قوله تعالى : { له معقبات } ، أي : لله تعالى ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار ، فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النهار جاء في عقبها ملائكة الليل . والتعقيب : العود بعد البدء ، وإنما ذكر بلفظ التأنيث لأن واحدها معقب ، وجمعه معقبة ، ثم جمع الجمع معقبات ، كما قيل : ابناوات سعد ورجالات بكر .
أخرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصالة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم - : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون " . قوله تعالى : { من بين يديه ومن خلفه } ، يعني : من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ، ومن خلفه : من وراء ظهره ، { يحفظونه من أمر الله } ، يعني : بأمر الله ، أي : يحفظونه بإذن الله تعالى ما لم يجيء المقدور ، فإذا جاء المقدور خلوا عنه . وقيل : يحفظونه من أمر الله : أي مما أمر الله به من الحفظ عنه . قال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك موكل به ، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال وراءك ! إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه . قال كعب الأحبار : لولا أن الله عز وجل وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفكم الجن . وقال عكرمة : الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونه من بين أيديهم ومن خلفهم . وقيل : الآية في الملكين القاعدين عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات ، كما قال الله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق-17 ] . قال ابن جريج : معنى يحفظونه أي : يحفظون عليه أعماله من أمر الله ، يعني : الحسنات والسيئات .
وقيل : الهاء في قوله { له } : راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى جؤيبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : له معقبات يعني لمحمد صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ، يعني : من شر الجن وطوارق الليل والنهار .
وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت هذه الآيات في عامر بن الطفيل ، وأربد بن ربيعة ، وكانت قصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ، وهما عامريان ، يريدان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه ، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور وكان من أجل الناس . فقال رجل : يا رسول الله ، هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك ، فقال : دعه فإن يرد الله به خيرا يهده . فأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد مالي إن أسلمت ؟ قال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين . قال : تجعل لي الأمر بعدك . قال : ليس ذلك إلي ، إنما ذلك إلى الله عز وجل ، يجعله حيث يشاء . قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر ، قال : لا . قال : فلماذا تجعل لي ؟ . قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها . قال : أو ليس ذلك إلى اليوم ؟ قم معي أكلمك . فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف ، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار أربد من خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه بالسيف ، فاخترط من سيفه شبرا ، ثم حبسه الله تعالى عنه ، فلم يقدر على سله ، وجعل عامر يومئ إليه ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما صنع بسيفه ، فقال : اللهم أكفنيهما بما شئت . فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته ، وولى عامر هاربا وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يمنعك الله تعالى من ذلك ، وأبناء قيلة ، يريد : الأوس والخزرج .
فنزل عامر بيت امرأة سلولية ، فلما أصبح ضم عليه سلاحه وقد تغير لونه ، فجعل يركض في الصحراء ، ويقول : ابرز يا ملك الموت ، ويقول الشعر ، ويقول واللات والعزى لئن أبصرت محمدا وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي ، فأرسل الله إليه ملكا فلطمه بجناحه فأرداه في التراب وخرجت على ركبتيه في الوقت غدة عظيمة ، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية . ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره فأجاب الله دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل عامر بن الطفيل بالطعن وأربد بالصاعقة ، وأنزل الله عز وجل في هذه القصة قوله : " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه " ، يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله . يعني تلك المعقبات من أمر الله ، وفيه تقديم وتأخير . وقال لهذين : { إن الله لا يغير ما بقوم } ، من العافية والنعمة ، { حتى يغيروا ما بأنفسهم } . من الحال الجميلة فيعصوا ربهم . { وإذا أراد الله بقوم سوءاً } ، أي : عذابا وهلاكا { فلا مرد له } أي : لا راد له { وما لهم من دونه من وال } ، أي : ملجأ يلجؤون إليه . وقيل : وال يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر رعايته لعباده فقال - تعالى - { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ اللَّهَ . . . } .
والضمير في { له } يعود إلى { من } في قوله { مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل } باعتبار تأويله بالمذكور .
و " معقبات " صفة لموصوف محذوف أى : ملائكة معقبات .
قال الشوكانى : " والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه . وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين . قال الزجاج : المعقبات ملائكة يأتى بعضهم بعقب بعض ، وإنما قال " معقبات " مع كون الملائكة ذكوراً ؛ لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة ، ثم جمع معقبة على معقبات .
قال الجوهرى : والتعقيب العود بعد البدء قال الله - تعالى - { ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } يقال : عقب الفرس في عدوه ، أى : جرى بعد جريه . وعقبه تعقيبا . أى : جاء عقبة و " من " في قوله { مِنْ أَمْرِ الله } بمعنى باء السببية .
والمعنى : لكل واحد من هؤلاء المذكورين ممن يسرون القول أو يجهرون به ، ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار ويحيطون به من جميع جوانبه لحفظه ورعايته ، ولكتابة أقواله وأعماله ، وهذا التعقيب والحفظ ، إنما هو بسبب أمر الله - تعالى - لهم بذلك .
قال ابن كثير : وفى الحديث الصحيح : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم - سبحانه - وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادى ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون " .
وفى الحديث الآخر : " إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحويهم وأكرموهم " أى : فاستحيوا منهم وأكرموهم بالتستر وغيره .
وقال عكرمة عن ابن عباس " يحفظونه من أمر الله ، قال ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه " .
ثم ساق - سبحانه - سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } .
أى : إن الله - تعالى - قد اقتضت سنته ، أنه - سبحانه - لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وخير بضده ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة إلى معصية ؛ ومن جميل إلى قبيح ، ومن صلاح إلى فساد .
وإذا أراد - سبحانه - بقوم سوءا من عذاب أو هلاك ما يشبهها بسبب إيثارهم الغى على الرشد ، فلا راد لقضائه ، ولا دافع لعذابه .
وما لهم من دونه - سبحانه - من وال أى من ناصر ينصرهم منه - سبحانه - ويرفع عنهم عقابه ، ويلى أمورهم ويلتجئون إليه عند الشدائد .
فالجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر عدل الله في شئون عباده ، وتحذير شديد لهم من الإِصرار على الشرك والمعاصى وجحود النعمة ، فإنه - سبحانه - لا يعصم الناس من عذابه عاصم . ولا يدفعه دافع .
قال الإِمام ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : أوحى الله إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله ، فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا تحول الله لهم لهم مما يحبون إلى ما يكرهون .
ثم قال : إن مصداق ذلك في كتاب الله { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .
وعن عمير بن عبد الملك قال : خطبنا على بن أبى طالب على منبر الكوفة فقال : كنت إذا سكت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدأنى ، وإذا سألته عن الخبر أنبأنى ، وإنه حدثنى عن ربه - عز وجل - قال : " قال الرب : وعزتى وجلالى وارتفاعى فوق عرشى ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتى ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتى ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابى إلى ما يحبون من رحمتى " .
( له معقبات من بين يديه ومن خلفه - يحفظونه - من أمر الله ) . .
والحفظة التي تتعقب كل إنسان ، وتحفظ كل شاردة وكل واردة وكل خاطرة وكل خالجة ، والتي هي من أمر الله ، لا يتعرض لها السياق هنا بوصف ولا تعريف . أكثر من أنها . ( من أمر الله ) . . فلا نتعرض نحن لها : ما هي ? وما صفاتها ? وكيف تتعقب ? وأين تكون ? ولا نذهب بجو الخفاء والرهبة والتعقب الذي يسبغه السياق . فذلك هو المقصود هنا ؛ وقد جاء التعبير بقدره ؛ ولم يجيء هكذا جزافا ؛ وكل من له ذوق بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذا الجو الغامض بالكشف والتفصيل !
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . .
فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم . فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى ، ولا يغير عزا أو ذلة ، ولا يغير مكانة أو مهانة . . . إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم . وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون . ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم ، ويجيء لاحقا له في الزمان بالقياس إليهم .
وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة ؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته ، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر ؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم . والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل . وهو يحمل كذلك - إلى جانب التبعة - دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله ، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه .
وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء ؛ لأنهم - حسب المفهوم من الآية - غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء :
( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ) . .
يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة . وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم ، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم - إذا استحقوه بما في أنفسهم - ولا يعصمهم منه وال يناصرهم . .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوَءًا فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لله تعالى ذكره مُعَقبّات ، قالوا : الهاء في قوله «له » من ذكر اسم الله ، والمعقّبات التي تتعقّب على العبد وذلك أن ملائكة الليل إذا صَعِدت بالنهار أعقبتها ملائكة النهار ، فإذا انقضى النهار صعدت ملائكة النهار ثم أعقبتها ملائكة الليل ، وقالوا : قيل معقبّات ، والملائكة : جمع مَلَك مذكر غير مؤنث ، وواحد الملائكة معقب ، وجماعتها مُعقّبة ، ثم جمع جمعه ، أعني جمع معقب بعد ما جمع معقبة . وقيل : معقبات ، كما قيل : أبناوات سعد ، ورجالات بني فلان جمع رجال .
وقوله : مِنْ بينَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني بقوله : مِنْ بينَ يَدَيْهِ من قدّام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ، وَمَنْ خَلْفِهِ : من وراء ظهره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، يعني ابن زاذان ، عن الحسن في هذه الآية : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بَينَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ قال : الملائكة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القُشَيريّ ، قال : حدثنا عليّ بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدويّ ، قال : دخل عثمان بن عفّان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العبد كم معه من ملَك ؟ قال : «مَلَكٌ على يَمِينِكَ على حَسَناتِكَ ، وَهُوَ أمِيرٌ على الّذِي على الشّمالِ ، فإذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْرا ، وَإذَا عَمِلْتَ سَيّئَةً قالَ الّذِي على الشّمالِ للّذِي على اليَمِينِ : اكْتُبْ قالَ : لا لَعَلّهُ يَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَيَتُوبُ ، فإذَا قالَ ثَلاثا ، قالَ : نَعَمْ اكْتُبْ أرَاحَنا اللّهُ مِنْهُ ، فَبِئْسَ القَرِينُ ، ما أقَلّ مُرَاقَبَتَهُ لِلّهِ ، وأقَلّ اسْتِحْياءَهُ مِنّا يَقُولُ اللّهُ : ما يَلْفِظَ مِنْ قَوْلٍ إلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ . وَمَلَكانِ مِنْ بينِ يَدَيْكِ وَمِنْ خَلْفكَ ، يَقُولُ اللّهُ : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ وَمَلَكٌ قابِضٌ على ناصِيَتَكَ ، فإذَا تَوَاضَعْتَ لِلّهِ رَفَعَكَ ، وإذَا تَجَبّرْتَ على اللّهِ قَصَمَك . ومَلَكانِ على شَفَتَيْكَ لَيْس يَحْفَظانِ عَلَيْكَ إلاّ الصّلاةَ على مُحَمّد وَمَلَكٌ قائمٌ على فِيكَ لا يَدَعُ الحَيّةَ تَدْخُلُ فِي فِيكَ وَمَلَكانِ على عَيْنَيْكَ . فَهُؤلاءِ عَشْرَةُ أمْلاكٍ على كُلّ آدَميّ ، يَنْزِلُونَ مَلائِكَةُ اللّيْلِ على مَلاَئِكَةِ النّهارِ ، ( لأن ملائكة الليل سوى ملأئكة النهار ) فَهَؤُلاءِ عِشْرُونَ مَلَكا على كُلّ آدَمِيّ ، وَإبْلِيسُ بالنّهارِ وَوَلَدُهُ باللّيْلِ » .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ الملائكة يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد ، في قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ قال : مع كلّ إنسان حفظة يحفظونه من أمر الله .
قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَديْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ فالمعقبات هنّ من أمر الله ، وهي الملائكة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدره خَلّوا عنه .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ فإذا جاء القدر خَلّوا عنه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم في هذه الآية ، قال : الحَفَظة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : لَهُ مُعَقباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : ملائكة .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا يَعْلى ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ قال : ملائكة الليل يَعقُبون ملائكة النهار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ هذه ملائكة الليل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار ، وذُكر لنا أنهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح . وفي قراءة أبيّ بن كعب : «له معقّبات من بين يديه ورقيب من خلفه يحفظونه من أمر الله » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : لَهُ مَعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ قال : ملائكة يتعاقبونه .
حدثنا القاسم ، قال حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ قال : الملائكة . قال ابن جريج : معقّبات : قال : الملائكة تَعَاقبُ الليل والنهار . وبلغَنَا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح »وقوله : مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَه قال ابن جريج : مثل قوله : عَنِ اليَمينِ وَعَنِ الشّمالِ قَعِيدٌ قال : الحسنات من بين يديه والسيئات من خلفه ، الذي عن يمينه يكتب الحسناتِ والذي عن شماله يكتب السيئات .
حدثنا سَوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت ليثا يحدّث عن مجاهد أنه قال : ما من عبد إلا له ملَك مُوَكّلٌ يِحفِظه في نونه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ ، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءَك ، إلا شيئا يأذن الله فيه فيصيبه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ قال : يعني الملائكة .
وقال آخرون : بل عني بالمعقّبات في هذا الموضع : الحرس الذي يتعاقب على الأمير . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمنْ خَلْفهِ قال : ذلك مَلِك من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يعني : وليّ السلطان يكون عليه الحرس .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن شَرْقيّ أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ قال : هؤلاء الأمراء .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عمرو بن نافع ، قال : سمعت عكرمة يقول : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ قال : المواكب من بين يديه ومن خلفه .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : هو السلطان المحروس من أمر الله ، وهم أهل الشرك .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب ، قول من قال : الهاء في قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ من ذكر «من » التي في قوله : وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه ، هي حَرَسه وجَلاَوِزته كما قال ذلك مَن ذكرنا قوله .
وإنما قلنا : ذلك أولى التأويلين بالصواب لأن قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ أقرب إلى قوله : وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ منه إلى عالم الغيب ، فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره ، وأن يكون المعنىّ بذلك هذا ، مع دلالة قول الله : وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدّ لَهُ على أنهم المعِنيّون بذلك . وذلك أنه جلّ ثناؤه ذكر قوما أهل معصية له وأهل ريبة ، يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار ، ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم ، ومَنَعَة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله ، ثم أخبر أن الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءا لم ينفعهم حرسهم ، ولا يدفع عنهم حفظهم .
وقوله : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ اختلف أهل التأويل في تأويل هذا الحرف على نحو اختلافهم في تأويل قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ فمن قال : المعقبات هي الملائكة ، قال : الذين يحفظونه من أمر الله هم أيضا الملائكة ومن قال : المعقبات هي الحرس والجلاوزة من بني آدم ، قال : الذين يحفظونه من أمر الله هم أولئك الحرس .
واختلفوا أيضا في معنى قوله : مِنْ أمْرِ اللّهِ فقال بعضهم : حِفْظهم إياه من أمره . وقال بعضهم : يحفظونه من أمر الله بأمر الله . ذكر من قال : الذين يحفظونه هم الملائكة ، ووَجّهَ قوله : بأمر الله إلى معنى أن حفظها إياه من أمر الله :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ يقول : بإذن الله ، فالمعقبات : هي من أمر الله ، وهي الملائكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : الملائكة : الحَفَظَة ، وحِفْظُهم إياه من أمر الله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، قال : ثني عبد الملك ، عن ابن عبيد الله ، عن مجاهد ، في قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : الحَفَظَة هم من أمر الله .
قال : حدثنا عليّ ، يعني ابن عبد الله بن جعفر ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن ابن عباس : لَه مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ رُقباء وَمِنْ خَلْفِهِ منْ أمْر اللّهِ يَحْفَظُونَهُ .
قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الجارود ، عن ابن عباس : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ رقيب وَمِنْ خَلْفِهِ .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خَصِيف ، عن مجاهد : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : الملائكة من أمر الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ الله قال : الملائكة من أمر الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : الحَفَظة . ذكر من قال : عنى بذلك يحفظونه بأمر الله :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ : أي بأمر الله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ ، وفي بعض القراءات : «بأمر الله » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد في قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ قال : مع كلّ إنسان حفظة يحفظونه من أمر الله . ذكر من قال : تحفظه الحرس من بني آدم من أمر الله :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ يعني : وليّ السلطان يكون عليه الحرس ، يحفظونه من بين يديه ومن خلفه . يقول الله عزّ وجلّ : يحفظونه من أمري ، فإني إذا أردت بقوم سوءا فلا مردّ له وما لهم من دونه من والٍ .
حدثني أبو هريرة الضبعيّ ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا سعيد ، عن شَرْقيّ ، عن عكرمة : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : الجلاوزة .
وقال آخرون : معنى ذلك : يحفظونه من أمر الله ، وأمر الله الجنّ ، ومن يبغي أذاه ومكروهه قبل مجيء قضاء الله ، فإذا جاء قضاؤه خَلّوا بينه وبينه . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو هريرة الضّبَعيّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ورقاء ، عن منصور ، عن طلحة ، عن إبراهيم : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ قال : من الجنّ .
حدثنا سَوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت ليثا يحدّث عن مجاهد أنه قال : ما من عبد إلا له ملَك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءَك ، إلا شيئا يأذن الله فيصيبه .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد الألهانيّ ، عن يزيد بن شُرَيح عن كعب الأحبار ، قال : لو تجّلى لابن آدم كلّ سهل وحَزْن ، لرأى على كلّ شيء من ذلك شياطين ، لولا أن الله وَكل بكم ملائكة يذُبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذنْ لتُخُطّفتم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي مُجَلّز ، قال : جاء رجل من مُراد إلى عليّ رضي الله عنه ، وهو يصّلي ، فقال : احترس ، فإن ناسا من مُراد يريدون قتلك فقال : إن مع كل رجل مَلَكين يحفظانه مما لم يقدّر ، فإذا جاء القدر خَليّا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حصينة .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن الحسن بن ذَكوان ، عن أبي غالب ، عن أبي أُمامة قال : ما من آدميّ إلا ومعه مَلَك موكّل يذود عنه حتى يُسْلِمه للذي قُدّر له .
وقال آخرون : معنى ذلك : يحفظونه عليه من الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْر الله قال : يحفظون عليه من الله .
قال أبو جعفر : يعني ابن جريج بقوله : يحفظون عليه الملائكة الموكّلة بابن آدم ، بحفظ حسناته وسيئاته ، وهي المعّقبات عندنا ، تحفظ على ابن آدم حسناته وسيئاته من أمر الله . وعلى هذا القول يجب أن يكون معنى قوله : مِنْ أمْر الله أن الحفظة من أمر الله ، أو تحفظ بأمر الله ، ويجب أن تكون الهاء التي في قوله : يَحْفَظُونَهُ وحدت وذكرت ، وهي مراد بها الحسنات والسيئات ، لأنها كناية عن ذكر من الذي هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ، وأن يكون المستخفي بالليل أقيم ذكره مقام الخبر عن سيئاته وحسناته ، كما قيل : وَاسْئَل القَرْيَة التي كُنّا فِيها والعِيرَ التي أقْبَلْنا فِيها .
وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك خلاف هذه الأقوال كلها :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ وَسارِبٌ بالنّهارِ قال : أتى عامرُ بن الطفيل ، وأربد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عامر : ما تجعل لي إن أنا اتبعتك ؟ قال : «أنْتَ فارِسٌ أُعْطِيكَ أعِنّة الخَيْلِ » قال : لا . قال : «فَمَا تَبِغِي ؟ » قال : لي الشرقُ ولك الغرب . قال : «لا » . قال : فلي الوَبَر ولك المدَر . قال : «لا » قال : لأملأنها عليك إذا خيلاً ورجالاً ، قال : «يَمْنَعُكَ اللّهُ ذَاكَ وَأبْناء قِيْلة » يريد الأوس والخزرج . قال : فخرجا ، فقال عامر لأربد : إنْ كان الرجل لنا لممكنا لو قتلناه ما انتطحت فيه عنزان ولرضُوا بأن نعقله لهم وأحبوا السلم وكرهوا الحرب إذا رأوا أمرا قد وقع . فقال الاَخر : إن شئت فتشاورا ، وقال : ارجع وأنا أشغله عنك بالمجادلة ، وكن وراءه فاضربه بالسيف ضربة واحدة فكانا كذلك ، واحد وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، والاَخر قال : اقصص علينا قصصك ، قال : ما يقول قرآنك ؟ فجعل يجادله ويستبطئه حتى قال : مالك أحْشمت ؟ قال : وضعت يدي على قائم سيفي فيبست ، فما قدرت على أن أُحْلي وَلا أُمِرّ ولا أحرّكها . قال : فخرجا فلما كانا بالحرّة سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير ، فخرجا إليهما ، على كل واحد منهما لأمته وَرُمحه بيده وهو متقلد سيفه ، فقالا لعامر بن الطفيل : يا أعور يا خبيث يا أملخ ، أنت الذي تشترط على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لولا أنك في أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رُمت المنزل حتى ضربت عنقك ، ولكن لا تستبقينّ وكان أشدّ الرجلين عليه أسيد بن الحُضَير ، ( فقال : من هذا ؟ فقالوا : أسيد بن حضير ) ، فقال : لو كان أبوه حيّا لم يفعل بي هذا . ثم قال لأربد : اخرج أنت يا أربد إلى ناحية عَذبة ، وأخرج أنا إلى نجد ، فنجمع الرجال فنلتقي عليه . فخرج أربد حتى إذا كان بالرقم بعث الله سحابة من الصيف فيها صاعقة فأحرقته . قال : وخرج عامر ، حتى إذا كان بواد يقال له الجرير ، أرسل الله عليه الطاعون ، فجعل يصيح : يا آل عامر ، أغدة كغدة البكر تقتلني ، يا آل عامر أغدة كغدة البكر تقتلني ، وموتٌ أيضا في بيت سَلُولية وهي امرأة من قيس ، فذلك قول الله : سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ فقرأ حتى بلغ : يَحْفَظُونَهُ تلك المعقبات من أمر الله ، هذا مقدّم ومؤخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه تلك المعقبات من أمر الله . وقال لهذين : إنّ اللّهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَومٍ حتى يُغَيّروا ما بأنْفُسِهِمْ فقرأ حتى بلغ : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِق فَيُصيبُ بها مَنْ يَشاءُ . . . الآية ، فقرأ حتى بلغ : وَما دُعاءُ الكافرينَ إلاّ فِي ضَلالٍ . قال وقال لبيد في أخيه أربد ، وهو يبكيه :
أخْشَى على أرْبَدَ الحُتُوفَ ولا *** أرْهَبُ نَوْءَ السّماك والأسَدِ
فَجّعَني الرّعْدُ والصّوَاعقُ بال *** فارسِ يومَ الكَرِيَهةِ النّجُدِ
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في تأويل هذه الآية قول بعيد من تأويل الآية مع خلافه أقوال من ذكرنا قوله من أهل التأويل ، وذلك أنه جعل الهاء في قوله : لَهُ مُعَقّباتٌ من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجر له في الآية التي قبلها ولا في التي قبل الأخرى ذكر ، إلا أن يكون أراد أن يردّها على قوله : إنّمَا أنْتَ مُنْذِرٌ وَلكُلّ قَوْمٍ هادٍ لَهُ مُعَقّباتٌ فإن كان أراد ذلك ، فذلك بعيد لما بينهما من الاَيات بغير ذكر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا كان كذلك ، فكونها عائدة على «مَن » التي في قوله : وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ أقرب ، لأنه قبلها والخبر بعدها عنه . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : سواء منكم أيها الناس من أسرّ القول ومن جهر به عند ربكم ، ومن هو مستخف بفسقه وريبته في ظلمة الليل ، وسارب : يذهب ويجيء في ضوء النهار ممتنعا بجنده وحرسه الذين يتعقبونه من أهل طاعة الله أن يحولوا بينه وبين ما يأتي من ذلك ، وأن يقيموا حدّ الله عليه ، وذلك قوله : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ . وقوله : إنّ اللّهَ لا يُغَيّرُ ما بِقَوْمٍ حتى يُغَيّرُوا ما بأنْفُسِهِمْ يقول تعالى ذكره : إن الله لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا واعتداء بعضهم على بعض ، فتحلّ بهم حينئذٍ عقوبته وتغييره . وقوله : وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدّ لَهُ يقول : وإذا أراد الله بهؤلاء الذين يستخفون بالليل ويسربون بالنهار ، لهم جند ومنعة من بين أيديهم ومن خلفهم ، يحفظونهم من أمر الله هلاكا وخزيا في عاجل الدنيا فلا مَرَدّ لَهُ يقول : فلا يقدر على ردّ ذلك عنهم أحد غير الله . يقول تعالى ذكره : وَما لَهُمْ مِنْ دُونِه مِنْ وَالٍ يقول : وما لهؤلاء القوم ، والهاء والميم في «لهم » من ذكر القوم الذين في قوله : وَإذَا أرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءا . مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَالٍ يعني : من وال يليهم ويلي أمرهم وعقوبهم . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول : السوء : الهلكة ، ويقول : كلّ جذام وبرص وعمى وبلاء عظيم فهو سُوء مضموم الأوّل ، وإذا فتح أوله فهو مصدر سؤت ، ومنه قولهم : رجل سوء .
واختلف أهل العربية في معنى قوله : وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْل وَساربٌ بالنّهار فقال بعض نحويي أهل البصرة : معنى قوله : وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليْل ومن هو ظاهر بالليل ، من قولهم : خَفَيْت الشيء : إذا أظهرته ، وكما قال امرؤ القيس :
فإنْ تَكْتُمُوا الدّاءَ لا نَخْفِهِ *** وإنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ
وقال : وقد قرىء أكادُ أخْفِيها بمعنى : أظهرها . وقال في قوله : وَساربٌ بالنهار السارب : هو المتواري ، كأنه وجّهه إلى أنه صار في السّرَب بالنهار مستخفيا . وقال بعض نحويي البصرة والكوفة : إنما معنى ذلك : ومن هو مستخف : أي مستتر بالليل من الاستخفاء ، وسارب بالنهار : وذاهب بالنهار ، من قولهم : سربت الإبل إلى المراعي ، وذلك ذهابها إلى المراعي وخروجها إليها . وقيل : إن السروب بالعشيّ والسروح بالغداة .
واختلفوا أيضا في تأنيث معقبات ، وهي صفة لغير الإناث ، فقال بعض نحويي البصرة : إنما أنثت لكثرة ذلك منها ، نحو : نسابة وعلامة ، ثم ذكّر لأن المعنى مذكر ، فقال : يحفظونه . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما هي ملائكة معقبة ، ثم جمعت مقبات ، فهو جمع جمع ، ثم قيل : يحفظونه ، لأنه للملائكة . وقد تقدّم قولنا في معنى المستخفي بالليل والسارب بالنهار . وأما الذي ذكرناه عن نحويي البصريين في ذلك فقول وإن كان له في كلام العرب وجه خلافٌ لقول أهل التأويل ، وحسبه من الدلالة على فساده خروجه عن قول جميعهم . وأما المعقبات ، فإن التعقيب في كلام العرب العود بعد البدء والرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه ، من قول الله تعالى : وَلّى مُدْبِرا ولَمْ يُعَقّبْ : أي لم يرجع ، وكما قال سلامة بن جندل :
وكَرّنا الخَيْلَ في آثارهم رُجُعا *** كُسّ السّنابِك مِنْ بدْءٍ وتَعقِيب
يعني : في غزو ثان عقبوا وكما قال طرفة :
وَلَقَدْ كُنْتُ عَلَيْكَمْ عاتِبا *** فَعَقَبْتُمْ بِذَنُوبٍ غَيْر مُرّ
يعني بقوله : عقبتم : رجعتم ، وأتاها التأنيث عندنا ، وهي من صفة الحرس الذي يحرسون المستخفي بالليل والسارب بالنهار ، لأنه عُني بها حرس معقبة ، ثم جمعت المعقبة ، فقيل : معقبات ، فذلك جمع جمع المعقب ، والمعقب : واحد المعقبة ، كما قال لبيد :
حتى تهَجّرَ في الرّواح وَهاجَها *** طَلَبَ المُعَقّبِ حَقّهُ المَظْلُومُ
والمعقبات جمعها ، ثم قال : يحفظونه ، فردّ الخبر إلى تذكير الحرس والجند .
وأما قوله : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ فإن أهل العربية اختلفوا في معناه ، فقال بعض نحويي الكوفة معناه : له معقبات من أمر الله يحفظونه ، وليس من أمره إنما هو تقديم وتأخير . قال : ويكون يحفظونه ذلك الحفظ من أمر الله وبإذنه ، كما تقول للرجل : أجبتك من دعائك إياي ، وبدعائك إياي . وقال بعض نحويي البصريين : معنى ذلك : يحفظونه عن أمر الله ، كما قالوا : أطعمني من جوع وعن جوع ، وكساني عن عُرْي ومن عُرْي .
وقد دللنا فيما مضى على أن أولى القول بتأويل ذلك أن يكون قوله : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللّهِ من صفة حرس هذا المستخفي بالليل وهي تحرسه ظنّا منها أنها تدفع عنه أمر الله ، فأخبر تعالى ذكره أن حرسه ذلك لا يغني عنه شيئا إذا جاء أمره ، فقال : وَإذَا أرَادَ اللّهُ بَقَوْمٍ سُوءا فَلا مَرَدّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ .
{ له } لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب . { معقّبات } ملائكة تعتقب في حفظه ، جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها ، أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة ، أو لأن المراد بالمعقبات جماعات . وقرئ " معاقيبُ " جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من حذف إحدى القافين . { من بين يديه ومن خلفه } من جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر . { يحفظونه من أمر الله } من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له ، أو يحفظونه من المضار أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى . وقد قرئ به وقيل من بمعنى الباء . وقيل من أمر الله صفة ثانية ل { معقبات } . وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء الله تعالى . { إن الله لا يغيّر ما بقوم } من العافية والنعمة . { حتى يغيّروا ما بأنفسهم } من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مردّ له } فلا راد له فالعامل في { إذا } ما دل عليه الجواب . { وما لهم من دونه من والٍ } ممن يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء ، وفيه دليل على أن خلاف مراد الله تعالى محال .
اختلف المتأولون في غير عود الضمير من { له } : فقالت فرقة : هو عائد على اسم الله عز وجل المتقدم ذكره ، و «المعقبات » - على هذا الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم ، والحفظة لهم أيضاً - قاله الحسن ، وروى فيه عثمان بن عفان حديثاً{[6921]} عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول مجاهد والنخعي - والضمير على هذا في قوله : { يديه } وما بعده من الضمائر عائد على العبد المذكور في قوله : { من هو مستخف } [ الرعد : 10 ] و { من أمر الله } يحتمل أن يكون صفة ل { معقبات } ويحتمل أن يكون المعنى : يحفظونه من كل ما جرى القدر باندفاعه ، فإذا جاء المقدور الواقع أسلم المرء إليه .
وقال ابن عباس أيضاً{[6922]} : الضمير في { له } عائد على المذكور في قوله { من هو مستخف بالليل } [ الرعد : 10 ] وكذلك باقي الضمائر التي في الآية ، قالوا{[6923]} : و { معقبات } - على هذا - حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه{[6924]} ، قالوا : والآية - على هذا - في الرؤساء الكافرين ، واختار هذا القول الطبري ، وهو قول عكرمة وجماعة ، قال عكرمة : هي المواكب خلفه وأمامه .
قال القاضي أبو محمد : ويصح على التأويل الأول الذي قبل هذا أن يكون الضمير في { له } للعبد المؤمن على معنى جعل الله له .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل عندي أقوى{[6925]} ، لأن غرض الآية إنما هو التنبيه على قدرة الله تعالى ، فذكر استواء { من هو مستخف } [ الرعد : 10 ] ومن هو { سارب } [ الرعد : 10 ] وأن { له معقبات } من الله تحفظه في كل حال ، ثم ذكر أن الله تعالى لا يغير هذه الحالة من الحفظ للعبد حتى يغير ما بنفسه .
قال القاضي أبو محمد : وعلى كلا التأويلين ليست الضمائر لمعين من البشر .
وقال عبد الرحمن بن زيد : الآية في النبي عليه السلام ، ونزلت في حفظ الله له من أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل في القصة التي ستأتي بعد هذا في ذكر الصواعق .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية وإن كانت بألفاظها تنطبق على معنى القصة فيضعف القول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتقدم له ذكر فيعود الضمير في { له } عليه .
و «المعقبات » : الجماعات التي يعقب بعضها بعضاً ، فعلى التأويل الأول هي الملائكة ، وينظر هذا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة المغرب والصبح »{[6926]} ، وعلى التأويل الثاني : هي الحرس والوزعة الذين للملوك .
و { معقبات } جمع معقبة وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى ، والتعقيب - بالجملة - أن تكون حال تعقبها حال أخرى من نوعها ، وقد تكون من غير النوع ، ومنه معاقبة الركوب ومعاقبة الجاني ومعقب عقبة القدر والمعاقبة في الأزواج ، ومنه قول سلامة بن جندل : [ البسيط ]
وكرّنا الخيل في آثارهم رجعاً***كسر السنابك من بدء وتعقيب{[6927]}
وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر : «له معاقيب » قال أبو الفتح : هو تكسير معقب .
قال القاضي أبو محمد : بسكون العين وكسر القاف كمطعم ومطاعيم ، ومقدم ومقاديم .
وهي قراءة أبي البرهسم - فكأن معقباً جمع على معاقبة ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء المحذوفة في معاقبة ، والمعقبة ليست جمع معقب - كما ذكر ذلك الطبري وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات ، وليس الأمر كما ذكر لأن تلك كجمل وجمالات ، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضاربة وضاربات{[6928]} .
وفي قراءة أبيّ بن كعب «من بين يديه ورقيب من خلفه » ، وقرأ ابن عباس : «ورقباء من خلفه » ، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ : «معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله » .
وقوله : { يحفظونه } يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون بمعنى يحرسونه ، ويذبون عنه : فالضمير محمول ليحفظ .
والمعنى الثاني أن يكون بمعنى حفظ الأقوال وتحصيلها ، ففي اللفظة حينئذ حذف مضاف تقديره : يحفظون أعماله ، ويكون هذا حينئذ من باب { واسأل القرية }{[6929]} [ يوسف : 82 ] وهذا قول ابن جريج .
وقوله : { من أمر الله } من جعل { يحفظونه } بمعنى يحرسونه كان معنى قوله : { من أمر الله } يراد به «المعقبات » ، فيكون في الآية تقديم وتأخير ، أي «له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ، ومن خلفه » قال أبو الفتح : ف { من أمر الله } في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع وهي «المعقبات » .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل هذا التأويل في قوله : { من أمر الله } مع التأويل الأول في { يحفظونه } .
ومن تأول الضمير في { له } عائد على العبد ، وجعل «المعقبات » الحرس ، وجعل الآية في رؤساء الكافرين - جعل قوله { من أمر الله } بمعنى يحفظونه بزعمه من قدر الله ، ويدفعونه في ظنه ، عنه ، ذلك لجهالته بالله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وبهذا التأويل جعلها المتأول في الكافرين . قال أبو الفتح : ف { من أمر الله } على هذا في موضع نصب ، كقولك حفظت زيداً من الأسد ، فمن الأسد معمول لحفظت وقال قتادة : معنى { من أمر الله } : بأمر الله ، أي يحفظونه مما أمر الله ، وهذا تحكم في التأويل ، وقال قوم : المعنى الحفظ من أمر الله ، وقد تقدم نحو هذا .
وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وعكرمة وجعفر بن محمد : «يحفظونه بأمر الله »{[6930]} .
ثم أخبر تعالى أنه لا يغير ما بقوم - بأن يعذبهم ويمتحنهم معاقباً - حتى يقع منهم تكسب للمعاصي وتغيير ما أمروا به من طاعة .
وهذا موضع تأمل لأنه يداخل هذا الخبر ما قررت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ، ومنه قوله تعالى : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }{[6931]} [ الأنفال : 25 ] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم - وقد قيل له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ - قال : «نعم إذا كثر الخبث »{[6932]} إلى أشياء كثيرة من هذا .
فقوله تعالى في هذه الآية : { لا يغير ما بقوم حتى يغيروا } معناه حتى يقع تغيير إما منهم وإما من الناظر إليهم أو ممن هو منهم بسبب ، كما غير الله تعالى بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم ، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة .
فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير ، وثم أيضاً مصائب يريد الله بها أجر المصائب فتلك ليست تغييراً .
ثم أخبر تعالى أنه { إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له } ولا حفظ منه ، وهذا جرى في طريقة التنبيه على قدرة الله تعالى وإحاطته ، والسوء والخير بمنزلة واحدة في أنهما إذا أرادهما الله بعبد لم يردا ، لكنه خص السوء بالذكر ليكون في الآية تخويف ، واختلف القراء في - وال - فأماله بعضهم ولم يمله بعضهم ، والوالي الذي يلي أمر الإنسان كالولي هما من الولاية كعليم وعالم من العلم .
{ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله }
جملة { له معقبات } إلى آخرها ، يجوز أن تكون متصلة ب { من } الموصولة من قوله : { من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } [ الرعد : 10 ] . على أن الجملة خبر ثانٍ عن { من أسر القول } وما عطف عليه .
والضمير في { له } والضمير المنصوب في { يحفظونه } ، وضميرا { من بين يديه ومن خلفه } جاءت مفردة لأن كلا منها عائد إلى أحد أصحاب تلك الصلات حيث إن ذكرهم ذكر أقسام من الذين جعلوا سواء في علم الله تعالى ، أي لكل من أسرّ القول ومنْ جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنّهار معقبات يحفظونه من غوائل تلك الأوقات .
ويجوز أن تتصل الجملة ب { من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } [ الرعد : 10 ] ، وإفراد الضمير لمراعاة عطف صلة على صلة دون إعادة الموصول . والمعنى كالوجه الأول .
و ( المعقبات ) جمع معَقّبة بفتح العين وتشديد القاف مكسورة اسم فاعل عَقّبه إذا تبعه . وصيغة التفعيل فيه للمبالغة في العقب . يقال : عقبه إذا اتبعه واشتقاته من العقب يقال فكسر وهو اسم لمؤخّر الرجل فهو فَعِل مشتق من الاسم الجامد لأنّ الّذي يتبع غيره كأنّه يطأ على عقبه ، والمراد : ملائكة معقّبات . والواحد معقب .
وإنما جمع جمع مؤنث بتأويل الجماعات .
والحفظ : المراقبة ، ومنه سمي الرقيب حفيظاً . والمعنى : يراقبون كلّ أحد في أحواله من إسرار وإعلان ، وسكون وحركة ، أي في أحوال ذلك ، قال تعالى : { وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 10 ] .
و { من بين يديه ومن خلفه } مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلها .
وقوله : { من أمر الله } صفة { معقبات } ، أي جماعات من جند الله وأمره ، كقوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] وقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] يعني القرآن .
ويجوز أن يكون الحفظ على الوجه الثاني مراداً به الوقاية والصيانة ، أي يحفظون من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ، أي يقونه أضرار الليل من اللصوص وذوات السموم ، وأضرارَ النّهار نحو الزحام والقتال ، فيكون { من أمر الله } جاراً ومجروراً لغواً متعلقاً ب { يحفظونه } ، أي يقُونه من مخلوقات الله . وهذا منّة على العباد بلطف الله بهم وإلا لكان أدنى شيء يضر بهم . قال تعالى : { الله لطيف بعباده } [ سورة الشورى : 19 ] .
{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } .
جملة معترضة بين الجمل المتقدمة المسوقة للاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى وعلمه بمصنوعاته وبين التذكير بقوة قدرته وبين جملة { هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً } [ سورة الرعد : 12 ] . والمقصود تحذيرهم من الإصرار على الشّرك بتحذيرهم من حلول العقاب في الدنيا في مقابلة استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة ، ذلك أنهم كانوا في نعمة من العيش فبطروا النعمة وقابلوا دعوة الرسول بالهزء وعاملوا المؤمنين بالتّحقير { وقالوا لو نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمل : 11 ] .
فذكرهم الله بنعمته عليهم ونبههم إلى أنّ زوالها لا يكون إلاّ بسبب أعمالهم السيّئة بعد ما أنذرهم ودعاهم .
والتغيير : التبديل بالمُغاير ، فلا جرم أنه تديد لأولي النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغييرها . فما صدقُ ما الموصولة حالة ، والباء للملابسة ، أي حالة ملابسة لقوم ، أي حالة نعمة لأنها محل التحذير من التغيير ، وأما غيرها فتغييره مطلوب . وأطلق التغيير في قوله : { حتى يغيروا } على التسبب فيه على طريقة المجاز العقلي .
وجملة { وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له } تصريح بمفهوم الغاية المسْتفاد من { حتى يغيروا ما بأنفسهم } تأكيداً للتحذير . لأن المقام لكونه مقام خوف ووجل يقتضي التصريح دون التعريض ولا ما يقرب منه ، أي إذا أراد الله أن يغيّر ما بقوم حين يغيرون ما بأنفهسم لا يَردّ إرادته شيء . وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا : سنسترسل على ما نحن فيه فإذا رأينا العذاب آمنا . وهذا كقوله : { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس } [ سورة يونس : 98 ] الآية .
وجملة وما لهم من دونه من وال } زيادة في التحذير من الغرور لئلا يحسبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله .
والوالي : الذي يلي أمر أحد ، أي يشتغل بأمره اشتغال تدبير ونفع ، مشتق من ولي إذا قَرب ، وهو قرب ملابسة ومعالجة .
وقرأ الجمهور { من وال } بتنوين { وال } دون ياء في الوصل والوقف . وقرأه ابن كثير بياء بعد اللام وقفا فقط دون الوصل كما علمته في قوله تعالى { ومن يضلل الله فما له من هاد } في هذه السورة الرعد ( 33 ) .