الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ} (118)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم، {لا تَتّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعني من غير المؤمنين. وإنما جعل البطانة مثلاً لخليل الرجل فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطلاعه على أسراره، وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه، محلّ ما ولي جسده من ثيابه، فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغشّ والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذّرهم بذلك منهم عن مخالّتهم، فقال تعالى ذكره: {لا يَألُونَكُم خَبالاّ} يعني لا يستطيعُونَكُمْ شرّا، من أَلَوْتُ آلُو ألُوّا، يقال: ما ألا فلان كذا، أي ما استطاع...

وإنما يعني جلّ ذكره بقوله: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً} البطانة التي نهى المؤمنين عن اتخاذها من دونهم، فقال: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالاً: أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال. وأصل الخبال والخبال: الفساد، ثم يستعمل في معان كثيرة...

وأما قوله: {وَدّوا ما عَنِتّمْ} فإنه يعني: ودّوا عنتكم، يقول: يتمنون لكم العنت والشرّ في دينكم وما يسوءكم ولا يسرّكم. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم...

واختلفوا في تأويل قوله {وَدّوا ما عَنِتّمْ} فقال بعضهم معناه: ودّوا ما ضللتم عن دينكم...

وقال آخرون:... يعني: أنهم يودّون أن تعنتوا في دينكم...

{قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ}. يعني بذلك جلّ ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم بأفواههم، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم إقامتهم على كفرهم، وعدواتهم من خالف ما هم عليه مقيمون من الضلالة، فذلك من أوكد الأسباب من معاداتهم أهل الإيمان، لأن ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين، العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الاَخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك، فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين ومقامهم عليه أبين الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة. وقد قال بعضهم: معنى قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر بإطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وزعم قائلو هذه المقالة أن الذين عنوا بهذه الآية: أهل النفاق، دون من كان مصرّحا بالكفر من اليهود وأهل الشرك...

عن قتادة، قوله: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} يقول: قد بدت البغضاء من أفواه المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غِشّهم للإسلام وأهله وبغضهم إياهم...

عن الربيع: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ} يقول: من أفواه المنافقين.

وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة قول لا معنى له، وذلك أن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغشّ للإسلام وأهله، والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم. فأما من لم يثبتوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عزّ وجلّ عن مخالته ومباطنته، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرك به المؤمنون معرفة ما هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودّد إليهم، كان بينا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم على ما وصفهم الله عزّ وجلّ به، فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب، لأنهم لو كانوا المنافقين لكان الأمر فيهم على ما قد بينا، ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحرب، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل...

وقال: {مِنْ أفْوَاهِهِمْ} وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم، لأن المعنيّ به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم، فقال: قد بدت البغضاء من أفواههم بألسنتهم.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكْبَرُ}. يعني تعالى ذكره بذلك: والذي تخفي صدورهم، يعني صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة فتخفيه عنكم أيها المؤمنون أكبر، يقول: أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم...

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ بَيّنَا لَكُمُ الآيات إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}. يعني بذلك جلّ ثناؤه: قد بينا لكم أيها المؤمنون الآيات، يعني بالآيات: العبر، قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم، {إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} يعني: إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم ومبلغ عائدته عليكم...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

البطانة: قيل: هم الإخوان، يجعلونهم موضع إفشاء سرهم... والنهي عن اتخاذ الكافر بطانة لوجهين: أحدهما: العرف به، إذ كل يعرف بمن يصحبه. والثاني: الميل إليه بما يريه عدوه أنه حسن العشرة وحسن الصحبة مع ما فيه الإسقاط عما به يستعان على أمر الدين والإغفال عن حقه.

وقوله تعالى: {لا يألونكم خبالا} يقولون: لا يترون عهدهم في إفشاء أمركم. وقوله تعالى: {ودوا ما عنتم} أي يودون، ويتمنوا ما أثمتم... أي ودوا أن تشاركوهم في أشياء تؤثمكم، وتعنتكم عليه، وقيل: العنت الضيق أي ذلك قصدهم [كالآيات التالية].

وقوله تعالى: {وما تخفي صدورهم أكبر} وذلك كانوا يظهرون الموافقة لهم ويضمرون العداوة والخلاف لهم. والسعي في هلاكهم مما كانوا يضمرون أكثر مما كانوا يظهرون... وقوله: {قد بدت البغضاء من أفواههم} من الشتيمة والعداوة، ويضمرون أكثر من ذلك من الفساد والسرور، والله أعلم...

وقوله تعالى: {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}... {إن كنتم} تنتفعون بعقولكم.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}، أي لا يقصّرون ولا يتركون عهدهم وطاقتهم فيما يورّثكم فوق الشر والفساد...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

الركون إلى الضد -بعد تبين المشاق- إعانة على الحال بما لا يبلغه كيد العدو، فأشار الحقُّ -سبحانه- على المسلمين بالتحرز عن الاعتراض، وإظهار البراءة عن كل غير، ودوام الخلوص للحق -سبحانه- بالقلب والسر. وأخبر أن مضادات القوم للرسول صلى الله عليه وسلم أصلية غير طارئة عليهم، وكيف لا؟ وهو صلوات الله عليه محلُّ الإقبال وهم محل الإعراض. ومتى يجتمع الليلُ والنهار؟!...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم} لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين... {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} ما بين لكم فعملتم به.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم} يعني بالأقوال، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه... ثم قال تعالى للمؤمنين، {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} تحذيراً وتنبيهاً، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول: إن كنت رجلاً فافعل كذا وكذا.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فيها مسألتان:

المسألة الأولى: لا خلافَ بين علمائنا أنَّ المرادَ به النهيُ عن مصاحبة الكفار مِن أهل الكتاب، حتى نهى عن التشبُّه بهم.

قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تستَضِيئوا بِنَارِ أهْلِ الشرك، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً».

فلم نَدْرِ ما قال حتى جاء الحسَنُ فقال: لا تستضيئوا: لا تشاوروهم في شيء من أموركم. ومعنى لا تنقشوا عَرَبياً: لا تنقشوا: محمد رسول الله.

قال الحسن: وتصديقُ ذلك في كتاب الله تعالى: {يأَيُّها الَّذينَ آمَنوا لاَ تَتَّخِذُوا بطانَةً من دونكم...

} الآية.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن التشبه بالأعاجم.

المسألة الثانية: حسنة، وهي أنَّ شهادة العدوّ على عدوِّه لا تجوزُ، لقوله تعالى: {قد بدَتِ البغْضاءُ مِن أفْوَاهِهِم وما تُخْفِي صدُورُهم أكبر} وبذلك قال أهلُ المدينة وأهل الحجاز.

وقال أبو حنيفة: تجوزُ شهادةُ العدوِّ على عدوه، والاعتراضات والانفصالات قد مهَّدناها في مسائل الخلاف.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين في هذه الآية...

[و] الفرق بين قوله {لا يألونكم خبالا} وبين قوله {ودوا ما عنتم} في المعنى من وجوه الأول: لا يقصرون في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر الثاني: لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا، فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم والثالث: لا يقصرون في إفساد أموركم، فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج، فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم...

قوله تعالى: {قد بدت البغضاء من أفواههم}... البغضاء أشد البغض، فالبغض مع البغضاء كالضر مع الضراء...

قوله {قد بدت البغضاء من أفواههم} إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان الأول: أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقتة لطريق المخالصة في الود والنصيحة، ونظيره قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30] الثاني: قال قتادة: قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك، أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله {قد بدت البغضاء من أفواههم} فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق، ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه، بل لا بد وأن يبغضه، فهذا هو المراد بقوله {قد بدت البغضاء من أفواههم}. ثم قال تعالى: {وما تخفي صدورهم أكبر} يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة، والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد، ثم بين تعالى أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من نعمه عليهم، فقال: {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} أي من أهل العقل والفهم والدراية، وقيل: {إن كنتم تعقلون}... والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات، والله أعلم.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

لمّا ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين، وهو إخبار عن فعل قلبي، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني، وهو: ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الجمال بالمال لا سيما مع الإنفاق من أعظم المرغبات في الموالاة، وكانت هذه الآية قد صيرت جميله قبيحاً وبَذوله شحيحاً؛ قال سبحانه وتعالى -مكرراً التنبيه على مكر ذوي الأموال والجمال الذين يريدون إيقاع الفتنة بينهم من اليهود والمنافقين ليضمحل أمرهم وتزول شوكتهم: {يا أيها الذين آمنوا} أي إيماناً صحيحاً مصدقاً ادعاؤه بالعمل الصالح الذي من أعظمه الحب في الله والبغض في الله {لا تتخذوا بطانة} أي من تباطنونهم بأسراركم وتختصونهم بالمودة والصفاء ومبادلة المال والوفاء {من دونكم} أي ليسوا منكم أيها المؤمنون، وعبر بذلك إعلاماً بأنهم يهضمون أنفسهم وينزلونها عن علّي درجتها بموادتهم. ثم وصفهم تعليلاً للنهي بقوله: {لا يألونكم خبالاً} أي يقصرون بكم من جهة الفساد، ثم بين ذلك بقوله على سبيل التعليل أيضاً: {ودّوا ما عنتم} أي تمنوا مشقتكم. ولما كان هذا قد يخفى بيَّنه بقوله معللاً: {قد بدت البغضاء من أفواههم} أي هي بينة في حد ذاتها مع اجتهادهم في إخفائها، لأن الإنسان إذا امتلأ من شيء غلبه بفيضه، ولكنكم لحسن ظنكم وصفاء نياتكم لا تتأملونها 394 فتأملوا. ثم أخبر عن علمه سبحانه قطعاً وعلم الفطن من عباده بالقياس ظناً بقوله: {وما تخفي صدورهم أكبر} مما ظهر على سبيل الغلبة. ثم استأنف على طريق الإلهاب والتهييج قوله: {قد بيَّنا} أي بما لنا من العظمة {لكم} أي بهذه الجمل {الآيات} أي الدالات على سعادة الدارين ومعرفة الشقي والسعيد والمخالف والمؤالف. وزادهم إلهاباً بقوله: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {تعقلون}...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قال الأستاذ الإمام: إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع أهل الكتاب، وكذا في المشركين بالتبع والمناسبة. وأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين ومعاملة بعضهم لبعض وإرشادهم في أمرهم، أي إن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك. ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآية بما قبلها ثلاث مقدمات:

- إنه كان بين المؤمنين وغيرهم صلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم والإفضاء إليهم بالسر واطلاعهم على كل أمر، منها المحالفة والعهد، ومنها النسب والمصاهرة، ومنها الرضاعة

- إن الغرة من طبع المؤمن فإنه يبني أمره على اليسر والأمانة والصدق ولا يبحث عن العيوب، ولذلك يظهر لغيره من العيوب وإن كان بليدا ما لا يظهر له هو وإن كان ذكيا

- إن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة وإبطال ما جاء به الإسلام وكان هم المؤمنين الأكبر نشر الدعوة وتأييد الحق. فكان الهمان متباينين، والقصدان متناقضين. ثم قال: فإذا كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شك مقتضية لأن يفضي النسيب من المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين والمحالف منهم لمحالفه من غيرهم بشيء مما في نفسه وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين والخلاف بينهم، وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال. لذلك جعل الله تعالى للصلات بين المؤمنين وغيرهم حدا لا يتعدونه فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) إلى آخر الآيات. وأما المعنى فهو نهي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين الموصوفين بتلك الأوصاف على القول بأن قوله:"لا يألونكم" الخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي وكذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق للتعليل، فالمراد واحد وهو: أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر، وهو أنهم لا يألونهم خبالا وإفسادا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فهذا هو القيد الأول، والثاني قوله عز وجل: (ودّوا ما عنتم) أي تمنوا عنتكم أي وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة. والثالث والرابع قوله: (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) أي قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها، ويعز عليهم إخفاؤها، على أن ما تخفي صدروكم منها أكبر مما يفيض على ألسنتهم من الدلائل عليها، وهذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في الإصلاح ممن يدعونهم إليه؛ وما كان المسلمون الأولون يعرفون سنة البشر في ذلك إذ لم يكونوا على علم بطبائع الملل وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى أعلمهم الله به، ولذلك قال: (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) يعني بالآيات هنا العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته. أي إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها ولا تتخذوا أولئك بطانه. وأنت ترى أن هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطانة أو فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب، لما جاز لك أن تتخذه بطانة لك إن كنت تعقل، فما أعدل هذا القرآن الحكيم وما أعلى هديه وأسمى إرشاده؟ لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود فظنوا أن النهي عن المخالف في الدين مطلقا، ولو جاء هذا النهي مطلقا لما كان أمرا غريبا ونحن نعلم أن الكافرين كانوا إلبا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام إذ نزلت هذه الآيات لا سيما اليهود الذين نزلت فيهم على رأي المحققين. ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود لأن الله تعالى- وهو منزلها- يعلم ما يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة كما وقع من هؤلاء اليهود، فإنهم بعد أن كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين في بعض فتوحاتهم (كفتح الأندلس)، وكذلك كان القبط عونا للمسلمين على الروم في مصر، فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على هؤلاء واحدا في كل زمان ومكان أبد الأبيد؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية، ولا تروي غلته الرواية، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلناه...

فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربا للمسلمين، فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها بعد منتهى التساهل والتسامح مع المخالفين، إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم وبغضاؤهم للمسلمين، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم من الشر فوق ذلك. لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء ومشاركتهم في كل عمل لكان وجه العدل فيها زاهرا، وطريق العذر فيها ظاهرا، فكيف وهي قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شؤون الدفاع عن الملة وصون حقوقها ومقاومة أعدائها؟؟ وما أشبه هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء إذ قيد بقوله عز وجل: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) [الممتحنة: 8-9]...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره ولا يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له وأقسم أنه من أوليائه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي نهاية الدرس الذي ابتدأ بيانا لما في سلوك أهل الكتاب من انحراف، وكشفا لما في جدالهم من مغالطة، وفضحا لما يريدونه بالمسلمين من سوء، وتوجيها للجماعة المسلمة لتنهض بتكاليفها، دون أن تلقي بالا إلى المجادلين المنحرفين الفاسقين.. في نهاية هذا الدرس، ونهاية هذا المقطع الطويل من السورة كلها يجيء التحذير للجماعة المسلمة من أن تتخذ من أعدائها الطبيعيين بطانة، وأن تجعل منهم أمناء على أسرارها ومصالحها، وهم للذين آمنوا عدو.. يجيء هذا التحذير في صورة شاملة خالدة، ما نزال نرى مصداقها في كل وقت، وفي كل أرض. صورة رسمها هذا القرآن الحي، فغفل عنها أهل هذا القرآن. فأصابهم من غفلتهم وما يزال يصيبهم الشر والأذى والمهانة...

إنها صورة كاملة السمات، ناطقة بدخائل النفوس، وشواهد الملامح، تسجل المشاعر الباطنة، والانفعالات الظاهرة، والحركة الذاهبة الآيبة. وتسجل بذلك كله نموذجا بشريا مكرورا في كل زمان وفي كل مكان. ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء. يتظاهرون للمسلمين -في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم- بالمودة. فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة. وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في اعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم، والكيد لهم والدس، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار. وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة؛ وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين، وللشر المبيت، وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم؛ في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعا في أعداء الله هؤلاء، وما يزال يفضي إليهم بالمودة، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة؛ ويتخذ منهم بطانة وأصحابا وأصدقاء، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار.. فجاء هذا التنوير وهذا التحذير، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين، الذين لا يخلصون لها أبدا، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة. ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورا على فترة تاريخية معينة، فهو حقيقة دائمة، تواجه واقعا دائما.. كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود.. والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم: ألا يتخذوا بطانة من دونهم. بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة. وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة.. المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعا في كل أمر، وكل شأن، وكل موضع، وكل نظام، وكل تصور، وكل منهج، وكل طريق! والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم، يوادون من حاد الله ورسوله؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم. والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل: (ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر).

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الآن إذ كشف الله دخائل مَنْ حولَ المسلمين من أهل الكتاب، أتمّ كشف، جاء موقع التحذير من فريق منهم، والتحذير من الاغترار بهم، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة، وهؤلاء هم المنافقون، للإخبار عنهم بقوله: {وإذا لقوكم قالوا آمنا} [آل عمران: 119] الخ... وأكثرهم من اليهود، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج. وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقناعات. وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا.

والبطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثَّوب، وجمعها بطائن، وفي القرآن {بطائنها من استبرق} [الرحمن: 54] وظاهر الثوب يسمّى الظِهارة بكسر الظاء. والبطانة أيضاً الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر، ويسمّى الشِعار، وما فوقه الدثار، وفي الحديث: « الأنصارُ شعار والنَّاس دِثار» ثمّ أطلقت الثِّياب في شدة القرب من صاحبها.

ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يحالفونهم ويودّونهم من قبل الإسلام فلمَّا أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود، ثُمّ كان من اليهود من أظهروا الإسلام، ومنهم من بَقي على دينه.

وقوله: {من دونكم} يجوز أن تكون (من) فيه زائدة و (دون) اسم مكان بمعنى حولكم، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره {ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} [التوبة: 16] ويجوز أن تكون (من) للتبعيض و (دون) بمعنى غير كقوله تعالى {ومنَّا دون ذلك} [الفتح: 27] من غير أهل ملّتكم، وقد علم السامعون أنّ المنهي عن اتِّخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموّهون على المؤمنين بأنَّهم منهم، ودخائلهم تقتضي التَّحذير من استبطانهم.

وجملة: {لا يألونكم خبالاً} صفة لبطانة على الوجه الأول، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عمّا شاركها، لكنّه يظهر بظهور آثاره للمتوسّمين. فنهى الله المسلمين عن اتّخاذ بطانة هذا شأنها وسمَتها، ووكلهم إلى توسّم الأحوال والأعمال، ويكون قوله {ودّوا مَا عنتُّم} وقوله {قد بدت البغضاء} جملتين في محلّ الوصف أيضاً على طريقة ترك عطف الصفات، ويومئ إلى ذلك قوله: {قد بينّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} أي: قد بيّنا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسّمون تلك الصّفات، كما قال تعالى: {إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين} وعلى الاحتمال الثاني يجعل {من دونكم} وصفاً، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنَّهي عن اتِّخاذ بطانة من غير أهل ملّتنا، وهذ الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف، ولتعليل النَّهي، ذلك لأنّ العداوة النَّاشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصّلة لا سيما عداوة قوم يرون هذا الدّين قد أبطَلَ دينهم، وأزال حظوظهم. كما سنبينه.

ومعنى {لا يألونكم خبالاً} لا يقصّرون في حبالكم، والألْوُ: التقصير والترك... وقد يتوسّعون في هذا الفعل فيعدّى إلى مفعولين، لأنَّهم ضمّنوه معنى المنع فيما يرغَب فيه المفعول، فقالوا لا آلوك جُهداً، كما قالوا لا أدّخرك نصحاً، فالظاهر أنَّه شاع ذلك الاستعمال حتَّى صار التضمين منسياً، فلذلك تعدّى إلى ما يدلّ على الشرّ كما يعدّى إلى ما يدلّ على الخير، فقال هنا: {لا يألونكم خبالا} أي لا يقصّرون في خبالكم، وليس المراد لا يمنعونكم، لأن الخبال لا يُرْغب فيه ولا يسأل.

ويحتمل أنَّه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكّم بالبطانة، لأنّ شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم، فلمّا كان هؤلاء بضدّ ذلك عبّر عن سعيهم بالضرّ، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير.

والخبال اختلال الأمر وفساده، ومنه سمّي فساد العقل خبالاً، وفساد الأعْضَاء.

وقوله {ودّوا ما عنتم} الود: المحبّة، والعنَت: التعب الشَّديد، أي رغبوا فيما يعنتكم و (ما) هنا مصدرية، غير زمانية، ففعل {عنتم} لمّا صار بمعنى المصدر زالت دلالته على المضي.

ومعنى {قد بدت البغضاء من أفواههم} ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} فعبّر بالبغضاء عن دلائلها.

وجملة {وما تخفي صدورهم أكبر} حالية.

(والآيات) في قوله: {قد بينا لكم الآيات} بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} [الحجر: 75] ولم يزل القرآن يربّي هذه الأمّة على إعمال الفكر، والاستدلال، وتعرّف المسبَّبات من أسبابها في سائر أحوالها: في التَّشريع، والمعاملة ليُنشئها أمَّة علم وفطنة.

ولكون هذه الآيات آياتِ فراسةٍ وتوسّم، قال: {إن كنتم تعقلون} ولم يقل: إن كنتم تعلمون أو تفقهون، لأنّ العقل أعمّ من العلم والفقه.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذه الآية وما وليها من آيات فيها عود إلى التحذير مما يريده أهل الكتاب والمنافقون من أهل الإيمان والإخلاص، فقد قال تعالى من قبل: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين100} [آل عمران] وبين وجوب الاعتصام بحبل الله تعالى وهو كتابه تعالت كلماته، وعظمت آياته، لتتم الوحدة الإسلامية، ثم ذكر من بعد ذلك بعض أحوال اهل الكتاب، وما عساه قد يكون في بعضهم من خير، وما عليه سائرهم من شر، وفي هذه الآية يحذر تحذيرا شديدا من نوع آخر، فقد كان التحذير متجها إلى الحث على اليقظة الفكرية، حتى لا يفسد أهل الكتاب على المؤمنين دينهم الذي ارتضوا فيهم أنه لا يصح الاسترسال في إرضائهم، فإنه لا يرضيهم من المؤمن إلا أن يخرجوا عن دينه ويطرحه وراءه ظهريا، وأن يسير وراء ركبهم، ولقد قال سبحانه: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم...120} [البقرة]. فالتحذير هنالك للخوف على العقيدة أن لا يفسدها هؤلاء، أما التحذير هنا فهو للخوف من أن يفسد أولئك المنافقون من أهل الكتاب الجماعة الإسلامية، وينشروا فيها الاضطراب، وألا يكون نظام قائم ثابت الدعائم، ولذا قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} بطانة الرجل: خاصته الذين يعرفون خفاياأمره، ومنون سره؟، ويستنبطون ما يخفى على غيرهم، فيعرفون موضع قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة...

وصدر النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى أن مقتضى الإيمان ألا يستعينوا بأولئك الذين كفروا بآيات الله تعالى، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، فقضية إيمانكم وكفرهم توجب ألا تأمنوهم في خاصة أموركم...

وقد ذكر سبحانه الأوصاف والأحوال التي توجب الامتناع عن اتخاذ بطانة منهم، فذكر لهم أحوالا ثلاثة: أولها، وهي كافية في إبعادهم عن أسرار الدولة، وهي التي قال الله تعالى فيها: {لا يألونكم خبالا}. الخبال: كالخبل: الاضطراب والفساد، وهما متلازمان، فلا اضطراب إلا ومعه فساده، ولا فساد إلا يترتب عليه اضطراب، فهما معنيان متقاربان ومتلازمان...

{ودوا ما عنتم} هذا هو الوصف الثاني، أو الحال الثانية من أحوالهم، وهي سبب لإرادتهم البوار والفساد للمسلمين، فالأولى مظهر ونتيجة، والثانية باعث ودافع، فهم لا يودون للمسلمين السعادة والرفاهية والخير والقوة، بل يودون لهم الشقاء والتعس والأذى، وليس لعاقل أن يطلع خفايا أموره ويستنصح من لا يود له إلا الشر والأذى...

{قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم اكبر} البغضاء: البغض الشديد المستمكن الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، فهي صفة ثابتة... وهذا الوصف هو في الحقيقة توبيخ لأولئك الذين يأتمنونهم، وحالهم في البغضاء ظاهرة مكشوفة، غير مخفية ولا مستورة...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

يعود كتاب الله إلى تحذير المؤمنين مرة أخرى من دسائس خصوم الإسلام، فينهاهم نهيا باتا عن اتخاذهم بطانة لهم من دون المؤمنين ويمنع المسلمين من الإفضاء إليهم بأسرارهم، وذلك حتى لا يستعين عليهم بها أعداؤهم. ولا يقف كتاب الله عند هذا الحد، بل يكشف للمسلمين حقائق خصوم الإسلام الدفينة، ونواياهم الخفية، فهم بشهادة الله الذي يعلم السر والنجوى، حريصون كل الحرص على أن يبلبلوا أفكار المسلمين، ويجعلوها مضطربة متناقضة متشاكسة باستمرار، ليظل المسلمون على الدوام في حيرة واضطراب وبلبلة، ولا يهتدوا سبيلا. وهم بشهادة كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يحملون للمسلمين بغضا دفينا، وكرها عميقا، وهذا البغض يتجلى في فلتات ألسنتهم، ويبرز على ملامحهم وفي انطباعاتهم، كلما جاءت مناسبة أو دعت ضرورة لبروزه. ثم ينعى كتاب الله على السذج من المسلمين ما هم عليه من سذاجة يستغلها خصومهم إلى أقصى الحدود، حتى أنهم ليبادرون إلى محبة أولئك الخصوم الألداء، بينما خصومهم ثابتون على حقهم، ولا يتنازلون عن بغضهم للإسلام وأهله قيد شعرة...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

أي أنكم ما دمتم قد آمنتم، فعليكم الحفاظ على هذا الإيمان بأن تبعدوا عنه نزغ الشيطان وكيد الأعداء. إن نزغ الشيطان وكيد الأعداء إنما يأتي من البطانة التي تتداخل مع الإنسان...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

على ضوء هذا الاستعراض الوافي للصفات السلبية التي يتّصف بها أعداء الإسلام، فإنَّ القرآن يريد لهم أن لا يتخذوهم بطانة في ما يكلّفونهم به من أعمال وأدوار تتصل بالقضايا المصيرية للإسلام والمسلمين، فيطلعون من خلال ذلك على الأسرار الخفية للواقع الإسلامي، فيستغلون هذه المعرفة في الكيد والتآمر على الإسلام والمسلمين... وهذا خطّ عام في حركة المجتمع الإسلامي مع الفئات الأخرى المعادية من أهل الكتاب وغيرهم، بالمحافظة على دراسة الواقع الداخلي للأشخاص الذين يتسلّمون مراكز المسؤولية الكبيرة في القضايا الإسلامية العامّة. ولكن ذلك لا يمنع من التعايش والتعاون في الأمور الأخرى التي يمكن فيها توفير بعض الحماية للأسرار، لأنَّها لا تتضمن سرّاً ولا تمثِّل خطراً من قريبٍ أو من بعيدٍ. مشاعرهم ليست خالصة: [يا أيُّها الذين آمنوا لا تتَّخذوا بطانةً] واجهوا الواقع بمنطق الواعين الذين يتحرّكون في علاقاتهم على أساس الوعي العميق لانتماءات أصحابهم الذين تفرض عليهم الأوضاع العائلية والاجتماعية صحبتهم والتعامل معهم، في دراسة شاملة لكلّ منطلقاتهم والتزاماتهم وخلفياتهم الدينيّة والسياسيّة، لتكونوا حذرين في أحاديثكم معهم، في أسراركم التي تتحدّثون بها معهم، وفي أوضاع المسلمين التي تثيرونها معهم، وفي الأجواء الداخلية والخارجية التي يُدخلونكم فيها من أجل مختلف التأثيرات السلبية والإيجابية مما يعملون على إثارته في ساحاتكم. فإنَّ اختلاف الانتماء لا سيّما في حالات الصراع المرير قد يؤدّي إلى الاختلاف في النوايا والدوافع والمواقف، الأمر الذي قد يكون موضع استغلال للعلاقات الحميمة من قِبل أيّ طرف ضدَّ الطرف الآخر للإساءة إلى فريقه لحساب الفريق الآخر. [من دونكم] من هؤلاء الذين يختلفون معكم في الإسلام على مستوى الانتماء إلى الدِّين الآخر، أو إلى الخطّ الآخر ممن تخوضون معهم الصراع الحادّ على جميع المستويات أو على مستوى انتمائهم الإسلامي الظاهري مع استبطانهم الكفر، فلا تدخلوهم في الأجواء الخفية التي يتحرّك فيها الواقع الإسلامي الداخلي، ولا تفسحوا لهم المجال ليكونوا في المواقع المتقدّمة من الساحة الإسلامية في الوظائف التي توظفونهم فيها، والأماكن التي تضعونهم فيها بفعل علاقاتكم الخاصّة بهم، [لا يألُونَكُم خَبَالاً] فهم قد يظهرون لكم المحبة بطريقة شخصية؛ ولكنَّهم يخفون في أنفسهم العزيمة على الإيقاع بكم، والإضرار بمصالحكم، وإفساد أموركم، وتوجيه عقولكم في اتجاه الغفلة والجنون الفكري والشعوري والسياسي... لأنَّ الخطّة الموضوعة لديهم في مواجهة الإسلام تفرض عليهم السير في هذا الاتجاه.

[وَدُّوا ما عَنِتُّم] فهم يحبّون لكم الوقوع في المشقة والعناء في حربكم وسلمكم، فلا يريدون لكم الراحة في مشاريعكم الداخلية وفي أوضاعكم الخارجية، ما يجعل الصداقة غير ذات موضوع لديهم أمام الشخصية الاجتماعية التي تفرض عليهم المحافظة على وجودهم وامتيازاتهم في هذا الجوّ الإسلامي الجديد الذي قد يُصادر بعض مصالحهم ويؤكّد انتصاره عليهم، بحيث يؤدّي إلى التعقيد في حالاتهم النفسية وأوضاعهم الخارجية...

[وما تُخْفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ] من الحقد الدفين الكامن في نفوسهم، انطلاقاً من إحساسهم الذاتي الفئوي بأنَّكم قادمون لإلغاء مواقعهم المتقدّمة في امتدادهم الديني في ساحة الواقع، وتحطيم عنصريتهم المعقّدة.

[قد بيَّنَّا لكم الآياتِ] بما أظهرناه لكم من الدّلالات الواضحة على الخطّ الفاصل بين العدوّ والوليّ، سواء على مستوى اختلاف الانتماء الديني أو اهتزاز الحالات النفاقية الشريرة، ما يفرض عليكم الأخذ بأسباب الحذر في علاقتكم بهم، والتحرّك من موقع الوعي في حركتكم معهم،

[إن كنتم تعقِلون] فتتحرّكون في أوضاعكم وعلاقاتكم من قاعدة العقل الباحث عن أسرار الأشياء بما يكتشفه من حالة العمق العميق فيها، ليدفع الإنسان إلى التحرّك في دائرة دفع الضرر وجلب النفع، فإنَّ الإنسان السائر على هدى العقل لا يُخطئ طريقه غالباً، ولا يلقي بنفسه في مواقع الهلاك.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لا تتخذوا الأعداء بطانة:

هذه الآية التي جاءت بعد الآيات السابقة التي تعرضت لمسألة العلاقات بين المسلمين والكفّار، تشير إلى قضايا حساسة بالغة الأهمية، وتحذر المؤمنين ضمن تمثيل لطيف بان لا يتخذوا من الذين يفارقونهم في الدين والمسلك أصدقاء يسرون إليهم ويخبرونهم بأسرارهم، وأن لا يطلعوا الأجانب على ما تحتفظ به صدورهم وما خفي من نواياهم وأفكارهم الخاصّة بهم، قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة 41 من دونكم...).

وهذا يعني أن الكفّار لا يصلحون لمواصلة المسلمين ومصادقتهم، كما لا يصلحون بأن يكونوا أصحاب سر لهم، وذلك لأنهم لا يتورعون عن الكيد والإيقاع بهم ما استطاعوا: (لا يألونكم خبالاً).

فليست الصداقات والعلاقات بقادرة على أن تمنع أولئك الكفّار بسبب ما يفارقون به المسلمين في العقيدة والمسلك من إضمار الشر للمسلمين، وتمني الشقاء والعناء لهم (ودوا ما عنتم) أي أحبوا في ضمائرهم ودخائل نفوسهم لو أصابكم العنت والعناء.

إنهم لإخفاء ما يضمرونه تجاهكم يحاولون دائماً أن يراقبوا تصرفاتهم، وأحاديثهم كيلا يظهر ما يبطنونه من شر وبغض لكم، بيد أن آثار ذلك العداء والبغض تظهر أحياناً في أحاديثهم وكلماتهم، عندما تقفز منهم كلمة أو أخرى تكشف عن الحقد الدفين والحنق المستكن في صدورهم: (قد بدت البغضاء من أفواههم).

وتلك حقيقة من حقائق النفس يذكرها الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في إحدى كلماته إذ يقول:

«ما أضمر أحد شيئاً إلاَّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه».

إنه لابدّ أن يَرْشَح شيء إلى الخارج إذا ما امتلأ الداخل، كما يطفح الكيل فتنفضح السرائر، وتبدو الدخائل.

وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية إحدى سبل التعرف على بواطن الأعداء ودخائل نفوسهم، ثمّ إنه سبحانه يقول: (وما تخفي صدورهم أكبر) أي أن ما يبدو من أفواههم ما هي إلاَّ شرارة تحكي عن تلك النار القوية الكامنة في صدورهم.

ثمّ إنه تعالى يضيف قائلاً: (قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) أي أن ما ذكرناه من الوسيلة للتعرف على العدو أمر في غاية الأهمية لو كنتم تتدبرون فيه، فهو يوقفكم على وسيلة جد فعالة لمعرفة ما يكنه الآخرون ويضمرونه تجاهكم، وهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لأمنكم وحياتكم وبرامجكم.