التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ} (118)

وبعد أن بين - سبحانه - سوء عاقبة الكافرين أكمل بيان وأحكمه ، حذر المؤمنين من أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ممن لا يريدون للإسلام إلا الشرور والمضار فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : اختلفوا فى الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم ؟ فقيل هم اليهود ، لأن بعض المسلمين كانوا يشاورونهم فى أمورهم ويؤانسونهم لما كان فيهم من الرضاع والحلف . وقيل هم المنافقون ، وذلك لأن بعض المؤمنين كانوا يغترون يظاهر أقوالهم فيفشون إليهم الأسرار والصحيح أن المراد بهم جميع أصناف الكفار ، والدليل عليه قوله تعالى : { بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين ، فيكون ذلك نهيا عن جميع الكفار " .

والبطانة فى الأصل : داخل الثوب ، وجمعها بطائن . قال - تعالى - : ( مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الجنتين دَانٍ ) . وظاهر الثوب يسمى الظهارة ، والبطانة - أيضاص - الثوب الذى يجعل تحت ثوب آخر ويسمى الشعار ، وما فوقه الدثار وفى الحديث " الأنصار شعار والناس دثار " .

ثم أطلقت البطانة على صديق الرجل وصفيه الذى يطلع على شئونه الخفية تشبيها ببطانة الثياب فى شدة القرب من صاحبها . قال الشاعر :

أولئك خلصائي نعم وبطانتى . . . وهم عيبتى من دون كل قريب

وقوله : { مِّن دُونِكُمْ } أى من غير أهل ملتكم .

والمعنى : لا يجوز لكم - أيها المؤمنون - أن تتخذوا من غير أهل ملتكم أصفياء وأولياء تلقون إليهم بأسراركم لاتى لا يصح لكم أن تطلعوهم عليها ، لأنكم لو فعلتم ذلك لأصابكم الضرر فى دينكم ودنياكم .

قال القرطبى : " نهى الله المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء ، يفاوضونهم فى الآراء ويسندون إليهم أمورهم . وفى سنن أبى داود عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " وقيل لعمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك ؟ فقال : لا آخذ بطانة من دون المؤمنين " .

ثم قال القرطبى - رحمه الله - : قلت وقد انقلبت الأحوال فى هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء ، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء . روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما بعث الله من نبى ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه . وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه ، والمعصوم من عصمه الله " .

وصدر - سبحانه - النداء بوصف الإيمان ، للإشعار بأن مقتضى الإيمان يوجب عليهم ألا يأمنوا من يخالفهم فى عقيدتهم على أسرارهم ، وألا يتخذوا أعداء الله وأعداءهم أولياء يلقون إليهم بالمودة ، وألا يطلعوهم على ما يجب إخفاؤه من شئون وأمور خاصة بالمؤمنين وقوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفة لبطانة فيكون متعلقاً بمحذوف ، أى لا تتخذوا بطانة كائنة من غيركم .

ويجوز أن يكون متعلقا بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ } أى لا تتخذوا من غير أهل ملتكم بطانة تصافونهم وتطلعونهم على أسراركم .

ثم ذكر - سبحانه - جملة من الأسباب التى تجعل المؤمنين يمتنعون عن مصافاة هؤلاء الذين يخالفونهم فى عقيدتهم فقال فى بيان أول هذه الأسباب : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } وأصل " الألو " : التقصير . يقال : ألا فى الأمر - كغزا - يألو ألواً وألوا ، إذا قصر فيه ، ومنه قول امرىء القيس :

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه . . . بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

أراد ولا مقصر ، وهو - أى الفعل " يألو " من الأفعال اللازمة التى تتعدى إلى المفعول بالحرف ، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين كا فى قولهم : لا آلوك نصحاً ، على تضمين الفعل معنى المنع . أى لا أمنعك ذلك .

والخبال : الشر والفساد . وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطراباً . يقال خبله وخبله فهو خابل . والجمع الخبل ورجل مخبل إذا أصيب بمرض أورثه اضطراباً وفساداً فى قواه العقلية والفكرية .

والمعنى : أنهاكم - أيها المؤمنون - عن أن تتخذوا أولياء وأصفياء لكم من غير إخوانكم المؤمنين ، لأن هؤلاء الأولياء من غير إخوانكم المؤمنين ، لا يقصرون فى جهد يبذلونه فى إفساد أمركم ، وفيما يورثكم شرا وضرا . أو لا يمنعونكم خبالا ، أى أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون شيئاً منه عندهم ، بل يبذلون قصارى جهدهم فى إليحاق الضرر بكم فى دينكم ودنياكم .

وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى اجتنابهم . أو صفة لقوله : { بِطَانَةً } .

وقوله : { خَبَالاً } منصوب على أنه المفعول الثانى ليألونكم لتضمينه معنى يمنعونكم .

ويصح أن يكون منصوبا بنزع الخافض أى لا يقصرون لكم عن جهد فيما يورثكم شرا وفسادا .

أما السبب الثانى الذى يحمل المؤمنين على اجتناب هؤلاء الضالين فقد بينه - سبحانه - بقوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } .

وقوله : { وَدُّواْ } من الود وهو المحبة . يقال : وددت كذا أى أحببته .

وقوله : { عَنِتُّمْ } من العنت وهو شدة الضرر والمشقة . ومنه قوله - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } أى لأوقعكم فيما يشق عليكم .

و { مَا } فى قوله : { مَا عَنِتُّمْ } هى ما المصدرية . أى : أن هؤلاء الذين تصافونهم وتفشون إليهم أسراركم مع أنهم ليسوا على ملتكم ، بجانب أنهم لا يألون جهدا فى إفساد أمركم ، فإنهم يحبون عنتكم ومشقتكم وشدة ضرركم ، وتفريق جمعكم ، وذهاب قوتكم .

فالجملة الأولى وهى قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } بمنزلة المظهر والنتيجة ، وهذه . أى قوله تعالى : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } بمنزلة الباعث والدافع .

فهم لا يودون للمسلمين الخير والاطمئنان والأمان ، وأنما يودون لهم الشقاء والشرور والخسران .

وليس بعاقل ذلك الذى يطلع من يريد له الشرور على أسراره ودخائله .

وأما السبب الثالث الذى يدعو المؤمنين إلى اجتنابهم فقد بينه الله - تعالى - بقوله : { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } .

والبغضاء مصدر كالسراء والضراء ، وهى البغض الشديد المتمكن فى النفوس ، والثابت فى القلوب .

أى : قد ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم ، وطفح البغض الباطن فى قلوبهم لكم حتى خرج من أفواههم ، ولاح على صفحات وجوههم ، وقد قيل : كوامن النفوس تظهر على صفحات الوجوه وفلتات اللسان . ومع هذا فإن ما تخفيه نفوسهم المريضة لكم من أحقاد وإحن ، أكبر مما نطقت به ألسنتهم من بغضاء ، إذ أن ما نطقوا به إنما هو بمثابة الرشح الذى ظهر من مسام أجسادهم وقلوبهم ، أما ما يبيتونه لكم من شرور وآثام فهو أكبر من ذلك بكثير .

وخص الأفواه بالذكر دون الألسنة . للإشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم فى أقوالهم الباطلة ، فهم أشد جرما من المتستر الذى تبدو البغضاء فى عينيه .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان مظهر من مظاهر فضله على المؤمنين حيث كشف لهم عن أحوال أعدائهم ، وعن سوء نواياهم وعن الأسباب التى تدعو إلى الحذر منهم فقال - تعالى - : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } .

أى قد بينا لكم العلامات الواضحات ، والآيات البينات التى تعرفون بها أعداءكم ، وتميزون عن طريقها بين الصديق وبين العدو ، إن كنتم من أهل العقل والفهم .

والمقصود من الجملة الكريمة حضهم على استعمال عقولهم بتأمل وتدبر فى هذه الآيات التى بينها الله لهم فضلا منه وكرما ، وحتى لا يتخذوا بطانة من غير إخوانهم فى العقيدة والدين .

وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه ، والتقدير : إن كنتم تعقلون ذلك فلا تباطنوهم ولا تفشوا لهم أسراركم .