اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرۡتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَلَىٰ مِثۡلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (10)

قوله : { أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله } مفعولا «أرأيتم » محذوفان تقديره أرأيتم حالكم إنْ كَانَ كَذَا لستم ظالمين ؟ وجواب الشرط أيضاً محذوف تقديره : فقد ظَلَمْتُمْ . ولهذا أتى بفعل الشرط{[50836]} ماضياً . وقدره الزمخشري : ألستم ظالمين{[50837]} ؟ ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت الفاء ، لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لزمت الفاء . ثم إن كانت أداة الاستفهام همزة فقدمت على الفاء نحو : إنْ تَزُرْنَا أَفَلاَ نُكْرِمُكَ ؟ وإن كانت غيرها تقدمت الفاء عليها نحنو : إنْ تَزُرْنَا فَهَلْ تَرَى إلاَّ خَيْراً{[50838]} ؟

قال شهاب الدين : والزمخشري ذكر أمراً تقديرياً فسر به المعنى لا الإعراب{[50839]} .

وقال ابن عطية و«أرَأَيْتُم » يحتمل أن تكون مُنَبِّهة ، فهي لفظ موضوع للسؤال ، لا يقتضي مفعولاً . ويحتمل أن تكون الجملة كان وما عملت سادّة مسدّ مفعوليها{[50840]} . قال أبو حيان : وهذا خلاف ما قرّره النحاة{[50841]} ، وقد تقدم تحقيق مَا قَرَّره . وقيل : جواب الشرط هو قوله : { فَآمَنَ واستكبرتم }{[50842]} . وقيل : هو محذوف تقديره فمن المُحِقّ منا والمبطل ؟{[50843]} وقيل : «فمن أضل »{[50844]} . قال ابن الخطيب : جواب الشرط محذوف ، والتقدير أن يقال : إن كان هذا الكتاب من عند الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ به وشَهِدَ شاهدٌ مِنْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ على صحته ثم استكبرتم لكنتم من الخاسرين .

ثم حذف هذا الجواب . ونظيره قوله : «إنْ أَحْسَنْتَ إلَيْكَ وأَسَأتَ إلَيَّ وأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ{[50845]} وأَعرضْتَ عني فَقَدْ ظَلَمْتَنِي » وكذا ههنا التقدير أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله بسبب عجز الخلق عن معارضته ثم كفرتم به وجعل أيضاً شاهده{[50846]} أعلم بني إسرائيل بكونه معجزاً من عند الله فلو استكبرتم وكفرتم ألسم أضل الناس وأظلمهم ؟ واعلم أن جواب الشرط محذوف في بعض الآيات كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } [ الرعد : 13 ] وقد يذكر كما في قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ } [ فصلت : 52 ] وقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله } [ القصص : 71 ] .

فصل

معنى الآية أخبروني ماذا تقولون «إنِْ كَانَ » يعني القرآن { مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ } أيها المشركون { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ } . المثل صلة بعين عَلَيْهِ أي على أنه من عند الله فَآمَنَ يعني الشاهد «وَاسْتَكْبَرتُمْ » عن الإيمان به . واختلفوا في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو عبد الله بن سلام شهد نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم فآمن{[50847]} به ، واستكبر اليهود ، فلم يؤمنوا كما روى أنس ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ{[50848]} ) قال : «سمع عبد الله بن سَلاَم بِمَقْدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه وهو يخترف في أرض ، فنظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس وجه كَذَّاب ، وتأمله فتحقق أنه النبي المُنْتَطَر فقال له : إني سائلك عن ثلاثة لا يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ نبي ، ما أوَّلُ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ ؟ وما أوَّلُ طَعَام أهْلِ الجَنَّةِ ؟ وما ينزع الولد{[50849]} إلى أبيه أو إلى أمه . فقال صلى الله عليه وسلم أخبرني بهن جبريلُ آنفاً قال : جبريل قال : نعم قال : ذَاكَ عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ البقرة : 97 ] . أم أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المَشْرِق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كَبِد حُوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعهُ وإن سبق ماء المرأة نزعته فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً . ثم قال يا رسول الله : إن اليهود قوم بُهْتٌ ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بَهَتُونِي عنْدك ، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أيُّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خَيْرُنا وابن خَيْرِنَا وسيدُنا وابنُ سيِّدِنا وِأعلَمُنا وابن أَعْلَمِنَا قال : أفرأيتم ( إن أسلم ){[50850]} عبد الله بن سلام ؟ فقالوا : أعاذَه الله من ذلك فخرج إليه عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسولُ الله فقالوا : أشَرُّنَا وابْنُ شَرِّنَا وانتقصوه فقال : هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله فقال سعد بن أبي وقّاص : ما كنا نقول وفي رواية ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمْشِي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سَلاَم وفيه نزلت هذه الآية : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ } .

وقيل : الشاهد : هو موسى بن عِمْرَانَ عليه الصَّلاَة والسَّلام قال الشعبي : قال مسروق في هذه الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ، لأن آل حم نزلت بمكة ، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين ، فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعةٍ حدثت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؟ ! وإنما نزلت الآية في محاجّة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه . وأجاب{[50851]} الكلبيُّ بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدينة وكانت الآية تنزل فيأمر{[50852]} رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضَعَهَا في سورة كَذَا وكَذَا ، وهذه الآية نزلت بالمدينة وأنّ الله تعالى أمر رسوله بأن يضعها في السورة المكية في هذا الموضع المعين{[50853]} . قال ابن الخطيب : ولِقائِلٍ أن يقول : إن الحديث الذي رَوَيْتُمْ عن عبد الله بن سلام مشكِلٌ ؛ لأن ظاهر الحديث يشعر بأنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل الثلاث ، فلما أجاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك{[50854]} الجواب آمن{[50855]} عبد الله بن سلام لأجل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تلك الجوابات وهذا بعيدٌ من وَجْهَيْنِ :

الأول : أن الإخبار عن أول أشراط الساعة وعن أول طعام يأكله أهل الجنة إخْبَار عن وقوع شيءٍ من المُمْكِنَات ، وما هذا سبيله فإنه لا يُعْرَفُ كَوْنُ ذلك الخبر صدقاً إلاَّ إذا عرف أولاً كونُ المُخْبر صادقاً ، فلو عرفنا صدق المُخْبِر يكون ذلك الخبر{[50856]} صادقاً لزم الدور . وهو محال .

الثاني : أنا نعلم بالضرورة أن الجوابات المذكورة عن هذه المسائل لا يبلغ العلم بها إلى حدِّ الإعجاز ألبتة بل نقول : الجوابات الباهرة عن المسائل الصعبة لما يبلغ{[50857]} إلى حد الإعجاز .

والجواب يحتمل أنه جاء في بعض كتب الأنبياء المتقدمين أن رَسُولَ آخِرِ الزمان يُسْأَلُ عن هذه المسائل وهو يجيب عنها بهذه الجوابات وكان عبد الله بن سلام عالماً بهذا المعنى ولما سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاب بتلك الأجوبة فلا حاجة بنا إلى أن نقول : العِلْمُ بهذه الجوابات مُعْجزةٌ والله أعلم{[50858]} .

وقيل : المراد بالشاهد التوراة{[50859]} . ومثل القرآن هو التوراة فشهد موسى على التوراة ، ومحمد على الفرقان ، وكل واحد يُصَدِّقُ الآخرَ ، لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن مصدق التوراة ثم قال : { فَآمَنَ واستكبرتم } فلم تؤمنوا { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } وهذا تهديد . وهو قائم مقام الجواب المحذوف ، والتقدير قل أرأيتم إنْ كَانَ من عند الله ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالّين .


[50836]:قاله أبو حيان في البحر المحيط 8/57.
[50837]:الكشاف 3/517 و518.
[50838]:البحر المحيط المرجع السابق.
[50839]:الدر المصون 5/4.
[50840]:نقله عنه أبو حيان في البحر 8/57.
[50841]:المرجع السابق.
[50842]:ذكره أبو حيان ولم ينسبه.
[50843]:السابق.
[50844]:ذكره أبو حيان عن الحسن رضي الله عنه.
[50845]:في الرازي: عليك.
[50846]:وفيه: وجعل شهادة.
[50847]:في ب وأمر به.
[50848]:زيادة من أ.
[50849]:في ب الوالد تحريف.
[50850]:ما بين القوسين سقط من أ الأصل.
[50851]:في ب فأجاب.
[50852]:كذا في النسختين وهو تحريف من الناسخ والأصح فيؤمر للمفعول.
[50853]:وانظر في هذا تفسير الإمام الفخر الرازي 28/9 و10 وانظر في هذا أيضا القرطبي 16/188 و189 والكشاف للزمخشري 3/518.
[50854]:في ب بهذا الجواب وفي الرازي بتلك الجوابات.
[50855]:كذا في النسختين وفي الرازي: من.
[50856]:في ب المخبر.
[50857]:في ب تبلغ وفي الرازي: لما لم يبلغ العلم بها.
[50858]:الرازي 28/10.
[50859]:القرطبي 16/188 وهو رأي مسروق. وانظر البحر المحيط أيضا 8/57 و58.