الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ} (118)

فيه ست مسائل :

الأولى : أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار . وهو متصل بما سبق من قوله : " إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب " [ آل عمران : 100 ] . والبطانة مصدر ، يسمى به الواحد والجمع . وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره ، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر . وبطن فلان بفلان يبْطُن بُطونا وبِطانة إذا كان خاصا به . قال الشاعر :

أولئك خُلَصَائي{[3379]} نعم وبِطانتي *** وهم عَيْبَتِي من دون كل قريب

الثانية : نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء ، يفاوضونهم في الآراء ، ويسندون إليهم أمورهم . ويقال : كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه ، قال الشاعر :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل{[3380]} قرين بالمقارن يقتدي

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) . وروي عن ابن مسعود أنه قال : اعتبروا الناس بإخوانهم . ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال : " لا يألونكم خبالا " يقول فسادا . يعني لا يتركون الجهد في فسادكم ، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة ، على ما يأتي بيانه . وروي{[3381]} عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا " قال : ( هم الخوارج ) . وروى أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية . وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه ، وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى : أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ فقال : إنه لا يدخل المسجد . فقال لم ! أجنب هو ؟ قال : إنه نصراني ، فانتهره وقال : لا تدنهم وقد أقصاهم الله ، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله ، ولا تأمنهم وقد خونهم الله . وعن عمر رضي الله عنه قال : لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرِّشا{[3382]} ، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى . وقيل لعمر رضي الله عنه : إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك ؟ فقال : لا آخذ{[3383]} بطانة من دون المؤمنين . فلا يجوز استكتاب أهل الذمة ، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم .

قلت : وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كَتَبَة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء . روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى ){[3384]} . وروى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تستضيؤوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا ) . فسره الحسن بن أبي الحسن فقال : أراد عليه السلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا . قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم " الآية .

الثالثة : قوله تعالى : " من دونكم " {[3385]}أي من سواكم . قال الفراء : " ويعملون عملا دون ذلك{[3386]} " أي سوى ذلك . وقيل : " من دونكم " يعني في السير وحسن المذهب . ومعنى " لا يألونكم خبالا " لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم . وهو في موضع الصفة ل " بطانة من دونكم " . يقال : لا آلو جهدا أي لا أقصر . وأَلَوْت أُلُوًّا قصرت . قال امرؤ القيس :

وما المرء ما دامت حُشَاشَةُ نفسه *** بمُدْرِكِ أطراف الخطوب ولا آلِ

والخَبال : الخَبْل . والخبل : الفساد ، وقد يكون ذلك في الأفعال والأبدان والعقول . وفي الحديث : ( من أصيب بدم أو خبل ) أي جرح يفسد العضو . والخبل : فساد الأعضاء ، ورجل خبل ومختبل ، وخبله الحب أي أفسده . قال أوس :

أبني لُبَيْنَى لستم بيد *** إلا يدا مخبولةَ{[3387]} العَضُدِ

أي فاسدة العضد . وأنشد الفراء :

نظر ابن سعد نظرةً وَبَّتْ{[3388]} بها *** كانت لصحبك والمطيِّ خبالا أي فساد . وانتصب ( خبالا ) بالمفعول الثاني ؛ لأن الألو يتعدى إلى مفعولين ، وإن شئت على المصدر ، أي يخبلونكم خبالا : وإن شئت بنزع الخافض ، أي بالخبال ، كما قالوا : أوجعته ضربا : " وما " في قوله : " ودوا ما عنتم " مصدرية ، أي ودوا عنتكم . أي ما يشق عليكم . والعنت المشقة ، وقد مضى في " البقرة " {[3389]} معناه .

الرابعة : قوله تعالى : " قد بدت البغضاء من أفواههم " يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم . والبغضاء : البغض ، وهو ضد الحب . والبغضاء مصدر مؤنث . وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه ، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه . ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي{[3390]} الرجل فاه في عرض أخيه . معناه أن يفتح . يقال : شحى الحمار فاه بالنهيق ، وشحى الفم نفسه . وشحى اللِّجَام فم الفرس شَحْياً ، وجاءت الخيل شواحي : فاتحات أفواهها . ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا ، فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء . وفي التنزيل " ولا يغتب بعضكم بعضا " {[3391]} [ الحجرات : 12 ] الآية . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) . فذكر الشَّحْو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط ، فاعلم .

الخامسة : وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز ، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز ، وروى عن أبي حنيفة جواز ذلك . وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال : أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء وإن كان عدلا ، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر .

السادسة : قوله تعالى : " وما تخفي صدورهم أكبر " إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم . وقرأ عبد الله بن مسعود : " قد بدأ البغضاء " بتذكير الفعل ، لما كانت البغضاء بمعنى البغض .


[3379]:- في هـ: خلصاني، عيبتي: خاصتي وموضع سري.
[3380]:- في د: فكم من قرين، وفي هـ: فإن القرين.
[3381]:- في ب و د وهـ: روى أبو أمامة.
[3382]:- في ا: الربا.
[3383]:- في ب و د وهـ: إذا اتحد الخ.
[3384]:- الحديث كما في النسخة الأميرية، وسائر الأصول: بالخير، بدل المعروف، وفي جـ: تحثه عليه.
[3385]:- في ب و د و هـ: يعني.
[3386]:- راجع جـ11 ص 322.
[3387]:- الذي في ديوانه: * إلا يدا ليست لها عضد*.
[3388]:- الوب: التهيؤ للحملة في الحرب.
[3389]:- راجع جـ3 ص 66.
[3390]:- في هـ و د: يشحى. وفي اللسان: شحا يشحو فاه فتحه، وشحا يشحاه.
[3391]:- راجع جـ16 ص 334.