الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ} (118)

قوله تعالى : { مِّن دُونِكُمْ } : يجوز أن يكون صفة ل " بِطانة " فيتعلَّقَ بمحذوف ، أي : كائنةً من غيركم . وقدَّره الزمخشري : " من غيرِ أبناء جنسكم ، وهم المسلمون " ويجوزُ أَنْ يتعلَّق بفعل النهي . وجَوزَّ بعضُهم أن تكون " مِنْ " زائدةً ، والمعنى : دونَكم في العمل والإِيمان .

وبِطانة الرجل : خاصَّتُه الذين يُباطِنُهم في الأمور ، ولا يُظْهر غيرَهم عليها مشتقةً من البَطْن ، والباطنُ : دون الظاهر ، وهذا كما استعاروا الشِّعار والدِّثار في ذلك . قال عليه السلام : " الناسُ دِثار والأنصارُ شِعار " والشِّعار ما يلي جسدك من الثياب . ويقال : " بَطَن فلانٌ بفلان بُطوناً وبِطانة " . قال الشاعر :

أولئك خُلْصاني نَعَمْ وبِطانتي *** وهم عَيْبَتي مِنْ دونِ كلِّ قريب

قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } يقال : " أَلاَ في الأمر يَأْلُو فيه " أي : قَصَّر نحو : غزا يغزو ، فأصلُه أن يتعدَّى بحرف الجر كما ترى .

واختُلِف في نصب " خَبالا " على أوجهٍ . أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ . والضميرُ هو الأول ، وإنما تَعَدَّى لاثنين للتضمين . قال الزمخشري : " يقال : ألا في الأمر يَأْلُو فيه أي : قَصَّر ، ثم استُعْمِل مُعَدَّىً إلى مفعولين في قولهم : " لا آلوك نُصْحاً ولا ألوك جُهْداً " على التضمين ، والمعنى : لا أمنعُك نُصْحاً ولا أَنْقُصُكه " .

الثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرفِ الجر ، والأصل : لا يألونكم في خَبال أي : في تخبيلكم وهذا غيرُ منقاسٍ ، بخلافِ التضمين فإنه منقاسٌ ، وإنْ كان فيه خلافٌ واهٍ .

الثالث : أن ينتصبَ على التمييز ، وهو حينئذٍ تمييز منقول من المفعولية ، والأصلُ : لا يَألون خبالكم أي : في خبالكم : ثم جُعِل الضميرُ المضاف إليه مفعولاً بعد إسقاط الخافض ، فنُصِب " الخبال " الذي كان مضافاً تمييزاً ، ومثله قولُه تعالى : { وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً } [ القمر : 12 ] أي : " عيون الأرضِ " فَفُعلِ به ما تقدَّم ، ومثلُه في الفاعلية : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً }

[ مريم : 4 ] الأصل : " شيبُ الرأس " ، وهذا عند مَنْ يُثْبت كونَ التمييز منقولاً من المفعوليةِ . وقد مَنَعَه بعضُهم ، وتأوَّل قولَه تعالى : { وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً } على أنَّ " عيوناً " بدلُ بعضٍ من كل ، وفيه حَذْفُ العائدِ أي : عيوناً منها . وعلى هذا التخريجِ يجوزُ أَنْ يكونَ " خبالاً " بدلَ اشتمال من " كم " ، والضميرُ أيضاً محذوفٌ أي : " خبالاً منكم " وهذا وجه رابع .

الخامس : أنهصدرٌ في موضع الحال أي : مُتَخَبِّلين . السادس : قال ابن عطية : معناه : لا يُقَصِّرون لكم فيما فيه من الفسادِ عليكم " ، فعلى هذا الذي قَدَّره يكونُ المضمر و " خبالاً " منصوبين على إسقاطِ الخافض وهو اللام و " في " .

وهذه الجملةُ فيها ثلاثةُ أوجه . أحدُها : أنها استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ، وإنما جيء بها وبالجملِ التي بعدَها لبيانِ حالِ الطائفةِ الكافرة حتى يَنْفِروا منها فلا يتخذوها بِطانةً ، وهو وجه حسن .

والثاني : أنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في " مِنْ دونكم " على أنَّ الجارَّ صفةٌ ل " بطانة " . والثالث : أنها في محلِّ نصبٍ نعتاً ل " بطانة " أيضاً .

والأَلْوُ بزنة " الغَزْو " التقصيرُ كما تقدَّم ، قال زهير :

سَعَى بعدَهم قومٌ لكي يُدْرِكوهمُ *** فلم يَفْعَلوا ولم يُلِيموا ولم يَأْلُوا

وقال امرؤ القيس :

وما المرءُ ما دَامَتْ حُشاشَةُ نفسِه *** بمُدْرِكِ أَطْرافِ الخطوبِ ولا آلِ

يقال : آلَى يُؤْلِي بزنة " أَكْرم " ، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية ألفاً ، وأنشدوا :

1399 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فما آلَى بَنِيَّ ولا أساؤوا

ويقال : ائتلَى يَأْتَلي بزنة " اكتسب " يكتسب ، قال امرؤ القيس :

ألا رُبَّ خصمٍ فيكِ أَلْوى رَدَدْتُه *** نصيحٍ على تَعْذالِه غيرُ مُؤْتَلِ

فتيحدُ لفظُ " آلى " بمعنى قصَّر و " آلى " بمعنى حَلَف ، وإنْ كان الفرقُ بينهما ثابتاً من حيث المادةُ ؛ لأنَّ لامَه من معنى الحَلْف ياء ، ومِنْ معنى التقصير واو .

وقال الراغب : " وأَلَوْتُ فلاناً أي : أوْلَيْتُه تقصيراً نحو : كسبته أي : أوليته كَسْباً وما أَلَوْتُه جُهْداً أي : ما أَوْلَيْتُه تقصيراً بحسَبِ الجُهْد ، فقولُك : " جُهْداً " تمييز . وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } منه ، أي : لا يُقَصِّرون في طلبِ الخَبَال . وقال تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ } [ النور : 22 ] قيل : هو يفتعل من أَلَوْت ، وقيل : هو من آليت أي : حَلَفْتُ .

والخَبالُ : الفسادُ ، وأصلُه ما يلحَقُ الحيوانَ من مرضٍ وفتورٍ فيورِثُه فساداً واضطراباً ، يقال منه : خَبَله وخَبَّله بالتخفيف والتشديدِ فهو خابلٌ ومُخْبَلٌ ومَخْبول ومُخَبَّل . ويقال : خَبْل وخَبَل وخَبال . وفي الحديث : " مَنْ شرب الخمر ثلاثاً كان حقاً على اللهِ أن يَسْقِيَه من طينه الخَبال " وقال زهير ابن أبي سلمى :

هنالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلوا المالَ يُخْبِلوا *** وإنْ يَسْأَلوا يُعْطُوا وإنْ يَيْسِروا يُغْلُوا

والمعنى في هذا البيت : أنهم ذا طُلِب منهم إفسادُ شيء من إبلِهم أفسدوه ، وهذا كنايةٌ عن كرمِهم .

قوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أَوْجَهُها : أن تكونَ مستأنفةً كما هو الظاهرُ فيما قبلها . والثاني : أنها نعتٌ ل " بِطانة " فمحَلُّها نصبٌ . والثالث : أنها حالٌ من الضمير في " يأْلونكم " . و " ما " مصدريةٌ ، و " عَنِتُّم " صِلَتُها ، وهي وصلتُها مفعولُ الوَدادة أي : عَنَتُكم أي : مَقْتكُم . وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظةِ في البقرةِ عند [ قوله ] { لأَعْنَتَكُمْ }

[ البقرة : 220 ] . وقال الراغب هنا : " المعاندَةُ والمعانَتَهُ يتقاربان ، لكنَّ المعاندة هي الممانعة ، والمعانتةُ أَنْ يَتَحَرَّى مع الممانَعَةِ المَشَقَّةُ .

قوله : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ } هذه الجملةُ كالتي قبلها ، وقرأ عبد الله : " بدا " من غيرتاء ، لأنَّ الفاعلَ مؤنثٌ مجازي ولأنَّها في معنى البغض . والبغضاء مصدرٌ كالسَّراء والضَّرَّاء . يقال منه : بَغُض الرجل فهو بغيض كظَرُفَ فهو ظريف .

وقوله : { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } متعلِّقٌ ب " بَدَتْ " و " مِنْ " لابتداء الغاية . وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً أي : خارجةً من أفواههم . والأَفْواه : جمعُ فم ، وأصلُه : فوه ، فلامُه هاء ، يَدُلُّ على ذلك جَمْعُه على " أفواه " ، وتصغيرُه على " فُوَيْه " ، والنسبُ إليه على فَوْهِيّ ، وهل وزنُه فَعْل بسكون العين أو فعَل بفتحِها ؟ . خلافٌ للنحويين ، وإذا عَرَفْتَ ذلك فاعلَمْ أنهم حَذَفوا لامَه تخفيفاً فبقي آخرُه حرف علة فأَبْدَلوها ميماً لقُربها منها لأنهما من الشَّفَة ، وفي الميم هَوِيٌّ في الفم يضارع المدَّ الذي في الواو ، هذا كلُّه إذا أفردوه عن الإِضافةِ ، فإنْ أضافوه لم يُبْدِلوا حرفَ العلة كقوله :

فُوهٌ كشَقِّ العَصا لأْياً تَبَيَّنُهُ *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد عُكِس الأمرُ في الطرفين ، فَأَتى بالميمِ في الإِضافةِ وبحرفِ العلةِ في القطعِ عنها ، فمِنَ الأولِ قولُه :

يُصْبحُ ظمآنَ وفي البحرِ فَمُهْ ***

وخَصَّه الفارسي وجماعةٌ بالضرورةِ ، وغيرُهم جَوَّزه سَعَةً ، وجَعَل منه قولَه عليه السلام/ : " لَخُلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ مِنْ ريحِ المسك " ، ومِن الثاني قوله :

خالَطَ مِنْ سَلْمى خياشيمَ وفَا ***

أي : " وفاها " ، وإنما جاز ذلك لأنَّ الإِضافةَ كالمنطوق بها ، وقالت العرب : " رجلٌ مُفَوَّه " إذا كان يجيد القول ، وهو أَفْوَهُ منه أي : أوسع فماً ، وقال لبيد :

1405 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وما فاهوا به أبداً مُقميمُ

وفي الفم تسع لغات ، وله أربعُ مواد : ف وه ، ف م و ، ف م ي ، ف م م ، بدليل أفواه وفَمَوَيْن وفَمَيَيْن وأفمام .

قوله : { وَمَا تُخْفِي } يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ أي : تُخْفيه ، فَحُذِف ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي : وإخفاءُ صدروهم ، وعلى كِلا التقديرين ف " ما " مبتدأٌ ، و " أكبرُ " خبرُه ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي : أكبرُ من الذي أَبْدَوه بأفواهِهم .

قوله : { إِنْ كُنْتُمْ } شرطٌ حُذِفَ جوابُه لدلالةِ ما تقدَّم عليه ، أو هو ما تقدَّم عند مَنْ يرى جوازَه .