البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ} (118)

البطانة في الثوب بإزاء الظهارة ، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار .

يقال : بطن فلان من فلان بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به ، داخلاً في أمره .

وقال الشاعر :

أولئك خلصاني نعم وبطانتي *** وهم عيبتي من دون كل قريب

ألوت في الأمر : قصرت فيه .

قال زهير :

سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم *** فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألووا

أي لم يقصروا .

الخبال والخبل : الفساد الذي يلحق الحيوان .

يقال : في قوائم الفرس خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب .

والخبل والجنون .

ويقال : خبله الحب أي أفسده .

البغضاء : مصدر كالسراء والبأساء يقال : بغض الرجل فهو بغيض ، وأبغضته أنا اشتدت كراهتي له .

الأفواه معروفة ، والواحد منها في الأصل فوه .

ولم تنطق به العرب بل قالت : فم .

وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو .

{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من يهود للجوار والحلف والرضاع قاله : ابن عباس .

وقال أيضاً هو وقتادة والسدي والربيع : نزلت في المنافقين .

نهى اللهُ المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشرُ بطن الإنسان من ثوبه .

يقال : له بطانة ووليجة .

وقوله : من دونكم في موضع الصفة لبطانة ، وقدّره الزمخشري : من دون أبناء جنسكم ، وهم المسلمون .

وقيل : يتعلق من بقوله : لا تتخذوا .

وقيل : مِنْ زائدة ، أي بطانة دونكم .

والمعنى : أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين .

ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستبانه إليهم .

وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذمياً ، وتلا عليه هذه الآية .

وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة : ألا يكتب عنك ؟ فقال : إذن أتخذ بطانة .

والجملة من قوله : { لا يألونكم خبالاً } لا موضع لها من الإعراب ، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة ، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة .

ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من ، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح .

لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين ، وودادة مشقتهم ، وظهور بغضهم .

والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما .

وألا متعد إلى واحد بحرف الجر ، يقال : ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه .

وقيل : انتصب خبالاً على التمييز المنقول من المفعول ، كقوله تعالى : { وفجرنا الأرض عيوناً } التقدير : لا يألونكم خبالكم ، أي في خبالكم .

فكان أصل هذا المفعول حرف الجر .

وقيل : انتصابه على إسقاط حرف ، التقدير : لا يألونكم في تخبيلكم .

وقيل : انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال .

قال ابن عطية : معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم .

فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام ، وللخبال على إسقاط في .

وقال الزمخشري : يقال : أَلا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً ، على التضمين .

والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه انتهى .

{ ودوا ما عنتم } قال ابن جرير : ودّوا إضلالكم .

وقال الزجاج : مشقتكم .

وقال الراغب : المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن تتحرّى مع الممانعة المشقة انتهى .

ويقال : عِنت بكسر النون ، وأصله انهياض العظم بعد جبره .

وما في قوله : ما عنتم مصدرية ، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها .

وجوّزوا أن يكون نعتاً لبطانة ، وحالاً من الضمير في يألونكم ، وقد معه مرادة .

{ قد بدت البغضاء من أفواههم } وقرأ عبد الله : قد بدا ، لأنّ الفاعل مؤنث مجازاً أو على معنى البغض ، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم .

وذكر الأفواه دون الألسنة إشعاراً بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم ، كما يقال : كلمة تملأ الفم إذا تشدّق بها .

وقيل : المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أنْ ينفلتَ من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى .

ولمّا ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين ، وهو إخبار عن فعل قلبي ، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني ، وهو : ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم ، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن .

ثم ذكر أنَّ ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال :

{ وما تخفي صدورهم أكبر } أي أكثر مما ظهر منها .

والظاهر أنَّ بدوَّ البغضاء منهم هو للمؤمنين ، أي اظهروا للمؤمنين البغض .

وقال قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك .

وقيل : بدت بإقرارهم بعد الجحود ، وهذه صفة المجاهر .

وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازاً ، إذ هي محال القلوب التي تخفي كما قال : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }

{ قد بينا لكم الآيات } أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين ، وموالاة المؤمنين ، ومعاداة الكفار .

{ إن كنتم تعقلون } أي ما بين لكم فعملتم به ، أو إنْ كنتم عقلاء وقد علم تعالى أنهم عقلاء ، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهزّ للنفوس كقولك : إن كنت رجلاً فافعل كذا .

وقال ابن جرير : معناه إن كنتم تعقلون عن الله أمره ونهيه .

وقيل : إنْ كنتم تعقلون فلا تصافوهم ، بل عاملوهم معاملة الأعداء .

وقيل : معنى إن معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء .

/خ120