلم بالمدينة... وهذه السورة مكية...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جواب الشرط محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين. ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين}... {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسرائيل على مِثْلِهِ} الضمير للقرآن، أي: على مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك. ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الاولين} [الشعراء: 196]، {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى} [الأعلى: 18]، {كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} [الشورى: 3] ويجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك، يعني كونه من عند الله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية توقيف على الخطر العظيم الذي هم بسبيله في أن يكذبوا بأمر نافع لهم منج من العذاب دون حجة ولا دليل لهم على التكذيب، فالمعنى كيف حالكم مع الله، وماذا تنتظرون منه وأنتم قد كفرتم بما جاء من عنده...
أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وحصل أيضا شهادة أعلم بني إسرائيل بكونه معجزا من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألستم أضل الناس وأظلمهم، واعلم أن جواب الشرط قد يحذف في بعض الآيات وقد يذكر...
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} على قولين:
(الأول) وهو الذي قال به الأكثرون أن هذا الشاهد عبد الله بن سلام...
القول الثاني: في تفسير قوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} أنه ليس المراد منه شخصا معينا بل المراد منه أن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم موجود في التوراة والبشارة بمقدمه حاصلة فيها فتقدير الكلام لو أن رجلا منصفا عارفا بالتوراة أقر بذلك واعترف به، ثم إنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنكرتم ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم ضالين عن الحق؟ فهذا الكلام مقرر سواء كان المراد بذلك الشاهد شخصا معينا أو لم يكن كذلك لأن المقصود الأصلي من هذا الكلام أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب من عند الله وثبت أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم ومع هذين الأمرين كيف يليق بالعقل إنكار نبوته.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {على مثله} ذكروا فيه وجوها، والأقرب أن نقول إنه صلى الله عليه وسلم قال لهم أرأيتم إن كان هذا القرآن من عند الله كما أقول وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما قلت فآمن واستكبرتم ألستم كنتم ظالمين أنفسكم.
ثم قال تعالى: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تهديد وهو قائم مقام الجواب المحذوف والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالين.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما منعهم الهداية بناء على الفعل القبيح الذي صدر منهم أولا، فإن قوله تعالى: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} صريح في أنه تعالى لا يهديهم لكونهم ظالمين أنفسهم فوجب أن يعتقدوا في جميع الآيات الواردة في المنع من الإيمان والهداية أن يكون الحال فيها كما هاهنا، والله أعلم.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} والمعنى قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله، فإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل أرءيتم} أي أخبروني وبينوا لي وأقيموا ولو ببعض حجة أو برهان {إن كان} أي هذا الذي يوحى إليّ وآتيكم به وأنذركم وأعلمكم أنه من الله فإنه {من عند الله} أي الملك الأعظم...
{وكفرتم به} أي على هذا التقدير {وشهد شاهد} أي واحد وأكثر {من بني إسرائيل} الذين جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم {على مثله} أي مثل ما في القرآن من أن من وحد فقد آمن، ومن أشرك فقد كفر،...
{فآمن} أي هذا الذي شهد هذه الشهادة بهذا القرآن عندما رآه مصدقاً لما ذكر وعلم أنه الكتاب الذي بشرت به كتبهم، فاهتدى إلى وضع الشيء في محله فوضعه ولم يستكبر...
{واستكبرتم} أي أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرئاسة والفخر والنفاسة، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة أصلاً فضللتم فكفرتم- فوضعتم الشيء في غير موضعه فانسد عليكم باب الهداية... {إن الله} أي الملك الأعظم ذا العزة والحكمة {لا يهدي القوم} أي الذين لهم قدرة على القيام بما يريدون محاولته {الظالمين} أي الذين من شأنهم وضع الأمور غير مواضعها، فلأجل ذلك لا يهديكم لأنه لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه ضلالكم...
(قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد} [فصلت: 52] فالآية من الاحتباك: ذكر الإيمان أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والاستكبار والظلم وعدم الهداية ثانياً دليلاً على أضدادها أولاً، وسره أنه شكر سببي السعادة ترغيباً وترهيباً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمِثل: المماثل والمشابه في صفة أو فعل، وضمير {مثله} للقرآن فلفظ {مثله} هنا يجوز أن يحمل على صريح الوصف، أي على مماثل للقرآن فيما أنكروه مما تضمنه القرآن من نحو توحيد الله وإثبات البعث وذلك المثل هو كتاب التوراة أو الزبور من كتب بني إسرائيل يومئذٍ. ويجوز أن يحمل المِثل على أنه كناية عما أضيف إليه لفظ (مثل)، فيكون لفظ (مثل) بمنزلة المقحم على طريقة قول العرب: « مثلك لا يبخل»، وكما هو أحد محملين في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]. فالمعنى: وشهد شاهد على صدق القرآن فيما حواه...
ويجوز يكون ضمير {مثله} عائداً على الكلام المتقدم بتأويل المذكور، أي على مثل ما ذكر في أنه {من عند الله} وأنه ليس بدعا من كتب الرسل...
فالمراد ب {شاهد من بني إسرائيل} شاهدٌ غيرُ معين، أي أيَّ شاهد، لأن الكلام إنباء لهم بما كانوا يتساءلون به مع اليهود...
والظاهر أن مثل هذه الآية هو الذي جرّأ المشركين على إنكار نزول الوحي على موسى وغيره من الرسل فقالوا: {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} [سبأ: 31] وقالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] حين علموا أن قد لزمتهم الحجة بنزول ما سلف من الكتب قبل القرآن...
... وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} هذه الكلمة حَلَّتْ لنا إشكالاً وبيَّنتْ معنى الهداية، لأن البعض يقول: إذا كان الله قد حكم على الكافر بالكفر ولم يهْد القوم الظالمين فلِمَ يُعذّبهم؟
وهذه مغالطة. ولو كان السؤال منطقياً لأكمل الصورة، فقال: ولِمَ يثيب الطائع وقد كتب له الطاعة؟
وسبق أنْ أوضحنا في هذه المسألة أن الله تعالى هدى الجميع هدايةَ دلالة وإرشاد، وهذا القسم يشمل المؤمن والكافر، والطائع والعاصى، فقد دلّ الله الجميع وبيَّن لهم الطريق المستقيم، فمن أخذ بهذه الهداية وسار على نورها استحقَّ من الله المزيد.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] وهذا النوع هو النوع الثاني من الهداية، وهي هداية المعونة والتوفيق.
فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يعني: لا يهديهم هدايةَ معونة، لذلك قال عن ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ..} [فصلت: 17] أي: هديناهم هدايةَ دلالة وإرشاد فاستحبُّوا العمى والضلال وفضّلوه على الهدى فأعانهم الله عليهم، كما أعان أهل الهدى على هداهم.
وتذكرون المثل الذي ضربناه سابقاً لتوضيح هذه القضية قلنا: لو أنك سألتَ رجل المرور مثلاً عن الطريق فدلَّك عليه فأخذتَ بقوله وشكرتَه فإنه يزيدك إرشاداً، وربما ذهب معك حتى يُوصِّلك إلى غايتك.
إذن: الحق سبحانه لا يهدي القوم الظالمين بسبب ظلمهم، ولا يهدي القوم الفاسقين بسبب فِسْقهم، ولا يهدي القوم الكافرين بسبب كفرهم.