فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرۡتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَلَىٰ مِثۡلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (10)

{ قل أرأيتم } أي أخبروني ماذا حالكم { إن كان } ما يوحى إلي من القرآن { من عند الله } وقيل المراد محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى إن كان مرسلا من عند الله في الحقيقة .

{ و } الحال أنكم قد { كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل } العالمين بما أنزل الله في التوراة { على مثله فآمن } أي على مثل القرآن من المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير ذلك ، وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني ، وإن اختلفت الألفاظ ، قال الجرجاني : مثل صلة ، والمعنى وشهد شاهد عليه أنه من عند الله ، وكذا قال الواحدي : فآمن الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله ، ومن جنس ما ينزله على رسله .

وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام ، كما قال الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم ، وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة ، فيكون المراد بالشاهد رجلا من أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة ، وصدقه واختار هذا ابن جرير والراجح أنه عبد الله بن سلام وأن هذه الآية مدنية لا مكية ، وروي عن مسروق أن المراد بالرجل موسى عليه السلام وشهادته ما في التوراة من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : " ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض : إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ، وفيه نزلت : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله " .

وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال : " نزل فيّ آيات من كتاب الله نزلت في { وشهد شاهد من بني إسرائيل } ونزل فيّ { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب }

وعن ابن عباس قال هو عبد الله بن سلام وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين . وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية ، وإياه ذكر الكواشي وكونه إخبارا قبل الوقوع خلاف الظاهر ، ولذا قيل لم يذهب أحد إلى أن الآية مكية إذا فسر الشاهد بابن سلام وفيه بحث لأن قوله وشهد شاهد معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا فلا ضرر في شهادة الشاهد بعد نزولها وادعاء أنه لم يقل به أحد من السلف مع ذكره في شروح الكشاف لا وجه له إلا أن يراد من السلف المفسرون ، قاله الشهاب .

{ واستكبرتم } أي آمن الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان ، وقد اختلف في جواب الشرط ما هو ؟ فقال الزجاج محذوف تقديره أتؤمنون ؟ وقيل تقديره فقد ظلمتم لدلالة أن الله لا يهدي الخ عليه ، وقيل تقديره فمن أضل منكم ؟ وقيل : قوله فآمن واستكبرتم ، وقال أبو علي الفارسي تقديره أتأمنون عقوبة الله ؟ وقيل التقدير ألستم ظالمين .

{ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } فحرمهم الله سبحانه الهداية بظلمهم لأنفسهم بالكفر ، بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان ومن فقد هداية الله له ضل ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال " انطلق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا ، فقال أبيتم فوالله لأنا الحاشر ، وأنا العاقب ، وأنا المقفي ، آمنتم أو كذبتم ، ثم انصرف ، وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه ، فقال : كما أنت يا محمد ، فأقبل فقال ذلك الرجل أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود ؟ فقالوا : والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ، ولا من أبيك ، ولا من جدك ، فقال : فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل ، قالوا كذبت ، ثم ردوا عليه ، وقالوا شرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبتم لن يقبل منكم قولكم ، فخرجنا ونحن ثلاثة رسول الله وأنا وابن سلام ، فأنزل الله : { قل أرأيتم إن كان من عند الله } إلى قوله : { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } أخرجه أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه ، وصححه السيوطي .