معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النور مدينة وآياتها أربع وستون أو اثنان وستون آية .

قوله تعالى : { سورة } أي : هذه سورة ، { أنزلناها وفرضناها } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ( فرضناها ) بتشديد الراء ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : أوجبنا ما فيها من الأحكام وألزمناكم العمل بها . وقيل : معناه قدرنا ما فيها من الحدود ، والفرض : التقدير : قال الله عز وجل : { فنصف ما فرضتم } أي : قدرتم ، ودليل التخفيف قوله عز وجل : { إن الذي فرض عليك القرآن } وأما التشديد فمعناه : وفصلناه وبيناه . وقيل : هو بمعنى الفرض الذي هو بمعنى الإيجاب أيضاً ، والتشديد للتكثير لكثرة ما فيها من الفرائض ، أي : أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة . { وأنزلنا فيها آيات بينات } واضحات ، { لعلكم تذكرون } تتعظون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة النور

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة النور من السور المدنية ، وعدد آياتها أربع وستون آية ، وكان نزولها بعد سورة النصر .

وقد اشتملت هذه السورة الكريمة ، على أحكام العفاف والستر . وهما قوام المجتمع الصالح . وبدونها تنحط المجتمعات . ويصير أمرها فرطا . ويصبح الفرد إلى الحيوان الأعجم ، أقرب منه إلى الإنسان العاقل .

قال الآلوسي : [ رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " علموا رجالكم سورة المائدة ، وعلموا نساءكم سورة النور " .

وعن حارثة بن مضرب قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب ، أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور " ( {[1]} ) .

2- ونبدأ هذه السورة الكريمة ببدء فريد ، تقرر فيه وجوب الانقياد لما فيها من أحكام وآداب فتقول : [ سورة أنزلناها وفرضناها ، وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ] .

ثم تقبح فاحشة الزنا تقبيحا يحمل النفوس على النفور منها ، وعلى نبذ مرتكبيها ، وعلى تنفيذ حدود الله –تعالى- فيهم بدون شفقة أو رأفة .

قال –تعالى- : [ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ] .

3- ثم تبين السورة الكريمة بعد ذلك ، حكم الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة ، وحكم الذين يرمون أزواجهم بذلك ، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم .

قال –تعالى- : [ والذين يرمون المحصنات ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الفاسقون* إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم* والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ] .

4- ثم ذكر –سبحانه- في ست عشرة آية قصة الإفك ، على الصديقة بنت الصديق ، ومن بين ما اشتملت عليه هذه القصة : تنبيه المؤمنين إلى العذاب العظيم الذي أعده الله –تعالى- لمن أشاع هذا الإفك ، وحض المؤمنين على التثبت من صحة الأخبار ، وعلى وجوب حسن الظن بالمؤمنين ، وعلى تحذيرهم من اتباع خطوات الشيطان .

ثم ختمت القصة ببراءة السيدة عائشة من كل ما اتهمت به ، قال –تعالى- : [ أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ] .

5- وبعد أن أفاضت السورة الكريمة في بيان قبح فاحشة الزنا ، وفي عقوبة من يقذف المحصنات الغافلات . . أتبعت ذلك بحديث مستفيض ، عن آداب الاستئذان ، وعن وجوب غض البصر بالنسبة للرجال والنساء على السواء ، وعن تعليم الناس الآداب القويمة ، والأخلاق المستقيمة ، حتى يحيا المجتمع المسلم حياة يسودها الطهر والعفاف والنقاء .

قال –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ، حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ] .

وقال –سبحانه- : [ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن . . . ] .

6- ثم حببت السورة الكريمة إلى المؤمنين والمؤمنات الزواج من أهل الدين والصلاح ، دون أن يمنعهم من ذلك الفقر أو قلة ذات اليد ، فإنهم [ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ، والله واسع عليم ] وعلى الذين لم يتيسر لهم وسائل الزواج ، أن يعتصموا بالعفاف ، حتى يغنيهم الله –تعالى- من فضله .

قال –تعالى- : [ وأنكحوا الأيامى منكم ] –أي زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر [ والصالحين من عبادكم وإمائكم ، إن يكونوا فقراء ، يغنهم الله من فضله ، والله واسع عليم ، وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ] .

7- وبعد أن ساقت السورة الكريمة تلك التوجيهات السامية ، التي من شأنها أن تسلح الأفراد والجماعات ، بسلاح الطهر والعفاف والتستر والآداب الحميدة . . أتبعت ذلك ببيان أن الله –تعالى- هو نور العالم كله علويه وسفليه ، وهو منوره بآياته التكوينية والتنزيلية الدالة على وحدانيته وقدرته ، وأن أشرف البيوت في الأرض ، هي بيوته التي يذكر فيها اسمه والتي يسبح له فيها بالغدو والآصال [ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة . يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار . ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ، والله يرزق من يشاء بغير حساب ] .

تلك هي عاقبة المؤمنين الصادقين . الذين " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " أما الكافرون فأعمالهم " كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه ، والله سريع الحساب ] .

8- ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- في هذا الكون ، وأن المتأمل في هذا الوجود ، يرى مظاهر قدرته –سبحانه- ظاهرة في هذا السحاب الذي يتحول إلى مطر لا غنى للناس عنه ، وفي تقلب الليل والنهار . وفي خلق الدواب على أشكال مختلفة .

قال –تعالى- : [ يقلب الله الليل والنهار ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار* والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه . ومنهم من يمشي على رجليه ، ومنهم من يمشي على أربع ، يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ] .

9- ثم كشفت السورة الكريمة للمؤمنين عن جانب من رذائل المنافقين ، لكي يحذروهم . فقال –تعالى- : [ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ، ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين* وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ، إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين* أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا ، أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ، بل أولئك هم الظالمون ] .

10- وبعد هذا التوبيخ للمنافقين على سلوكهم الذميم ، وعلى نكوصهم عن حكم الله –تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم جاء وعد الله –تعالى- للمؤمنين ، بالاستخلاف في الأرض ، وبالتمكين في الدين ، وبتبديل خوفهم أمنا ، فقال –تعالى- : [ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ، ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم . وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعيدونني لا يشركون بي شيئا ، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ] .

11- ثم عادت السورة مرة أخرى إلى الحديث عن آداب الاستئذان ، فأمرت المؤمنين أن يعودوا مماليكهم وصبيانهم الذين لم يبلغوا الحلم ، على الاستئذان في الدخول عليهم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر ، وعند وقت الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء ، فإن هذه الأوقات قد تكون المرأة أو الرجل فيها ، بحالة لا يصح الاطلاع عليها . .

قال –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات ، من قبل صلاة الفجر ، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة . ومن بعد صلاة العشاء ، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ، طوافون عليكم بعضكم على بعض ، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ] .

12- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ببيان صفات المؤمنين الصادقين ، ويحضهم على تكريم رسولهم صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره . وببيان أن هذا الكون كله ملك لله –تعالى- وتحت قبضته وعلمه ، فقال –سبحانه- : [ ألا إن لله ما في السموات والأرض ، قد يعلم ما أنتم عليه ، ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا ، والله بكل شيء عليم ] .

13- وبعد : فهذا عرض إجمالي للمقاصد التي اشتملت عليها سورة النور ، ومنها نرى أن السورة الكريمة زاخرة بالأحكام الشرعية ، وبالآداب الإسلامية وبالتربية الدينية وبالوسائل الوقائية التي من شأنها أن تغرس الأخلاق الكريمة في نفوس الأفراد والجماعات . وأن تجعلهم يرغبون في اعتناق الفضيلة . وينفرون من مقاربة الرذيلة . ويسعدون في دينهم ودنياهم .

وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .

القاهرة – مدينة نصر

15 من شهر ربيع الأول 1405ه

8 من ديسمبر 1984م

المؤلف

د . محمد سيد طنطاوي .

افتتحت سورة النور بافتتاح لم تشترك معها فيه سورة أخرى من سور القرآن الكريم .

وقوله - سبحانه - : { سُورَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هذه سورة .

والسورة القرآنية : هى مجموعة من الآيات المسرودة ، لها مبدأ ولها نهاية ، وجمعها : سُوَر .

وكلمة سورة مأخوذة من سور المدينة ، وكأن السورة القرآنية سميت بهذا الاسم لإحاطتها بآياتها إحاطة السور بما يكون بداخله .

أو أنها فى الأصل تطلق على المنزلة السامية ، والسورة القرآنية سميت بذلك لرفعتها وعلو شأنها .

قال القرطبى : والسورة فى اللغة : اسم للمنزلة الشريفة ، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة . قال النابغة :

ألم تر أن الله أعطاك سُورَة . . . ترى كلّ مَلْكٍ دونَها يتذبذب

وقوله - تعالى - : { وَفَرَضْنَاهَا } من الفرض بمعنى القطع . وأصله قطع الشىء الصُّلْب والتأثير فيه .

والمراد به هنا : تنفيذ أحكام الله - تعالى - على أتم وجه وأكمله .

والمعنى هذه سورة قرآنية . أنزلناها عليك - أيها الرسول الكريم - ، وأوجبنا ما فيها من أحكام ، وآداب وتشريعات ، إيجابا قطيعا ، وأنزلنا فيها آيات بينات واضحات الدلالة على وحدانيتنا ، وقدرتنا ، وعلى صحة الأحكام التى وردت فيها ، لتتذكرها وتعتبروا بها وتعتقدوا صحتها وتنفذوا ما اشتملت عليه من أمر أو نهى .

وجمع - سبحانه - بين الإنزال والفرضية فقال : { أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } لبيان أن الغرض منها ليس مجرد الإنزال وإنما الإنزال المصحوب بوجوب تنفيذ الأحكام والآداب التى اشتملت عليها ، والتى أنزلت من أجلها .

ومعلوم أن إنزال السورة كلها . يستلزم إنزال هذه الآيات منها فيكون التكرار فى قوله - تعالى - { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } لكمال العناية بشأنها ، كما هى الحال فى ذكر بالخاص بعد العام .

و " لعل " فى قوله - تعالى - { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } للتعليل . أى : لعلكم تتذكرون ما فيها من آيات دالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وعلى سمو تشريعاتنا ، فيؤدى بكم هذا التذكر إلى عبادتنا وطاعتنا .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النور مدنية وآياتها أربع وستون

هذه سورة النور . . يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله : ( الله نور السماوات والأرض ) ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ؛ ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة . وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية ، تنير القلب ، وتنير الحياة ، ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح ، وإشراق في القلوب ، وشفافية في الضمائر ، مستمدة كلها من ذلك النور الكبير .

وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف ، ومن آدابوأخلاق : ( سورة أنزلناها وفرضناها ، وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ) . . فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة ؛ ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية ، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية . .

والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود . وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة ، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة . والهدف واحد في الشدة واللين . هو تربية الضمائر ، واستجاشة المشاعر ؛ ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة ، حتى تشف وترف ، وتتصل بنور الله . . وتتداخل الآداب النفسية الفردية ، وآداب البيت والأسرة ، وآداب الجماعة والقيادة . بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله ، متصلة كلها بنور واحد هو نور الله . وهي في صميمها نور وشفافية ، وإشراق وطهارة . تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض . نور الله الذي أشرقت به الظلمات . في السماوات والأرض ، والقلوب والضمائر ، والنفوس والأرواح .

ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط :

الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به ؛ ويليه بيان حد الزنا ، وتفظيع هذه الفعلة ، وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة ، فلا هي منهم ولا هم منها . ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه ؛ واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة . ثم حديث الإفك وقصته . . وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات ، ومشاكلة الطيبين للطيبات . وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء .

ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة ، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية . فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها ، والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم . والحض على إنكاح الأيامي . والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء . . وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور ، ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية ، وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين ، وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية .

والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة ، فيربطها بنور الله . ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله . . وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب ؛ أو كظلمات بعضها فوق بعض . ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق : في تسبيح الخلائق كلها لله . وفي إزجاء السحاب . وفي تقليب الليل والنهار . وفي خلق كل دابة من ماء ، ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها ، مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار . .

والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في الطاعة والتحاكم . ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم . ويعدهم ، على هذا ، الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين ، والنصر على الكافرين .

ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء . وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة ، مع رئيسها ومربيها - رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض ، وعلمه بواقع الناس ، وما تنطوي عليه حناياهم ، ورجعتهم إليه ، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم . وهو بكل شيء عليم .

والآن نأخذ في التفصيل .

( سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ) . .

مطلع فريد في القرآن كله . الجديد فيه كلمة( فرضناها )والمقصود بها - فيما نعلم - توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة ، والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات ، فتذكرهم بها تلك الآيات البينات ، وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ لّعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ } .

قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : سُورَةٌ أنْزَلْناها وهذه السورة أنزلناها . وإنما قلنا معنى ذلك كذلك ، لأن العرب لا تكاد تبتدىء بالنكرات قبل أخبارها إذا لم تكن جوابا ، لأنها توصل كما يوصل «الذي » ، ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة ، فيستقبح الابتداء بها قبل الخبر إذا لم تكن موصولة ، إذ كان يصير خبرها إذا ابتدىء بها كالصلة لها ، ويصير السامع خبرها كالمتوقع خبرها بعد إذ كان الخبر عنها بعدها كالصلة لها . وإذا ابتدىء بالخبر عنها قبلها ، لم يدخل الشك على سامع الكلام في مراد المتكلم . وقد بيّنا فيما مضى قبلُ أن السورة وصف لما ارتفع بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله : وَفَرَضْناها فإن القرّاء اختلفت في قراءته ، فقرأه بعض قرّاء الحجاز والبصرة : «وَفَرّضْناها » ويتأوّلونه : وفصّلناها ونزّلنا فيها فرائض مختلفة . وكذلك كان مجاهد يقرؤه ويتأوّله .

حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا ابن مهديّ ، عن عبد الوارث بن سعيد ، عن حميد ، عن مجاهد ، أنه كان يقرؤها : «وَفَرّضْناها » يعني بالتشديد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : «وَفَرّضْناها » قال : الأمر بالحلال ، والنهى عن الحرام .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

وقد يحتمل ذلك إذا قرىء بالتشديد وجها غير الذي ذكرنا عن مجاهد ، وهو أن يوجه إلى أن معناه : وفرضناها عليكم وعلى من بعدكم من الناس إلى قيام الساعة . وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم : وَفَرَضْناها بتخفيف الراء ، بمعنى : أوجبنا ما فيها من الأحكام عليكم وألزمناكموه وبيّنا ذلك لكم .

والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وذلك أن الله قد فصلها ، وأنزل فيها ضروبا من الأحكام ، وأمر فيها ونهى ، وفرض على عباده فيها فرائض ، ففيها المعنيان كلاهما : التفريض ، والفرض فلذلك قلنا بأية القراءتين قرأ القارىء فمصيب الصواب . ذكر من تأوّل ذلك بمعنى الفَرْض والبيان من أهل التأويل :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَفَرَضْناها يقول : بيناها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سُورَةٌ أنْزَلْناها وَفَرَضْناها قال : فرضناها لهذا الذي يتلوها مما فرض فيها . وقرأ فيها : آياتٍ بَيّناتٍ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ .

وقوله : وأنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيّناتٍ يقول تعالى ذكره : وأنزلنا في هذه السورة علامات ودلالات على الحقّ بينات ، يعني واضحات لمن تأملها وفكر فيها بعقل أنها من عند الله ، فإنها الحقّ المبين ، وإنها تهدي إلى الصراط المستقيم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج : وأنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيّناتٍ قال : الحلال والحرام والحدود . لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ يقول : لتتذكروا بهذه الاَيات البينات التي أنزلناها .