السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كَانَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرۡتُم بِهِۦ وَشَهِدَ شَاهِدٞ مِّنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَلَىٰ مِثۡلِهِۦ فَـَٔامَنَ وَٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (10)

{ قل } يا أفضل الخلق لهؤلاء المصرّين على التكذيب { أرأيتم } أي : أخبروني { إن كان } أي : هذا الذي أتيتكم به وهو القرآن { من عند الله } أي : الملك الأعظم . { وكفرتم به } أي : أيها المشركون { وشهد شاهد } واحد أو أكثر { من بني إسرائيل } أي : الذي جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم { على مثله } أي : مثل ما في القرآن من أنّ من وحد فقد آمن ومن أشرك فقد كفر وأن الله تعالى أنزل ذلك في التوراة والإنجيل وجميع أسفارهم فتطابقت عليه كتبهم وتضافرت به رسلهم ، وتواترت على الدعاء إليه والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام { فآمن } أي : هذا الذي شهد هذه الشهادة { واستكبرتم } أي : أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرياسة والفخر ، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة فضللتم ، فوضعتم الشيء في غير موضعه ، فانسدّ عليكم باب الهداية .

واختلف في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين : هو عبد الله بن سلام شهد بنبوّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به ، واستكبرت اليهود فلم يؤمنوا به . كما روى أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فنظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس وجه كذاب ، وتأمّله فتحقق أنه النبيّ المنتظر ، فقال له : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبي : «ما أوّل أشراط الساعة ؟ وما أوّل طعام أهل الجنة ؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمّه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أخبرني بهنّ جبريل آنفاً قال : جبريل ؟ قال : نعم قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ { من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله } ( البقرة : 97 ) ثم قال : أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت . وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإذا سبق ماء المرأة نزعته . فقال : أشهد أنك لرسول الله حقاً . ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أيّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال أفرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام ؟ فقالوا : أعاذه اللّه من ذلك فخرج إليهم عبد اللّه فقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه ، فقالوا : شرّنا وابن شرّنا ، وانتقصوه فقال : هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله . قال سعد بن أبي وقاص : «ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام ؟ وفيه نزلت هذه الآية { وشهد شاهد من بني إسرائيل } ( الأحقاف : 10 ) وقيل : الشاهد هو موسى بن عمران قال الشعبي : قال مسروق في هذه الآية : والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأنّ ال { حم } نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ؟ وإنما نزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بالمدينة وأجاب الكلبي : بأنّ السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية ، وأن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين . وقيل المراد بالشاهد موسى ، ومثل القرآن هو التوراة . فشهد موسى على التوراة ، ومحمد على الفرقان فكل واحد يصدّق الآخر : لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن مصدّق للتوراة .

وجواب الشرط : ألستم ظالمين دل عليه قوله تعالى : { إن الله } أي : الملك الأعظم ذا العزة والحكمة { لا يهدي القوم } أي : الذين لهم قوّة على القيام بما يريدون { الظالمين } أي : الذين من شأنهم وضع الأمور في غير مواضعها فلأجل ذلك لا يهديكم ، إذ لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه هلاككم .