{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال مقاتل : يعني كفار مكة ، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة ، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه ، ولم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره ، ثم يعذبون على ترك الشكر ، هذا قول الحسن . وعن ابن مسعود رفعه قال : { لتسألن يومئذ عن النعيم } قال : " الأمن والصحة " . وقال قتادة : إن الله يسأل كل ذي نعمة عما أنعم عليه .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الضحاك بن عرزم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة يقول : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصح جسمك ؟ ونروك من الماء البارد " .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شيبان أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد ، فأتاه أبو بكر فقال : ما جاء بك يا أبا بكر ؟ فقال : خرجت لألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنظر إلى وجهه ، وللتسليم عليه ، فلم يلبث أن جاء عمر ، فقال : ما جاء بك يا عمر ؟ قال : الجوع يا رسول الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا قد وجدت بعض ذلك ، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري ، وكان رجلاً كثير النخل والشاء ، ولم يكن له خدم ، فلم يجدوه ، فقالوا لامرأته : أين صاحبك ؟ فقالت : انطلق ليستعذب لنا الماء ، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة زعبها ماءً فوضعها ، ثم جاء يلتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه ، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً ، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلا تنقيت لنا من رطبه وبسره ، فقال : يا رسول الله إني أردت أن تتخيروا من رطبه وبسره ، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد ، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تذبحن ذات در ، فذبح لهم عناقاً أو جدياً ، فأتاهم بها ، فأكلوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك خادم ؟ قال : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإذا أتانا سبي فأتنا ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث ، فأتاه أبو الهيثم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهما ، فقال : يا نبي الله اختر لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن المستشار مؤتمن ، خذ هذا ، فإني رأيته يصلي ، واستوص به معروفاً ، فانطلق به أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأته : ما أنت ببالغ فيه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه ، قال : فهو عتيق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن الله تبارك وتعالى لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه إلا خبالاً ، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي " . وروي عن ابن عباس قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العبيد فيم استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وذلك قوله : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }( الإسراء- 36 ) . وقال عكرمة : عن الصحة والفراغ . وقال سعيد بن جبير : عن الصحة والفراغ والمال .
أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا الحسين بن الحسن بمكة ، حدثنا عبد الله بن المبارك والفضل بن موسى ، قالا : حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " . قال محمد بن كعب : يعني عما أنعم عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو العالية : عن الإسلام والسنن . وقال الحسين بن الفضل : تخفيف الشرائع .
ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } ، والمراد بالنعيم هنا : ما يتنعم به الإِنسان خلال حياته الدنيوية من مال وولد ، ومن طعام وشراب ، ومن متعه وشهوة . . من النعومة التى هى ضد الخشونة .
أى : ثم إنكم بعد ذلك - أيها الناس - والله لتسألن يوم القيامة عن ألوان النعم التى منحكم الله - تعالى - إياها ، فمن أدى ما يجب عليه نحوها من شكر الله - تعالى - عليها كان من السعداء ، ومن جحدها وغمطها وشغلته عن طاعة ربه ، وتباهى وتفاخر بها . . كان من الأشقياء ، كما قال - تعالى - : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } فالمراد بالسؤال إنما هو سؤال التكريم والتبشير للمؤمنين الشاكرين ، وسؤال الإِهانة والتوبيخ للفاسقين الجاحدين .
والآية الكريمة دعوة حارة للناس ، إلى شكر نعمة - تعالى - واستعمالها فيما خلقت له .
قال القرطبى ما ملخصه : والسؤال يكون للمؤمن والكافر . . والجمع بين الأخبار التى وردت فى ذلك : أن الكل يسألون ، ولكن سؤال الكافر توبيخ ؛ لأنه قد ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف ؛ لأنه قد شكر ، وهذا النعيم فى كل نعمة .
( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) !
لتسألن عنه من أين نلتموه ? وفيم أنفقتموه ? أمن طاعة وفي طاعة ? أم من معصية وفي معصية ? أمن حلال وفي حلال ? أم من حرام وفي حرام ? هل شكرتم ? هل أديتم ? هل شاركتم ? هل استأثرتم ?
( لتسألن )عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل !
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها . وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها . وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون !
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل . . ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) . . وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة . . ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد . .
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها . . حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق !
وقوله : { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } يقول : ثم ليسألنكم الله عزّ وجلّ عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا : ماذا عملتم فيه ؟ من أين وصلتم إليه ؟ وفيم أصبتموه ؟ وماذا عملتم به ؟
واختلف أهل التأويل في ذلك النعيم ما هو ؟ فقال بعضهم : هو الأمن والصحة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عباد بن يعقوب ، قال : حدثنا محمد بن سليمان ، عن ابن أبي ليلى ، عن الشعبيّ ، عن ابن مسعود ، في قوله : { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : الأمن والصحة .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا حفص ، عن ابن أبي ليلى ، عن الشعبيّ ، عن عبد الله ، مثله .
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، عن ليث ، عن مجاهد { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : الأمن والصحة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : بلغني في قوله : { لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : الأمن والصحة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عبد العزيز بن عبد الله ، قال : سمعت الشعبيّ يقول : النعيم المسئول عنه يوم القيامة : الأمن والصحة .
قال : ثنا مهران ، عن خالد الزيات ، عن ابن أبي ليلى ، عن عامر الشعبيّ ، عن ابن مسعود ، مثله .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : الأمن والصحة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم لَيُسْئَلُنّ يومئذٍ عما أنعم الله به عليهم مما وهب لهم من السمع والبصر وصحة البدن . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، قال : يسأل الله العباد فيم استعملوها ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله : { إنّ السّمْعَ والْبَصَرَ والفُؤَادَ كُلّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } .
حدثني إسماعيل بن موسى الفَزاريّ ، قال : أخبرنا عمر بن شاكر ، عن الحسن قال : كان يقول في قوله : { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : السمع والبصر ، وصحة البدن .
وقال آخرون : هو العافية . ذكر من قال ذلك :
حدثني عباد بن يعقوب ، قال : حدثنا نوح بن درّاج ، عن سعد بن طريف ، عن أبي جعفر { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : العافية .
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : بعض ما يطعمه الإنسان ، أو يشربه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن بكير بن عتيق ، قال : رأيت سعيد بن جُبَير أُتِيَ بشربة عسل ، فشربها ، وقال : هذا النعيم الذي تُسئلون عنه .
حدثني عليّ بن سهل الرمليّ ، قال : حدثنا الحسن بن بلال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عَمّار بن أبي عمار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأطعمناهم رُطَبا ، وسقيناهم ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَذَا مِنَ النّعِيمِ الّذِي تُسْئَلُونَ عَنْهُ » .
حدثنا جابر بن الكرديّ ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .
حدثني الحسن بن عليّ الصّدائي ، قال : حدثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : بينما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما جالسان ، إذ جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ما أجْلَسَكُما ها هُنا ؟ » قالا : الجوع ، قال : «وَالّذِي بَعَثَنِي بالْحَقّ ما أخْرَجَنِي غَيرُهُ » ، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار ، فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «أيْنَ فُلانُ ؟ » فقالت : ذهب يستعذب لنا ماء ، فجاء صاحبهم يحمل قربته ، فقال : مَرْحَبا ، ما زار العِبادَ شَيءٌ أفضلَ من شيء زارني اليوم ، فعلّق قربته بكَرَب نخلة ، وانطلق فجاءهم بعِذْق ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ ؟ » فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم ، ثم أخذ الشّفرة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إيّاكَ والْحَلُوبَ » ، فذبح لهم يومئذٍ ، فأكلوا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَتُسْئَلُنّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ ، أخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حتّى أصَبْتُمْ هَذَا ، فَهَذَا مِنَ النّعِيمِ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن عبد الملك بن عُمَير ، عن أبي سَلَمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : «انْطَلِقُوا بِنا إلى أبي الهَيْثَمِ بن التّيّهانِ الأنْصَارِيّ ، » فَأتَوهُ ، فانطلق بهم إلى ظلّ حديقته ، فبسط لهم بساطا ، ثم انطلق إلى نخلة ، فجاء بِقِنْوٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَهَلا تَنَقّيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ ؟ » فقال : أردت أن تَخَيّروا من رطبه وبُسره ، فأكلوا وشربوا من الماء فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «هَذَا وَالّذِي نَفْسِي بِيدِهِ مِنَ النّعِيمِ الّذِي أنْتُمْ فِيهِ مَسْئُولُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ ، هَذَا الظّلّ البارِدُ ، والرّطَبُ البارِدُ ، عَلَيْهِ الماءُ البارِدُ » .
حدثني صالح بن مسمار المروزي ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا شيبان ، قال : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه ، إلا أنه قال في حديثه : «ظِلّ بارِدٌ ، وَرُطَبٌ بارِدٌ ، وَماءٌ بارِدٌ » .
حدثنا عليّ بن عيسى البزاز ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن حشرج بن نباتة ، قال : حدثنا أبو بصيرة عن أبي عسيب ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائطا لبعض الأنصار ، فقال لصاحب الحائط : «أطْعِمْنا بُسْرا » ، فجاءه بِعْذِقٍ فَوَضَعهُ ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم دعا بماء بارد فشرب ، فقال : «لتُسْئَلُنّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ » ، فأخذ عُمَر العِذْق ، فضرب به الأرض ، حتى تناثر البسر ، ثم قال : يا رسول الله ، إنا لمسؤولون عن هذا ؟ قال : «نَعَمْ ، إلاّ مِنْ كِسْرَةٍ يَسَدّ بِها جَوْعَةً ، أوْ جُحْرٍ يُدْخَلُ فِيهِ مِنَ الحَرّ والقَرّ » .
حدثني سعيد بن عمرو السكونيّ ، قال : حدثنا بقية ، عن حشرج بن نباتة ، قال : حدثني أبو بصيرة ، عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : مرّ بي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فدعاني وخرجت ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فدخل حائطا لبعض الأنصار ، فأُتِيَ بِبُسْرِ عِذْق منه ، فوضع بين يديه ، فأكل هو وأصحابه ، ثم دعا بما بارد ، فشرب ، ثم قال : «لَتُسْئَلُنّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ » ، فقال عمر : عن هذا يوم القيامة ؟ فقال : «نَعَمْ ، إلاّ مِنْ ثَلاثَةٍ : خِرْقَةٍ كَفّ بِها عَوْرَتَهُ ، أو كِسْرَةٍ سَدّ بِها جَوْعَتَهُ ، أوْ جُحْرِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الحَرّ والقَرّ » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلّية ، عن الجريريّ ، عن أبي بصيرة ، قال : أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وناس من أصحابه أكلة من خبز شعير لم يُنْخَل ، بلحم سمين ، ثم شربوا من جدول ، فقال : «هذا كله من النعيم الذي تُسئلون عنه يوم القيامة » .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، عن صفوان بن سليم ، عن محمد بن محمود بن لبيد ، قال : «لما نزلت ( ألهَاكُمُ التّكاثُرُ ) فقرأها حتى بلغ : { لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عنِ النّعِيمِ } قالوا : يا رسول الله عن أيّ النعيم نُسْأل وإنما هو الأسودان : الماء ، والتمر ، وسيوفنا على عواتقنا ، والعدوّ حاضر ، قال : «إنّ ذلكَ سَيَكُونُ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسين بن عليّ الصّدَائي ، قالا : حدثنا شَبَابة بن سوّار ، قال : ثني عبد الله بن العلاء أبو رَزِين الشامي ، قال : حدثنا الضحاك بن عَرْزَم ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ أوّلَ ما يُسْئَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ النّعِيمِ أنْ يُقالَ لَهُ : أَلَمْ نُصِحّ لَكَ جِسْمَكَ ، وَتُرْوَ مِنَ الماءِ البارِدِ » ؟
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد ، قال : قال أبو معمر عبد الله بن سخبرة : ما أصبح أحد بالكوفة إلا ناعما ، وإن أهونهم عيشا الذي يأكل خبز البرّ ، ويشرب ماء الفُرات ، ويستظلّ من الظلّ ، وذلك من النعيم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عبد الرحمن بن الحرث التميميّ ، عن ثابت البُنَاني ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «النّعِيم المَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ : كِسْرَةٌ تُقَوّيهِ ، وَماءٌ يُرْوِيهِ ، وَثَوْبّ يُوَارِيهِ » .
قال : ثنا مهران ، عن إسماعيل بن عياش ، عن بشر بن عبد الله بن بشار ، قال : سمعت بعض أهل اليمن يقول : سمعت أبا أُمامة يقول : النعيم المسئول عنه يوم القيامة : خبز البُرّ ، والماء العذب .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن بكير بن عتيق العامريّ ، قال : أُتِيَ سعيد بن جُبير بشربة عسل ، فقال : أما إن هذا النعيم الذي نُسْأل عنه يوم القيامة { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن بكير بن عتيق ، عن سعيد بن جُبير ، أنه أُتِيَ بشربة عسل ، فقال : هذا من النعيم الذي تُسألون عنه .
وقال آخرون : ذلك كلّ ما التذّه الإنسان في الدنيا من شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { ثُمّ لَتُسْئَلَنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : عن كلّ شيء من لذّة الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } : إن الله عزّ وجلّ سائل كلّ عبد عما استودعه من نِعَمه وحقه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتادة { لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } قال : إن الله تعالى ذكره سائل كلّ ذي نعمة فيما أنعم عليه .
وكان الحسن وقتادة يقولان : ثلاث لا يُسئل عنهنّ ابن آدم ، وما خَلاهنّ فيه المسألة والحساب ، إلا ما شاء الله : كسوة يواري بها سَوْءَته ، وكسرة يشدّ بها صُلْبه ، وبيت يظلّه .
والصواب من القول في ذلك : أن يقال : إن الله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم ، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع ، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع ، فهو سائلهم كما قال عن جميع النعيم ، لا عن بعض دون بعض .
ثم أخبر تعالى أن الناس مسؤولون يومئذ عن نعيمهم في الدنيا كيف نالوه ؟ ولم آثروه ؟ ويتوجه في هذا أسولة كثيرة بحسب شخص شخص ، هي منقادة لمن أعطي فهما في كتاب الله تعالى ، وقال ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد : النعيم هو الأمن والصحة ، وقال ابن عباس : هو البدن والحواس يسأل المرء فيما استعملهما ؟ وقال ابن جبير : هو كل ما يتلذذ به من طعام وشراب ، وأكل رسول الله عليه السلام هو وبعض أصحابه رطبا ، وشربوا عليه ماء ، فقال لهم : هذا من النعيم الذي تسألون عنه{[11967]} ، ومضى عليه الصلاة والسلام يوما هو وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما -وقد جاعوا- الى منزل أبي الهيثم بن التيهان ، فذبح لهم شاة ، وأطعمهم خبزا ورطبا ، واستعذب لهم ماء ، وكانوا في ظل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم " {[11968]} . وروي عنه عليه السلام أنه قال : " النعيم المسؤول عنه كسرة تقوته ، وماء يرويه ، وثوب يواريه " {[11969]} . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن النعيم المسؤول عنه الماء البارد في الصيف " {[11970]} وقال عليه الصلاة والسلام : " من أكل خبز البر ، وشرب الماء البارد في ظل ، فذلك النعيم الذي يسأل عنه " {[11971]} ، وقال عليه الصلاة والسلام : " بيت يكنك ، وخرقة تواريك ، وكسرة تشد قلبك ، وما سوى ذلك فهو نعيم " {[11972]} ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : " كل نعيم فهو مسؤول عنه ، إلا نعيما في سبيل الله عز وجل " {[11973]} .
أعقب التوبيخ والوعيد على لهوهم بالتكاثر عن النظر في دعوة الإِسلام من حيث إن التكاثر صدهم عن قبول ما ينجيهم ، بتهديدٍ وتخويف من مؤاخذتهم على ما في التكاثر من نعيم تمتعوا به في الدنيا ولم يشكروا الله عليه بقوله تعالى : { ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم } ، أي عن النعيم الذي خولتموه في الدنيا فلم تشكروا الله عليه وكان به بَطركُم .
وعطف هذا الكلام بحرف { ثم } الدال على التراخي الرتبي في عطفه الجُملَ من أجل أن الحساب على النعيم الذي هو نعمة من الله أشدّ عليهم لأنهم ما كانوا يترقبونه ، لأن تلبسهم بالإِشراك وهُم في نعيم أشد كفراناً للذي أنعم عليهم .
و { النعيم } : اسم لما يلذّ لإِنسان مما ليس ملازماً له ، فالصحة وسلامة الحواس وسلامة الإِدراك والنوم واليقظة ليست من النعيم ، وشرب الماء وأكل الطعام والتلذّذ بالمسموعات وبما فيه فخر وبرؤية المحاسن ، تعد من النعيم .
والنعيم أخص من النعمة بكسر النون ومرادف للنَّعمة بفتح النون .
وتقدم النعيم عند قوله تعالى : { لهم فيها نعيم مقيم } في سورة براءة ( 21 ) .
والخطاب موجه إلى المشركين على نسق الخطابات السابقة .
والجملة المضاف إليها ( إذ ) من قوله : يومئذ } محذوفة دل عليها قوله : { لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ] أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب .
وهذا السؤال عن النعيم الموجه إلى المشركين هو غير السؤال الذي يُسأله كل منعَم عليه فيما صرف فيه النعمة ، فإن النعمة لما لم تكن خاصة بالمشركين خلافاً للتكاثر كان السؤال عنها حقيقاً بكل منعَم عليه وإن اختلفت أحوال الجزاء المترتب على هذا السؤال .
ويؤيده ما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر فقاما معه فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته . إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرمُ أضيافاً مني فانطلق فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتَمر ورُطب وأخذ المدية فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لتُسألنَّ عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة " الحديث . فهذا سؤال عن النعيم ثبت بالسنة وهو غير الذي جاء في هذه الآية . والأنصاري هو أبو الهيثم بن التَّيِّهان واسمه مالك .
ومعنى الحديث : لتُسألن عن شكر تلك النعمة ، أراد تذكيرهم بالشكر في كل نعمة . وسؤال المؤمنين سؤال لترتيب الثواب على الشكر أو لأجل المؤاخذة بالنعيم الحرام .
وذكر القرطبي عن الحسن : لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار ، وروي{[462]} « أن أبا بكر لما نَزَلَتْ هذه الآية قال : يا رسول الله أرأيتَ أكلة أكلتُها معك في بيت أبي الهيثم بن التيِّهان من خبز شعير ولحم وبُسر قد ذَنَّب{[463]} وماء عذب ، أنخاف أن يكون هذا من النعيم الذي نُسأل عنه ؟ فقال عليه السلام : " ذلك للكُفار " ثم قرأ : { وهل يُجازَى إلا الكفور } [ سبأ : 17 ] .
قال القشيري : والجمع بين الأخبار أن الكلَّ يسألون ، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ لأنه قد ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر .
والجملة المضاف إليها ( إذ ) من قوله : { يومئذ } محذوفة دلّ عليها قوله : { لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ] أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب .