غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ} (118)

112

ثم إنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين من مخالطة الكافرين . قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواطؤن رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع ، فنهاهم الله عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم وبطانة الرجل خصيصه وصفيه الذي يفضي إليه بشقوره أي أموره اللاصقة بالقلب المهمة له . الواحد شقر وأصله من البطن خلاف الظهر ، ومنه بطانة الثوب للذي يلي منه الجسد خلاف الظهارة ، نهاهم عن مودة كل كافر لأن قوله : { بطانة } نكرة في سياق النفي . وقوله : { من دونكم } يؤكد ذلك . وهو إما أن يتعلق ب { لا تتخذوا } ويكون صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم والأول أولى ، لأن الغرض ليس هو النهي عن اتخاذ البطانة وإنما المقصود النهي عن الاتخاذ من غير أبناء جنسهم وأهل ملتهم بطانة ، وأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى . و " من " للتبيين وقيل : زائدة . ثم ذكر علة النهي فقال : { لا يألونكم خبالاً } يقال : ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : " لا آلوك نصحاً أو جهداً " على التضمين أي لا أمنعك نصحاً . والخبال الفساد والنقصان ومنه رجل مخبول ومخبل ناقص العقل فاسده . وقيل : خبالاً نصب على التمييز ، وقيل : مصدر في موضع الحال . والمعنى لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفساد حالكم . { ودّوا ما عنتم } أي عنتكم على أن " ما " مصدرية . والعنت الوقوع في أمر شاق ومنه يقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه قد أعنته . والمراد أحبوا وتمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر . والحاصل من الجملتين أنهم لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يمكنهم ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم { قد بدت البغضاء } هي شدة البغض كالضراء شدة الضر . والأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل تكسيره كسوط وأسواط . فحذفت الهاء تخفيفاً وأقيمت الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان . وظهور البغضاء من اليهود واضح لقشرهم العصا وكشرهم عن الأنياب وعدم التقية في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب .

وأما من المنافقين فذلك أن المداجي لا بد أن ينفلت من لسانه ما يكشف عن نفاقه وخبث طويته . وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك . { وما تخفي صدورهم أكبر } لأن فلتات اللسان متناهية وكوامن الصدور تكاد تكون غير متناهية . ثم بيّن أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من غاية العناية وحثهم على إعمال العقل في مدلولات هذه النصائح فقال : { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } من أهل العقول . وقيل : إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه العدوّ والولي . ثم إن سياق هذه الجمل يحتمل أن يكون على سبيل تنسيق الصفات للبطانة كأنه قيل : لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالاً وأدّين عنتكم بادية بغضاؤهم . وأما { قد بينا } فكلام مبتدأ ، أو أحسن من ذلك وأبلغ أن تكون الجمل مستأنفات كلها على جهة التعليل للنهي كما قلنا ، فكأنه قيل : لم لا نتخذهم بطانة ، فقيل : لأنهم لا يقصرون فقيل : لم يفعلون ذلك ؟ فقيل : لأنهم يودون عنتكم . ثم قيل : وما آية ودادة العنت ؟ فقيل : قد بدت والله أعلم . أما كون هذا التقدير أحسن فلأن الجمل المتعاقبة على سبيل التنسيق يتوسط بينها العاطف ولا عاطف ههنا ، وأما كونه أبلغ فلبناء الكلام على السؤال والجواب ولتقليل اللفظ وتكثير المعنى ولإثبات الدعاوى بالبراهين ، ولا يخفى جلالة قدر هذه الفوائد .

/خ120