قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم } . الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما ، كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة ، والصداقة ، والحلف ، والجوار ، والرضاع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم . وقال مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ن فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم } . أي أولياء وأصفياء من غير أهل ملتكم ، وبطانة الرجل خاصته ، تشبيهاً ببطانة الثوب التي تلي بطنه ، لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على مالا يطلع عليه غيرهم . ثم بين العلة في النهي عن مباطنتهم فقال :
قوله تعالى : { لا يألونكم خبالاً } . أي : لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد ، والخبال : الشر والفساد ، ونصب خبالاً على المفعول الثاني لأن يألو يتعدى إلى مفعولين ، وقيل : بنزع الخافض ، أي بالخبال ، كما يقال : أوجعته ضرباً .
قوله تعالى : { ودوا ما عنتم } . أي : يودون ما يشق عليكم ، من الضر والشر والهلاك . والعنت : المشقة .
قوله تعالى : { قد بدت البغضاء } . أي : البغض ، معناه ظهرت أمارة العداوة .
قوله تعالى : { من أفواههم } . بالشتيمة والوقيعة في المسلمين ، وقيل : بإطلاع المشركين على أسرار المسلمين .
قوله تعالى : { وما تخفي صدورهم } . من العداوة والغيظ .
وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة الكافرين أكمل بيان وأحكمه ، حذر المؤمنين من أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ممن لا يريدون للإسلام إلا الشرور والمضار فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلفوا فى الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم ؟ فقيل هم اليهود ، لأن بعض المسلمين كانوا يشاورونهم فى أمورهم ويؤانسونهم لما كان فيهم من الرضاع والحلف . وقيل هم المنافقون ، وذلك لأن بعض المؤمنين كانوا يغترون يظاهر أقوالهم فيفشون إليهم الأسرار والصحيح أن المراد بهم جميع أصناف الكفار ، والدليل عليه قوله تعالى : { بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين ، فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار " .
والبطانة فى الأصل : داخل الثوب ، وجمعها بطائن . قال - تعالى - : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجنتين دَانٍ ) . وظاهر الثوب يسمى الظهارة ، والبطانة - أيضاص - الثوب الذى يجعل تحت ثوب آخر ويسمى الشعار ، وما فوقه الدثار وفى الحديث " الأنصار شعار والناس دثار " .
ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وصفيه الذى يطلع على شئونه الخفية تشبيها ببطانة الثياب فى شدة القرب من صاحبها . قال الشاعر :
أولئك خلصائي نعم وبطانتى . . . وهم عيبتى من دون كل قريب
وقوله : { مِّن دُونِكُمْ } أى من غير أهل ملتكم .
والمعنى : لا يجوز لكم - أيها المؤمنون - أن تتخذوا من غير أهل ملتكم أصفياء وأولياء تلقون إليهم بأسراركم لاتى لا يصح لكم أن تطلعوهم عليها ، لأنكم لو فعلتم ذلك لأصابكم الضرر فى دينكم ودنياكم .
قال القرطبى : " نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء ، يفاوضونهم فى الآراء ويسندون إليهم أمورهم . وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وقيل لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك ؟ فقال : لا آخذ بطانة من دون المؤمنين " .
ثم قال القرطبى - رحمه الله - : قلت وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء ، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء . روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما بعث الله من نبى ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه . وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه ، والمعصوم من عصمه الله " .
وصدر - سبحانه - النداء بوصف الإيمان ، للإشعار بأن مقتضى الإيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم فى عقيدتهم على أسرارهم ، وألا يتخذوا أعداء الله وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة ، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين وقوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفة لبطانة فيكون متعلقاً بمحذوف ، أى لا تتخذوا بطانة كائنة من غيركم .
ويجوز أن يكون متعلقا بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ } أى لا تتخذوا من غير أهل ملتكم بطانة تصافونهم وتطلعونهم على أسراركم .
ثم ذكر - سبحانه - جملة من الأسباب التى تجعل المؤمنين يمتنعون عن مصافاة هؤلاء الذين يخالفونهم فى عقيدتهم فقال فى بيان أول هذه الأسباب : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } وأصل " الألو " : التقصير . يقال : ألا فى الأمر - كغزا - يألو ألواً وألوا ، إذا قصر فيه ، ومنه قول امرىء القيس :
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه . . . بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
أراد ولا مقصر ، وهو - أى الفعل " يألو " من الأفعال اللازمة التى تتعدى إلى المفعول بالحرف ، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين كا فى قولهم : لا آلوك نصحاً ، على تضمين الفعل معنى المنع . أى لا أمنعك ذلك .
والخبال : الشر والفساد . وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطراباً . يقال خبله وخبله فهو خابل . والجمع الخبل ورجل مخبل إذا أصيب بمرض أورثه اضطراباً وفساداً فى قواه العقلية والفكرية .
والمعنى : أنهاكم - أيها المؤمنون - عن أن تتخذوا أولياء وأصفياء لكم من غير إخوانكم المؤمنين ، لأن هؤلاء الأولياء من غير إخوانكم المؤمنين ، لا يقصرون فى جهد يبذلونه فى إفساد أمركم ، وفيما يورثكم شرا وضرا . أو لا يمنعونكم خبالا ، أى أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون شيئاً منه عندهم ، بل يبذلون قصارى جهدهم فى إليحاق الضرر بكم فى دينكم ودنياكم .
وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى اجتنابهم . أو صفة لقوله : { بِطَانَةً } .
وقوله : { خَبَالاً } منصوب على أنه المفعول الثانى ليألونكم لتضمينه معنى يمنعونكم .
ويصح أن يكون منصوبا بنزع الخافض أى لا يقصرون لكم عن جهد فيما يورثكم شرا وفسادا .
أما السبب الثانى الذى يحمل المؤمنين على اجتناب هؤلاء الضالين فقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } .
وقوله : { وَدُّواْ } من الود وهو المحبة . يقال : وددت كذا أى أحببته .
وقوله : { عَنِتُّمْ } من العنت وهو شدة الضرر والمشقة . ومنه قوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } أى لأوقعكم فيما يشق عليكم .
و { مَا } فى قوله : { مَا عَنِتُّمْ } هى ما المصدرية . أى : أن هؤلاء الذين تصافونهم وتفشون إليهم أسراركم مع أنهم ليسوا على ملتكم ، بجانب أنهم لا يألون جهدا فى إفساد أمركم ، فإنهم يحبون عنتكم ومشقتكم وشدة ضرركم ، وتفريق جمعكم ، وذهاب قوتكم .
فالجملة الأولى وهى قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } بمنزلة المظهر والنتيجة ، وهذه . أى قوله تعالى : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } بمنزلة الباعث والدافع .
فهم لا يودون للمسلمين الخير والاطمئنان والأمان ، وأنما يودون لهم الشقاء والشرور والخسران .
وليس بعاقل ذلك الذى يطلع من يريد له الشرور على أسراره ودخائله .
وأما السبب الثالث الذى يدعو المؤمنين إلى اجتنابهم فقد بينه الله - تعالى - بقوله : { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } .
والبغضاء مصدر كالسراء والضراء ، وهى البغض الشديد المتمكن فى النفوس ، والثابت فى القلوب .
أى : قد ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم ، وطفح البغض الباطن فى قلوبهم لكم حتى خرج من أفواههم ، ولاح على صفحات وجوههم ، وقد قيل : كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان . ومع هذا فإن ما تخفيه نفوسهم المريضة لكم من أحقاد وإحن ، أكبر مما نطقت به ألسنتهم من بغضاء ، إذ أن ما نطقوا به إنما هو بمثابة الرشح الذى ظهر من مسام أجسادهم وقلوبهم ، أما ما يبيتونه لكم من شرور وآثام فهو أكبر من ذلك بكثير .
وخص الأفواه بالذكر دون الألسنة . للإشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم فى أقوالهم الباطلة ، فهم أشد جرما من المتستر الذى تبدو البغضاء فى عينيه .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان مظهر من مظاهر فضله على المؤمنين حيث كشف لهم عن أحوال أعدائهم ، وعن سوء نواياهم وعن الأسباب التى تدعو إلى الحذر منهم فقال - تعالى - : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .
أى قد بينا لكم العلامات الواضحات ، والآيات البينات التى تعرفون بها أعداءكم ، وتميزون عن طريقها بين الصديق وبين العدو ، إن كنتم من أهل العقل والفهم .
والمقصود من الجملة الكريمة حضهم على استعمال عقولهم بتأمل وتدبر فى هذه الآيات التى بينها الله لهم فضلا منه وكرما ، وحتى لا يتخذوا بطانة من غير إخوانهم فى العقيدة والدين .
وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : إن كنتم تعقلون ذلك فلا تباطنوهم ولا تفشوا لهم أسراركم .
وفي نهاية الدرس الذي ابتدأ بيانا لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف ، وكشفا لما في جدالهم من مغالطة ، وفضحا لما يريدونه بالمسلمين من سوء ، وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها ، دون أن تلقي بالا إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين . . في نهاية هذا الدرس ، ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة ، وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها ، وهم للذين آمنوا عدو . . يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة ، ما نزال نرى مصداقها في كل وقت ، وفي كل أرض . صورة رسمها هذا القرآن الحي ، فغفل عنها أهل هذا القرآن . فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا . ودوا ما عنتم . قد بدت البغضاء من أفواههم ، وما تخفي صدورهم أكبر . قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله ، وإذا لقوكم قالوا : آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ . قل : موتوا بغيظكم ، إن الله عليم بذات الصدور . أن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها . وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط ) . .
إنها صورة كاملة السمات ، ناطقة بدخائل النفوس ، وشواهد الملامح ، تسجل المشاعر الباطنة ، والانفعالات الظاهرة ، والحركة الذاهبة الآيبة . وتسجل بذلك كله نموذجا بشريا مكرورا في كل زمان وفي كل مكان . ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء . يتظاهرون للمسلمين - في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم - بالمودة . فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة . وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة ، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال ، ولا يقصرون في اعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم ، والكيد لهم والدس ، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار .
وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب ، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة ؛ وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين ، وللشر المبيت ، وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم ؛ في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعا في أعداء الله هؤلاء ، وما يزال يفضي إليهم بالمودة ، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة ؛ ويتخذ منهم بطانة وأصحابا وأصدقاء ، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار . . فجاء هذا التنوير وهذا التحذير ، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر ، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين ، الذين لا يخلصون لها أبدا ، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة . ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورا على فترة تاريخية معينة ، فهو حقيقة دائمة ، تواجه واقعا دائما . . كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود . .
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم : ألا يتخذوا بطانة من دونهم . بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة . وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة . . المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعا في كل أمر ، وكل شأن ، وكل موضع ، وكل نظام ، وكل تصور ، وكل منهج ، وكل طريق !
والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم ، يوادون من حاد الله ورسوله ؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم . والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل :
( ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) . .
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدّواْ مَا عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }
يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم ، { لا تَتّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } يقول : لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم ، يقول : من دون أهل دينكم وملتكم ، يعني من غير المؤمنين . وإنما جعل البطانة مثلاً لخليل الرجل فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطلاعه على أسراره ، وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه ، محلّ ما ولي جسده من ثيابه ، فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغشّ والخيانة ، وبغيهم إياهم الغوائل ، فحذّرهم بذلك منهم عن مخالّتهم ، فقال تعالى ذكره : { لا يَألُونَكُم خَبالاّ } يعني لا يستطيعُونَكُمْ شرّا ، من أَلَوْتُ آلُو ألُوّا ، يقال : ما ألا فلان كذا ، أي ما استطاع ، كما قال الشاعر :
جَهْراءُ لا تأْلُو إذا هِيَ أظْهَرَتْ *** بَصَرا وَلا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِيني
يعني لا تستطيع عند الظهر إبصارا .
وإنما يعني جلّ ذكره بقوله : { لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً } البطانة التي نهى المؤمنين عن اتخاذها من دونهم ، فقال : إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالاً : أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال . وأصل الخبال والخبال : الفساد ، ثم يستعمل في معان كثيرة ، يدلّ على ذلك الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أُصِيبَ بَخْبلٍ أو جِرَاحٍ » .
وأما قوله : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } فإنه يعني : ودّوا عنتكم ، يقول : يتمنون لكم العنت والشرّ في دينكم وما يسوءكم ولا يسرّكم . وذكر أن هذه الاَية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم ، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام ، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : قال محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم ، فنهاهم عن مباطنتهم تخوّف الفتنة عليهم منهم : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } إلى قوله : { وَتُؤمِنُونَ بالكِتابِ كُلّه } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خبَالاً } في المنافقين من أهل المدينة ، نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يتولوهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَألُونَكُمْ خَبالاً وَدّوا ما عَنِتمْ } نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين أو يؤاخوهم ، أي يتولوهم من دون المؤمنين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } هم المنافقون .
حدثت عن عمار . قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُم لا يأْلونَكُمْ خَبالاً } يقول : لا تستدخلوا المنافقين ، تتولوهم دون المؤمنين .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوام بن حوشب ، عن الأزهر بن راشد ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تَسْتَضِيئُوا بِنارِ أهْلِ الشّرْكِ ، وَلا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبِيّا » قال : فلم ندر ما ذلك حتى أتوا الحسن فسألوه ، فقال : نعم ، أما قوله : «لا تَنْقُشُوا في خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيّا » ، فإنه يقول : لا تنقشوا في خواتيمكم «محمد »¹ وأما قوله : «ولا تَسْتَيضِئُوا بَنارِ أهْل الشّرْكِ » ، فإنه يعني به المشركين ، يقول : لا تستشيروهم في شيء من أموركم . قال : قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ، ثم تلا هذه الاَية : { يا أيها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } أما البطانة : فهم المنافقون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } . . . الاَية ، قال : لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنوا لا تَتّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ } . . . الاَية ، قال : هؤلاء المنافقون ، وقرأ قوله : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } . . . الاَية .
واختلفوا في تأويل قوله { وَدّوا ما عَنِتّمْ } فقال بعضهم معناه : ودّوا ما ضللتم عن دينكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } يقول : ما ضللتم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } يقول في دينكم ، يعني : أنهم يودّون أن تعنتوا في دينكم .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } فجاء بالخبر عن البطانة بلفظ الماضي في محل الحال والقطع بعد تمام الخبر ، والحالات التي لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها ؟ قيل : ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أن قوله : { وَدّوا ما عَنِتّمّ } حال من البطانة ، وإنما هو خبر عنهم ثان ، منقطع عن الأوّل غير متصل به . وإنما تأويل الكلام : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا صفتهم كذا . فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى ، وإن كانتا جميعا من صفة شخص واحد .
وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } من صلة البطانة ، وقد وصلت بقوله : { لا يَألُونَكُمْ خَبالاً } فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام البطانة بصلته ، ولكن القول في ذلك كما بينا قبل من أن قوله : { وَدّوا ما عَنِتّمْ } خبر مبتدأ عن البطانة غير الخبر الأوّل ، وغير حال من البطانة ولا قطع منها .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم بأفواههم ، يعني بألسنتهم . والذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم على كفرهم ، وعدواتهم من خالف ما هم عليه مقيمون من الضلالة ، فذلك من أوكد الأسباب من معاداتهم أهل الإيمان ، لأن ذلك عداوة على الدين ، والعداوة على الدين ، العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الاَخر منهما ، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك ، فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ومقامهم عليه أبين الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة .
وقد قال بعضهم : معنى قوله : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر بإطلاع بعضهم بعضا على ذلك .
وزعم قائلو هذه المقالة أن الذين عنوا بهذه الاَية : أهل النفاق ، دون من كان مصرّحا بالكفر من اليهود وأهل الشرك . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } يقول : قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار ، من غِشّهم للإسلام وأهله وبغضهم إياهم .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } يقول : من أفواه المنافقين .
وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة قول لا معنى له ، وذلك أن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغشّ للإسلام وأهله ، والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم ، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم . فأما من لم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عزّ وجلّ عن مخالته ومباطنته ، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم ، إما بأعيانهم وأسمائهم ، وإما بصفات قد عرفوهم بها . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار ، غير مدرك به المؤمنون معرفة ما هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودّد إليهم ، كان بينا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم ، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم على ما وصفهم الله عزّ وجلّ به ، فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها ، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب ، لأنهم لو كانوا المنافقين لكان الأمر فيهم على ما قد بينا ، ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحرب ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم ، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل . والبغضاء : مصدر ، وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود : «قد بدا البغضاء من أفواههم » ، على وجه التذكير ، وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث ، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم ، فيجوز تذكير ما خرج منها على لفظ المؤنث وتأنيثه ، كما قال عزّ وجلّ : { وأخَذَ الّذِينَ ظَلَمُوا الصّيْحَةُ } وكما قال : { فقدْ جاءَكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ } وفي موضع آخر : { وأخَذَتِ الّذِينَ ظَلَمُوا الصّيْحَةُ } { وَجاءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ } . وقال : { مِنْ أفْوَاهِهِمْ } وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم ، لأن المعنيّ به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم ، فقال : قد بدت البغضاء من أفواههم بألسنتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : والذي تخفي صدورهم ، يعني صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة فتخفيه عنكم أيها المؤمنون أكبر ، يقول : أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ } يقول : وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ } يقول : ما تكنّ صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ بَيّنَا لَكُمُ الاَياتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قد بينا لكم أيها المؤمنون الاَيات ، يعني بالاَيات : العبر ، قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم ، { إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } يعني : إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه ، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ومبلغ عائدته عليكم .
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم ، وقوله : { من دونكم } يعني من دون المؤمنين ، ولفظة «دون » تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها الكلام ، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله{[3453]} ، وقوله : { لا يألونكم خبالاً } معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم ، تقول : ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير :
جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم . . . فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا{[3454]}
أي لم يقصروا ، والخبل والخبال : الفساد ، وقال ابن عباس : كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال أيضاً ابن عباس وقتادة والربيع والسدي : نزلت في المنافقين : نهى الله المؤمنين عنهم ، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً »{[3455]} فسره الحسن بن أبي الحسن ، فقال أراد عليه السلام ، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم ( محمداً ) .
قال القاضي : ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم ، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميماً فكتب إليه عمر يعنفه ، وتلا عليه هذه الآية ، وقيل لعمر : إن هاهنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك ؟ فقال : إذاً أتخذ بطانة من دون المؤمنين ، و { ما } في قوله ، { ما عنتّم } مصدرية ، فالمعنى : { ودوا } عنتكم ، و «العنت » : المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت : أي شاقة ، وقوله تعالى : { ذلك لمن خشي العنت }{[3456]} معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي : معناه «ودوا » ما ضللتم ، وقال ابن جريج : المعنى «ودوا » أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي ، وقوله تعالى : { قد بدت البغضاء من أفواههم } يعني بالأقوال ، فهم فوق المتستر الذي تبدوالبغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه ، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه{[3457]} ، معناه : أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس ، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همساً راتب{[3458]} ، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط وقوله : { وما تخفي صدورهم أكبر } إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «قد بدا البغضاء » بتذكير الفعل ، لما كانت { البغضاء } بمعنى البغض ، ثم قال تعالى للمؤمنين ، { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } تحذيراً وتنبيهاً ، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا وكذا .